1
في المقال السابق، وفي محاولتي الإجابة على سؤال ما العمل بعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية سيطرتها على المناطق التي احتلتها قوات الدعم السريع وطردها منها، وخاصة عاصمة البلاد وما بها من مواقع ورموز السيادة الوطنية، أشرت إلى أن هذه التطورات العسكرية، لا تعني أن الحرب انتهت ووضعت أوزارها.
فالمؤشر الرئيسي لانتهاء هذه الحرب، أو هذه الجولة من جولات حروب السودان، هو استسلام قوات الدعم السريع وتسليم أسلحتها، وهو ما لم يحدث.
كما أنها لا تزال تحاصر مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، وتهدد بضرب مناطق في ولاية نهر النيل والولاية الشمالية، خاصة بعد سيطرتها على منطقة المالحة الاستراتيجية، والتي تقع عند تقاطع الطرق الذي يربط ما بين شمال السودان وغربه، ويُعد مركزاً رئيسياً للإمداد والتموين استأثرت به قوات الدعم السريع لصالح إمدادها وتموينها عبر الطريق القادم من ليبيا. وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه القوات تعتبر مكونا رئيسيا في تحالف «تأسيس» السياسي العسكري والذي يضم أيضا قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان المتمركزة في جنوب كردفان، والتي ظلت لعدة عقود في نزاعات دامية مع حكومات الخرطوم، كما يضم بعض حركات دارفور المسلحة التي أيضا ظلت في نزاعات دامية مع حكومات الخرطوم منذ العام 2002 وحتى توقيع اتفاق سلام جوبا 2020، وأخذنا في الاعتبار أيضا أن هذا التحالف الجديد أعلن أنه سيشكل حكومة موازية لحكومة بورتسودان في البلاد، لبات واضحا أن حروب الهامش والمركز المشبعة بسفك دماء المواطن السوداني منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، دارفور وجنوب كردفان نموذجا، إضافة إلى أنها ستستمر أكثر عنفا وشراسة، ستدفع بالبلاد إلى منعطف أشد خطورة ومأساوية ويهدد وحدتها. وهناك ملاحظة لها دلالتها الهامة والمؤثرة في مجرى الصراع في دارفور، وهي أن قوات الدعم السريع كانت تقاتل إلى جانب حكومة الإنقاذ في دارفور، أو أن الإنقاذ أنشأت هذه القوات خصيصا للتصدي للحركات المسلحة في دارفور آنذاك، بينما هي الآن تقاتل من الضفة الأخرى. وإذا كان تحالف الدعم السريع والحكومة آنذاك لم يستطع حسم الحرب في دارفور عسكريا، فليس هناك ما يشير إلى إمكانية حسمها اليوم عسكريا والدعم السريع انتقل من ذاك التحالف إلى الاتجاه المعاكس، بل سيتواصل تجلي أزمة السودان العامة ودوران حلقتها الشريرة حربا في دارفور كما كانت من قبل. وفي كل الأحوال، فإن الانتصارات العسكرية، مهما كانت حاسمة، لن تنهي حرب السودان الراهنة، بل الأمر يتطلب حلا سياسيا تفاوضيا يخاطب مطالب كل الأطراف، ولكن ليس على حساب المصلحة العامة ومطالب الوطن، وفي إطار التصدي للأزمة الوطنية العامة التي تسكن البلاد منذ فجر الاستقلال، وتمتد جذورها عميقا في تربة التهميش واختلالات التنمية غير المتوازنة والتوزيع غير العادل للموارد والمشاركة غير العادلة في السلطة.
ومن الضروري هنا التأكيد على أن الحل السياسي التفاوضي الذي نعنيه ينبغي ألا يكون مساومة بمبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، أو يأتي مجرد صفقة لشراكة جديدة واقتسام كراسي السلطة، أو مناورة بهدف عودة نظام الإنقاذ في ثوب جديد. فكل هذا يعني استمرار الأزمة واندلاع الحرب ولو توقفت برهة. فأهداف الحل السياسي التفاوضي يجب أن تكون واضحة ومحددة في أ ـ وقف القتال وتحقيق التحول الديمقراطي وكفالة الحريات وحقوق الإنسان، ورفض أي شكل من أشكال الوصاية العسكرية على النشاط السياسي. ب ـ المحاسبة القضائية لكل من ارتكب جرما ضد الوطن والمواطنين، بما في ذلك الانتهاكات وجرائم الفساد. د ـ فتح الطريق لإطلاق حوار سوداني سوداني يبحث الشروع في إعادة بناء الدولة السودانية على أساس مشروع وطني يحارب التهميش ويحقق التنمية المتوازنة ويعيد بناء مؤسسات الدولة السودانية، المدنية والعسكرية، وكل ذلك وفق أسس جديدة تتضمن المواطنة المتساوية وعدالة المشاركة في السلطة وتوزيع الموارد، وبما يحقق إعادة صياغة الهوية السودانية على أساس الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي وتقنينه، وبما يحقق السلام المستدام ويعيد رتق النسيج الاجتماعي وإصلاح الشروخ والجراحات الغائرة التي خلفتها صراعات وحروب الموارد والسلطة والهوية، وصولا إلى تحقيق إقامة سودان موحد ديمقراطي مستقر بإرادة شعبه الطوعية.
