من المتحف القومي إلى مكتبة الترابي: كيف يُعاد تشكيل السودان بممحاة الإسلاميين؟
تاريخ النشر: 3rd, April 2025 GMT
التاريخ ليس ما حدث، بل ما يُقال إنه حدث. هو ذلك النص الذي يُعاد كتابته في كل مرة تستولي فيها سلطة جديدة على مكامن القوة. وحين يخشى الطغاة ماضي الأمة، لا يواجهونه بالنقاش، بل بالمحو، بالحرق، بالطمس، بالسرقة.
فالأمم التي يُراد لها أن تكون قطيعًا لا تحتاج إلى ذاكرة، لا تحتاج إلى شواهد على أنها وُجدت قبل أن يُعاد تعريفها من جديد.
نهب المتحف القومي في أبريل 2023 لم يكن مجرد حدثٍ عابرٍ في فوضى الحرب، بل كان امتدادًا طبيعيًا لمشروع بدأ منذ أن قررت الجبهة الإسلامية أن السودان يبدأ بها، وينتهي عندها.
حين اقتحمت قوات الدعم السريع قاعات المتحف، لم تكن تبحث عن الذهب وحده، بل عن فرصة أخرى لمحو الشواهد، لدفن الماضي تحت ركام الخراب. كانوا يدركون أن كوش وعلوة والمغرة ليست مجرد أسماء في كتب التاريخ، بل هويات قد تصطدم بالسردية التي تريد السلطة فرضها.
وكما قال هاينريش هاينه: “حين يحرقون الكتب، فإنهم في الواقع يخشون الفكرة التي تحملها.” وحين ينهبون المتاحف، فإنهم في الحقيقة يحاولون سرقة التاريخ قبل أن يستعيده الناس.
لكن القصة لم تتوقف عند السرقة. العبث يبلغ ذروته حين يتحول التخريب إلى معجزة، وحين يصبح النهب إعادة تعريفٍ للهوية الوطنية.
أحد ضباط الجيش، في نوبة من الانتشاء الأيديولوجي، خرج علينا ليعلن أن الله قد عوّض السودانيين عن فقدان المتحف القومي بـ**“حفظ مكتبة الشيخ الترابي”**! وكأن هذا البلد محكومٌ بمقايضةٍ أبدية؛ كلما سقط جزء من ماضيه، عُوِّض عنه بترسيخ سردية الإسلاميين.
وكأن هذا القدر اللعين لا يريد لنا أن نرى ترهاقا وبعنخي وأبادماك، بل أن ننحني أمام كتب الترابي وعصارة فكره، التي لم تنتج سوى دولة بلا ذاكرة، وشعب بلا ماضٍ، وسودانٍ يُعاد تصميمه في قوالب لا تشبه أهله.
لم يكن هذا الضابط يعبّر عن رأيه الشخصي، بل كان يُعيد إنتاج العقيدة الرسمية التي ترى أن كل ما سبق “دولة الشريعة” لا يستحق سوى النسيان، وأن السودان لم يكن شيئًا قبل أن تضع الجبهة الإسلامية يدها عليه.
هذه ليست مجرد محاولة للسيطرة على الحاضر، بل كما قال جورج أورويل: “من يتحكم في الماضي، يتحكم في المستقبل. ومن يتحكم في الحاضر، يتحكم في الماضي.”
الجبهة الإسلامية لم تكن تسرق الذهب فحسب، بل كانت تصوغ سردية جديدة: السودان ليس كوشيًا، ولا نوبياً، ولا مسيحيًا، ولا أفريقيًا، بل كيانًا وُلد يوم أن قررت هي ذلك. تاريخ هذا البلد يبدأ حيث تبدأ هي، وكل ما سبقها مجرد تمهيدٍ لا يستحق الذكر.
هذا ليس سلوكًا خاصًا بالإسلاميين وحدهم، بل هو منطق كل أنظمة الطغيان؛ من النازية التي أعادت كتابة التاريخ الألماني لتصنع سردية التفوق العرقي، إلى السوفييت الذين أزالوا رفاق ستالين من الصور الرسمية بعد أن أزالوهم من الحياة، إلى داعش التي هدمت آثار نينوى وبابل، لأن وجودها يهدد تصورها الضيق عن العالم.
كل هؤلاء أدركوا أن السيطرة الكاملة لا تتحقق فقط بالسلاح، بل بالذاكرة، وأن الشعوب التي تعرف ماضيها قد ترفض مستقبل الطغاة.
لكن التاريخ ليس بيتًا يُمكن إحراقه بالكامل، ولا كتابًا يُمكن تمزيقه ثم إملاء نسخة جديدة منه دون مقاومة. فالشعوب التي يُفرض عليها النسيان تُعيد اكتشاف نفسها بطرق لا يتوقعها الطغاة.
الذاكرة ليست مجرد صناديق زجاجية في المتاحف، بل هي الحكايات التي تنتقل من جيل إلى آخر، هي الشعر الذي ينجو من مقص الرقابة، هي الفن الذي يعيد رسم الوجوه المحذوفة من التاريخ، هي الأسئلة التي لا تموت مهما حاولت السلطة إسكاتها.
وكما قال والتر بنيامين: “حتى الموتى لن يكونوا في أمان إذا انتصر العدو.”
لكن العدو لا ينتصر إلى الأبد.
قد ينهبون المتاحف، وقد يحرقون التماثيل، وقد يمحون الأسماء من الكتب، لكن ذاكرة السودان ليست شيئًا يمكن محوه بقرارٍ إداري أو بنهبٍ مسلح.
