البحر والمدينة: ثنائية القسوة والخلاص عند حنا مينا
تاريخ النشر: 5th, April 2025 GMT
في أدب حنا مينا، البحر ليس مجرد خلفية مكانية، بل كائنٌ حي، قوةٌ طاغية، وخصمٌ أبديّ يتحدّى الإنسان بلا هوادة. ليس زرقةً هادئةً، بل امتدادٌ لقدَرٍ لا يرحم، ولمصائر تتلاطم كما الأمواج العاتية. البحر عنده ليس مجرد طبيعة، بل اختبارٌ للإنسان، ساحةٌ للصراع بين الإرادة البشرية والوجود القاسي.
في كل موجةٍ متكسّرة، في كل ريحٍ تعصف بسفينةٍ منهكة، يعيد القدر كتابة المصير، حيث لا يمكن فصل معركة الإنسان ضد البحر عن معركته ضد الاستغلال والقهر.
لم يكن حنا مينا كاتبًا معزولًا عن عصره، بل كان ابنًا لزمنٍ ملتهب، رأى الفقر ممتزجًا بالقهر السياسي، وعاش الاشتراكية لا كنظريةٍ مجرّدة، بل كضرورةٍ ملحّة لمن سُحقوا تحت عجلة النظام الطبقي. كان يرى الأدب فعل مقاومة، وليس ترفًا فكريًا، بل سلاحًا يواجه به الإنسان مصيره، كما يواجه البحّار أمواج المحيط الهائج.
ولهذا لم تكن العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي في رواياته مجرد مواضيع عابرة، بل روحًا تسري في شخصياته، حيث يتحول الفقراء والعمال والمهمشون إلى رموزٍ لصراعٍ أوسع، في مواجهة عالمٍ يفرض عليهم الفقر كما لو كان قَدَرًا محتومًا. في هذا السياق، يتجلّى تأثير الفكر الاشتراكي في أعماله ليس كموقفٍ سياسيّ مباشر، بل كرؤيةٍ فلسفية للوجود، حيث يصبح النضال الاجتماعي ضرورةً حتمية لا تقتصر على الأيديولوجيات، بل تتجذر في التجربة اليومية للطبقات المسحوقة، من الصيادين والبحارة إلى الفلاحين وعمال الموانئ.
هذه الفئات، التي تشكل العمود الفقري لعوالمه الروائية، هي ذاتها التي تكتب تاريخها بعرقها وصمودها، رغم أنها لا تملك حق تسجيله رسميًا في كتب المنتصرين.
وسط هذا العالم القاسي، تتجلى المرأة في أدب حنا مينا ليست كضحيةٍ فقط، بل كقوةٍ فاعلة في ملحمة الصراع. هي الحبيبة التي تشارك الرجل أعباء الحياة، والأم التي تحمل أوزار الفقر، والمتمردة التي ترفض الانحناء. شخصياته النسائية، رغم معاناتها، تحمل قلقًا وجوديًا عميقًا، نداءً داخليًا لا يرضى بالخضوع، وكأنها صورةٌ أخرى للبحر ذاته: قاسيةٌ، عنيدة، عصيّةٌ على الكسر.
لم تكن المرأة في أعماله مجرد تابع للرجل، بل كانت شريكةً في الوجود، في الألم، وفي الثورة على القهر. تتجسد عبرها صورة مزدوجة للمعاناة والقوة في آنٍ واحد. يضعها الكاتب في مواجهة القدر ذاته الذي يواجهه الرجل، لكنه يمنحها بُعدًا إضافيًا: مقاومة أعباء المجتمع الذي يفرض عليها قيودًا مزدوجة، سواء عبر الفقر أو التقاليد أو القوانين الجائرة.
ومن خلال هذه الشخصيات، يعيد تشكيل صورة المرأة ليس كرمزٍ سلبي للاستسلام، بل كفاعلٍ تاريخي قادر على صنع مصيره، تمامًا كما البحارة الذين يقفون في وجه العاصفة رغم معرفتهم بالمخاطر المحدقة بهم.