لن يفيد السودان، بل سيضره كثيرا، التصرف وكأن الحرب قد انتهت أو شارفت على الانتهاء بعد استعادة السيطرة على العاصمة. لذلك، وإضافة إلى ما ناقشناه أعلاه، هنالك تدابير عاجلة وضرورية وتتطلب التنفيذ العاجل اليوم ويقع عبء ذلك على قيادة القوات المسلحة باعتبارها السلطة الحاكمة في البلاد. وقبل تنفيذ هذه التدابير، فإن أي حديث عن عملية سياسية أو تكوين حكومة جديدة سيكون مجرد ثرثرة على النيل. وفي مقدمة هذه التدابير:
٭ الإسراع في نشر أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية لبسط الأمن واحتكارها إنفاذ القانون، والتصدي لكافة أشكال أخذ القانون باليد. *فتح الممرات الآمنة لضمان انسياب وحماية المساعدات الإنسانية في كل البلاد.
٭ إطلاق مشروع لإصحاح البيئة بمشاركة واسعة من شباب الأحياء ولجان غرف الطوارئ وعضوية الأحزاب السياسية ونشطاء المجتمع المدني.
٭ تهيئة المناخ الملائم لإطلاق أي عملية سياسية أو حوار، عبر تجميد التعديلات الأخيرة في الوثيقة الدستورية، وكفالة الحريات العامة، وإلغاء مذكرات الاعتقال الصادرة من النيابة العامة بحق القيادات السياسية في الخارج.
وللأهمية، أختم بذات خاتمة المقال السابق، محذرا أن تظل القوى السياسية السودانية في وضعية المراقب للأحداث والمنتظر للنتائج، بل يجب أن تبادر، وفورا، للتوافق حول رؤية لكيفية التعامل مع المرحلة الجديدة على ضوء تطوراتها الراهنة، وأن لا تترك الأمر كله للمبادرات الخارجية.
نقلا عن القدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع فی دارفور
إقرأ أيضاً:
مثلث العوينات في السودان... ما أهمية سيطرة الدعم السريع على المنطقة؟
في عمق الصحراء الغربية الشمالية للسودان، حيث تلتقي الحدود مع مصر وليبيا، اندلع صراع جديد في منطقة نائية تُعرف بـ"مثلث جبل العوينات"، هذه البقعة القاحلة، التي طالما بدت منسية، تحولت فجأة إلى ساحة مواجهة مفتوحة، مع اشتداد الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي انفجرت في أبريل 2023. اعلان
في الأسابيع الأخيرة، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على هذا "المثلث الاستراتيجي"، ونشرت مقاطع مصورة توثّق انتشار مقاتليها في المنطقة الحدودية، ووصفت في بيان رسمي هذا التقدم بأنه "نصر نوعي"، يمهّد لفتح جبهات جديدة في قلب الصحراء، التي ظلت حتى وقت قريب خارج نطاق المعارك.
الجيش السوداني من جهته لم يتأخر في الرد، إذ أوضح أن انسحابه من الموقع جاء في إطار "ترتيبات دفاعية" لصدّ الهجمات، مشيراً إلى أن هذا التراجع لا يعني نهاية الوجود العسكري في المنطقة. لكنه لم يكتفِ بذلك، بل اتهم صراحةً قوات خليفة حفتر، قائد "الجيش الوطني الليبي"، بدعم خصومه، في أول إشارة مباشرة لتورط قوى إقليمية براً في النزاع.
Relatedالسودان: الدعم السريع تقصف مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان ومليون طفل معرض للكوليراالعنف الجنسي في السودان.. خطر دائم على المواطنين في ظل الحربإشتباكات متصاعدة وكوليرا منتشرة.. الأزمات تخنق السودانيين منطقة منسية تعود إلى الواجهةمثلث جبل العوينات، الواقع عند تقاطع الحدود بين السودان ومصر وليبيا، لطالما اعتُبر من أكثر المناطق عزلة في قلب الصحراء الكبرى. وقد بدأ اسمه يظهر في السجلات الجغرافية بعد زيارة الرحالة المصري أحمد حسنين باشا مطلع القرن العشرين، عندما وثّق نقوشاً صخرية تعود لما قبل التاريخ.