هذه البلاد أقدم من السلطة، وأعمق من أن تختصرها حقبة، وأقوى من أن تُمحى بسردية ملفقة. والسؤال الذي يبقى: هل يستطيع السودانيون استعادة تاريخهم قبل أن يُعاد فرض تاريخٍ جديدٍ عليهم؟
Sent from Yahoo Mail for iPhone
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الجبهة الإسلامیة یتحکم فی الذی ی قبل أن
إقرأ أيضاً:
تدمر السورية.. ندبات على جبين التاريخ
بآثارها العريقة، تروي مدينة تدمر الأثرية شرق محافظة حمص حكاية حضارة سطعت في الصحراء السورية، إلا أنها تحمل ندوبا خلفها تنظيم "داعش" الإرهابي ونظام الأسد المخلوع.
وأدرجت تدمر -عروس الصحراء السورية- ضمن قائمة التراث العالمي عام 1980 من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو".
لكن آثارها تعرضت للتدمير في عام 2015 على يد تنظيم "داعش"، الذي دمر كلا من معبد "بعل" الشهير وبعلشمين، وقوس النصر، وبعض المقابر الملكية بشكل كامل.
ولم تقتصر جريمة "داعش" على الآثار فحسب، بل قام التنظيم أيضا بإعدام حارسها وأمينها، عالم الآثار خالد الأسعد (1934-2015).
كما تعرضت تدمر للقصف برا وجوا من قبل نظام بشار الأسد المخلوع من أجل السيطرة على المدينة التاريخية، مما أدى إلى اقتراب هذا الإرث الثقافي الإنساني من حافة الزوال.
تدمر، التي تضم معابد تعود إلى القرنين الأول والثاني الميلادي، كانت تعد قبل اندلاع الثورة في سوريا عام 2011 من أهم المقاصد السياحية في البلاد.
وبعد سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول، وتشكيل حكومة جديدة في سوريا، بدأ المواطنون اليوم، وبعد 14 عاما من الانقطاع، بزيارة تدمر المدمرة، يعتريهم الحزن لما حل بها، ويحدوهم الأمل في أن تستعيد المدينة مجدها القديم.
إعلانووصفت المديرة السابقة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" إيرينا بوكوفا في بيان سابق الدمار الذي طال المدينة بأنه "جريمة حرب، وخسارة كبيرة للشعب السوري وللإنسانية جمعاء".
وأشار زهير سليم، عضو اللجنة المدنية في منطقة تدمر وأحد رواد عملية إعادة الترميم، في حديث للأناضول إلى أن اجتياح "داعش" للمنطقة وقصف النظام المخلوع أجبرا السكان على النزوح.
وأوضح سليم أن المدينة الأثرية، التي تعد إرثا تاريخيا، تعرضت لأضرار كبيرة خلال سيطرة تنظيم "داعش" التي استمرت نحو 9 أشهر.
وبيّن أن هجمات قوات النظام وروسيا جاءت لتعمق حجم الدمار أكثر، قائلا: "بعد انسحاب داعش، تعرضت المدينة الأثرية للنهب من قبل قوات النظام".
وإلى جانب تدمير الآثار التاريخية، تعرضت المنازل والمتاجر والأسواق والقطع الأثرية الموجودة في المتحف للسرقة، والمقابر الأرضية للنهب، كما أجريت عمليات تنقيب عن الآثار بطريقة عشوائية وغير قانونية، وفق سليم.
وخلال السيطرة الثانية لـ"داعش" على تدمر، أوضح سليم أن التنظيم فجر معالم المدينة التاريخية مثل قوس النصر والمسرح الروماني ومعابد بل وبعلشمين بالمتفجرات.
وأشار سليم إلى أن أبرز ما يحول دون عودة السكان هو الدمار الكبير في المنطقة، وفي مقدمته البنية التحتية التي خلفها النظام وراءه.
وقال: "خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي غير كافية، فمن بين 84 محولا كهربائيا، لا يعمل سوى 4 فقط".
وتحدث عن وجود بعض التقدم المحدود في قطاع التعليم، إلا أن مشاكل الخدمات الطبية ما زالت قائمة، فنقص المعدات الطبية وقلة الأطباء يحولان دون توفير الخدمات الصحية الأساسية.
وتدمر الأثرية (بالميرا باللاتينية)، الواقعة وسط مدينة تدمر الحديثة، هي إحدى أهم المدن الأثرية عالميا، وورد اسمها في ألواح طينية تعود إلى القرن الـ18 قبل الميلاد، سكنها الكنعانيون والعموريون والآراميون، وتتميز بأن معالم الحضارة القديمة بها شبه متكاملة.
وتتوزع الأطلال فيها على مساحة تتجاوز 10 كيلومترات مربعة، ويحيط بها سور دفاعي من الحجر المنحوت، وآخر للجمارك من الحجر واللبن، وتتوزع بيوتها حسب المخطط الشطرنجي.
وكان "داعش" قد سيطر على تدمر أواخر مايو/أيار 2015 بعد انسحاب قوات النظام السوري منها، قبل أن يستعيد النظام السيطرة عليها بدعم روسي في مارس/آذار 2016.
إعلانوأعاد تنظيم "داعش" في ديسمبر/كانون الأول 2016 سيطرته على مدينة تدمر التاريخية بعد معارك مع قوات النظام السوري.
وفي 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، بسطت فصائل سورية سيطرتها على دمشق بعد مدن أخرى، منهية 61 عاما من حكم حزب البعث الدموي، و53 سنة من حكم عائلة الأسد.