لكن الاشتراكية التي آمن بها لم تكن شعارًا خطابيًا في رواياته، بل نسيجًا متغلغلًا في العوالم السردية، تتجسد في شخصيات ترى العمل قيمةً عليا، وفي ثنائيات الغني والفقير، القوي والضعيف.
في البحر، لا تسود الألقاب، بل القدرة على الصمود. أما على اليابسة، فالقوانين تُصاغ لخدمة أصحاب النفوذ، والتفاوت الطبقي يُحدّد المصير قبل أن تبدأ المعركة. البحر، رغم قسوته، أكثر عدلًا من المجتمع، حيث لا يمنح امتيازاته إلا لمن يستحقها، بلا محاباةٍ أو استغلال.
هذه المقارنة بين البحر والمدينة ليست سطحية، بل تحمل في عمقها فلسفةً خاصة، حيث يصبح البحر رمزًا للعدالة النقية التي لا تنحاز إلا للكفاءة، بينما تتحول المدينة إلى متاهةٍ من الطبقية والفساد والقوانين التي تحكمها المصالح الضيقة.
وفي هذا المفهوم، يمكن فهم البحر كبديلٍ عن المدينة، كمكانٍ يحمل في طياته إمكانية النجاة رغم المخاطر، مقابل استحالة النجاة داخل المدن التي تلتهم أرواح المقهورين دون أن تمنحهم حتى شرف المواجهة.
الهجرة والنفي في أدب حنا مينا ليسا مجرد انتقالٍ مكاني، بل تجربةٌ وجودية تشبه اغتراب الإنسان عن نفسه. شخصياته المهاجرة لا تبحث فقط عن وطنٍ بديل، بل عن معنى، عن حياةٍ لا تفرض عليها الهزيمة مسبقًا. إنها رحلةٌ دائرية، تبدأ بالقهر وتنتهي عنده، وكأن كل الطرق، مهما تفرقت، تعيد الإنسان إلى نقطة البداية: إلى البحر، إلى الريح التي تعصف بالأشرعة، إلى المصير الذي يحاول الهروب منه، لكنه يطارده كظله.
ليست الهجرة مجرد فعلٍ جغرافي في أدب حنا مينا، بل هي قدرٌ آخر يُفرض على الإنسان حين تصبح الأرض مكانًا طاردًا، حين تتحول المدن إلى جدرانٍ باردة تمنع الحلم بالنجاة.
لكن المهاجر في رواياته لا يجد وطنًا جديدًا، بل يكتشف أن الاغتراب حالةٌ داخلية لا يمكن تجاوزها بمجرد تغيير المكان. هذه الرؤية تجعل من شخصياته رموزًا للإنسان الممزّق، الباحث عن الخلاص في أماكن لا تقدّم سوى أوهام الخلاص.
أسلوبه السردي يلتقط هذه العوالم بوضوحٍ أخّاذ، حيث يكتب بلغةٍ تحمل قسوة البحر وعذوبته معًا. لا يلجأ إلى تجميل المأساة، بل يتركها تتكشف دون أقنعة. ثمة شيءٌ فطريّ في لغته، كأنها امتدادٌ لصوت العمّال والصيادين، مملوءةٌ بموسيقى داخلية تنبع من صدى الواقع ذاته، لا من زخارف البلاغة.
كل جملةٍ لديه تحمل أثر العرق والملح والرمل، كل حوارٍ يكشف عن مرارةٍ لا تحتاج إلى تفسير. أسلوبه لا يعتمد على البهرجة اللغوية، بل على الدقة في التقاط التفاصيل، على البساطة التي تخفي وراءها عوالم معقدة، على الاقتصاد في الكلمات الذي يُنتج تأثيرًا عميقًا دون حاجةٍ إلى الإطالة أو الخطابة.
عالم حنا مينا هو عالم الذين لا يملكون ترف الاختيار، لكنه أيضًا عالم الذين يرفضون الاستسلام، الذين يقفون في وجه البحر رغم يقينهم بأنهم قد يُهزمون، لأن الهزيمة الحقيقية ليست في الغرق، بل في التوقف عن المجابهة.
في هذا الإيمان العميق بالنضال كقَدَرٍ محتوم، يكمن سرّ خلود أدبه. لهذا لم يكن حنا مينا كاتبًا عابرًا في تاريخ الرواية العربية، بل كان شاهدًا على عصره، وحاملًا لآلام المقهورين، وناقلًا لصوتهم الذي لم يكن ليسمع لولا وجود أدبٍ يعيد إليهم حقهم في الحكي، وحقهم في الحلم، وحقهم في النضال حتى آخر رمق.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الذی ی
إقرأ أيضاً:
حجاج وعبد الغني وباباكستا وكولونيا يشاركون في ندوة "الإسكندر بين الأسطورة والمدينة"
عقدت مكتبة الاسكندرية جلسة نقاشية بعنوان "الإسكندر بين الأسطورة والمدينة" أدارتها الدكتورة منى حجاج، رئيسة الجمعية الأثرية بالإسكندرية، وتحدث فيها كل من الدكتور محمد عبد الغني، أستاذ التاريخ والحضارة اليونانية والرومانية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، وكاليوبي باباكستا، مديرة معهد البحوث الهيلينية لحضارة الإسكندرية، و صوفيا أفغيرينو كولونيا، أستاذة فخرية، بقسم التخطيط الحضري والإقليمي في كلية الهندسة المعمارية الجامعة التقنية الوطنية في أثينا (NTUA).
وأوضحت الدكتورة منى حجاج، أن إنجازات الإسكندر غير المسبوقة أسهمت في تحويله من شخصية تاريخية إلى رمز شبه أسطوري ما يطرح تساؤلًا صعبًا حول الفصل بين الحقيقة والخيال، مشيرة إلى أن الإسكندرية أبرز المدن التي أسسها تجسد هذا التداخل بوضوح إذ جمعت بين الرؤية السياسية والاقتصادية والعمرانية، وبين الأساطير التي نسجت حول نشأتها ودورها الحضاري لتصبح مركزًا للمعرفة ومنارة للحضارة الهلنستية.
وتناول الدكتور محمد عبد الغني خلفية تاريخية عن علاقة الإسكندر الأكبر بمصر متسائلًا عما إذا كان يمكن اعتباره منقذًا مؤمنًا أم سياسيًا محنكًا، واستعرض جذور الصراع الطويل بين الإغريق والفرس وتأثيره في حملات الإسكندر موضحًا أن كراهية المصريين للحكم الفارسي بسبب اضطهاده الديني والسياسي سهّلت دخول الإسكندر إلى مصر دون مقاومة عام 332 قبل الميلاد.
وقالت كاليوبي باباكستا، إن الإسكندر الأكبر غيّر كل مسار الحياة وجمع بين الشعوب، فهو كان قائد ذكي ومحب للحياة وشغوف وواجه الحياة والموت بشغف، والمدن التي بناها تظل إرث للإنسانية، مشيرة إلى أن الإسكندرية تعبر عن الروح الهيليثتية.
وعبرت صوفيا أفغيرينو كولونيا، عن سعادتها بالعودة إلى مدينة الإسكندرية، مشيرة إلى أن الإسكندر أسسها ولكنه لم يعيش لرؤيتها مكتملة، ولكنها ظلت عاصمة للمعرفة ولها تأثير كبير على العلم والثقافة والدين فهي دائمًا فريدة من نوعها.
واُفتتح في بداية الفعالية معرض "الإسكندر الأكبر: العودة إلى مصر" يضم 53 عملًا فنيًّا تتضمن 40 لوحة كبيرة الحجم و12 منحوتة برونزية وخزفية بالإضافة إلى "بيت بندار" وهو عمل خشبي أصلي ومبهر، حتى 17 يناير 2026، فيما قدمت فرقة يونانية عرض فني فلكلوري، كما عُرض خلال الندوة فيلم قصير عن الإسكندرية.
جدير بالذكر أن المعرض يُقام في مكتبة الإسكندرية برعاية السفارة اليونانية في القاهرة ووزارات الدفاع والخارجية والداخلية اليونانية وجامعة أرسطو في ثيسالونيكي، والأكاديمية الوطنية للعلوم، وينظم بالتعاون بين المكتبة والمختبر التجريبي في فيرجينا واتحاد البلديات اليونانية والمركز الهيليني لأبحاث الحضارة السكندرية والمتحف الفني النمساوي.