ورغم ما تنطوي عليه من تاريخ وجيولوجيا مثيرة، ظلّت المنطقة مهمَلة لسنوات طويلة، نتيجة التضاريس الوعرة وغياب التجمعات السكانية. بل إن تبعيتها الجغرافية ظلت موضع غموض، خصوصاً بعد اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسودان عام 1925، التي لم تفصل بشكل نهائي في مصير هذا المثلث الصحراوي.
غير أن عقود الإهمال لم تحجب أعين الطامعين، فمع مرور الزمن، تكشفت مؤشرات على وجود ذهب ومعادن ثمينة، كما تحوّل الموقع إلى معبر رئيسي لتهريب البشر والسلاح والوقود، في مسارات تمتد من القرن الإفريقي إلى ليبيا، ومنها إلى أوروبا.
ثقل جيوسياسي جديد في قلب الرماليرى عبدالله آدم خاطر، الخبير في شؤون دارفور، أن مثلث العوينات يحمل رمزية تاريخية لا تقل عن قيمته الجيوسياسية، ويقول لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): "المنطقة كانت ذات يوم تنبض بالحياة، وتضم موارد مائية وامتداداً قبلياً مشتركاً بين السودان وليبيا". ويضيف: "ما نشهده اليوم هو تحول تدريجي لهذه البقعة إلى ساحة صراع إقليمي بسبب غناها بالثروات".
حتى وقت قريب، كانت العوينات تحت سيطرة جزئية للحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش السوداني، مع وجود محدود للجيش نفسه. كما أنها تضم عشرات الآلاف من المُعدنين الأهليين، ما يعكس حجم النشاط غير الرسمي المرتبط بالذهب في المنطقة.
لكن التصعيد الأخير أخرج النزاع من إطاره المحلي. فوزارة الخارجية السودانية أصدرت بياناً شديد اللهجة، اتهمت فيه "كتيبة سلفية" تابعة لقوات حفتر بالمشاركة في المعارك، كما وجهت أصابع الاتهام إلى دولة الإمارات، معتبرة أنها تقدم دعماً لوجستياً وعسكرياً لقوات الدعم السريع، في "تعدٍ مباشر على سيادة السودان"، على حد تعبير البيان.
الإمارات، من جانبها، تنفي بشكل متكرر أي تدخل في النزاع السوداني.
قلق إقليمي متصاعدفي الشمال، تتابع القاهرة تطورات المثلث الحدودي عن كثب، إذ لا يخفى أن تحوّل المنطقة إلى معقل للتهريب قد يشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي، فخطر انتقال الأسلحة والمهاجرين غير النظاميين من السودان عبر ليبيا إلى الأراضي المصرية أو إلى الضفة الشمالية من المتوسط، أصبح احتمالاً حقيقياً، يضع المنطقة كلها على حافة اضطراب واسع.
يقول الباحث المتخصص في الشأن الإفريقي، عبد المنعم أبو إدريس، إن للمثلث أهمية أمنية واقتصادية بالغة. ويشرح: "إلى جانب وجود مناجم ذهب نشطة، تُعد المنطقة ممراً حيوياً لتجارة غير رسمية تشمل الوقود والذهب، تمد ولايات مثل كردفان ودارفور بالإمدادات الأساسية".
ويضيف أن "الموقع الجغرافي للمنطقة، وتضاريسها الوعرة، يجعلان منها ممر تهريب رئيسي لعصابات البشر والسلاح، خاصة باتجاه الجماعات المسلحة في عمق الصحراء الكبرى".
نقطة تحوّل... أم بداية حرب جديدة؟المخاوف لا تتعلق فقط بما يجري اليوم، بل بما قد تؤول إليه الأمور لاحقاً. فالمثلث الحدودي لم يعد مجرد موقع جغرافي متنازع عليه، بل أصبح رمزاً لصراع يتجاوز الداخل السوداني، ليطاول أمن واستقرار شمال إفريقيا بأكمله.
المراقبون يحذرون من أن استمرار الانفجار في هذه البقعة قد يُحدث تغييرات في موازين القوى، ويخلط أوراق التحالفات الإقليمية، وربما يُنتج أزمة جديدة تضاف إلى سجل الأزمات التي تشهدها القارة منذ سنوات.
ومع كل شريط فيديو يُنشر من رمال العوينات، ومع كل تصريح جديد من أطراف النزاع، يزداد الإحساس بأن هذه الرمال، التي كانت ساكنة لعقود، بدأت تتحرك، ليس فقط تحت أقدام المقاتلين، بل أيضاً في خرائط السياسة والجغرافيا والاستراتيجيات.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة