تعجبني الطريقة التي تستهل بها الزميلة الصحفية المتميزة “منى أبو زيد” مقالاتها، حيث تبني فكرتها على اقتباس فلسفي أو تراثي مستمد من تجارب الحياة وتحدياتها، وذلك لإحكام السياق وتوصيل الفكرة بعمق. لذا أستأذنها اليوم في استعارة هذا التكنيك في كتابة مقالي، والسبب الثاني هو أن دراستي للفلسفة في بواكير العمر منحتني إدراكًا لقيمتها في تحليل الأفكار وإيصال الرسائل المطلوبة بوعي وانتباه.

يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور : “الكراهية تنبع من ضعف العقل أكثر مما تنبع من شدة العاطفة.” تتجلى هذه الحقيقة بوضوح في المجتمعات التي تعاني من الاضطرابات والحروب، حيث يصبح خطاب الكراهية ملاذًا لمن لم يدركوا بعد أن الكلمات قد تكون أخطر من الرصاص، وأن الشعوب لا تنهض عبر تأجيج الصراعات، بل من خلال إعلاء قيم التسامح والتفاهم.

لقد فرضت الحرب نفسها على بلادنا بفعل أطماع دولية و إقليمية متجددة توافقت مع اطماع النخب في سلطة بلا تفويض، مخلفة شروخًا عميقة في النسيج الاجتماعي، واستغل البعض منابر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لبث خطابات الكراهية معبرا عن الصراع الصفري ، مما يهدد مستقبل الأجيال القادمة ويعطل أي فرصة لتحقيق سلام حقيقي ومستدام.

لذلك تبرز الحاجة إلى مواجهة هذا الخطاب المدمر، الذي بات يغذي النزاعات ويؤخر فرص السلام. فخطاب الكراهية الذي يتبناه البعض بوعي أو دون وعي، ليس مجرد كلمات تُلقى في فضاء الإعلام أو منصات التواصل الاجتماعي، بل هو أداة قد تؤسس لانقسامات تمتد لعقود إن لم تتم مواجهتها بحزم القانون ووعي القائمين على الخطاب الإعلامي والسياسي.

علينا جميعًا مقاومة خطاب الكراهية لأن التجارب الإقليمية والعالمية أثبتت أن هذا النوع من الخطاب لا يقود إلا إلى مزيد من الدمار وتشظي المجتمعات وتفككها. رواندا مثلًا : التي عانت من إبادة جماعية أودت بحياة أكثر من 800 ألف شخص، كانت نتيجة مباشرة لتحريض إعلامي ممنهج. ومع ذلك تعيش رواندا اليوم نهضة تنموية لأنها اختارت طريق المصالحة الوطنية بعد أن تم احتواء خطاب الكراهية من خلال تشريعات قوية وبرامج توعوية قادتها النخب السياسية والإعلام الوطني، مما أعاد بناء المجتمع.

أما في لبنان : فقد اندلعت الحرب الأهلية عام 1975 واستمرت حتى 1990، وكانت إحدى أبرز الحروب التي غذّاها خطاب الكراهية الطائفي والسياسي. لعبت الخطابات التحريضية دورًا رئيسيًا في تقسيم المجتمع اللبناني بين طوائفه المختلفة، مما أدى إلى اندلاع صراعات مسلحة بين الميليشيات، ثم تدخل قوى إقليمية ودولية زاد من تعقيد المشهد وإذكاء الصراع.

السودان اليوم ليس استثناءً، بل هو بحاجة إلى مشروع وطني نهضوي شامل يُكرّس لمواجهة خطاب الكراهية، سواء من خلال الإعلام الواعي أو المؤسسات التعليمية أو القوانين الرادعة. كما أن على القوى السياسية والاجتماعية أن تعي خطورة الانجراف وراء هذا الخطاب المخزي، الذي قد يؤخر تعافي البلاد لعقود.

لذلك لا بد من دور رشيد للإعلام والإعلاميين في المعركة ضد الكراهية. فالإعلام ليس فقط ناقلًا للأخبار، بل هو صانع للوعي. ومن هنا تأتي أهمية حملة “المجد نيوز” التي يقودها شباب مستنير استشعروا مسؤولية وأهمية التعافي الوطني ووحدة الصف ونبذ العنصرية والمناطقية. لتجاوز خطاب الكراهية، هذه الخطوة الواعية مهمة في مواجهة هذا الخطر الداهم.. أن مثل هذه المبادرات يجب أن تتوسع لتشمل منصات الإعلام كافة، لتوجيه رسالة واضحة مفادها أن السودان لن يتعافى إلا إذا تجاوز خطاب الكراهية واستعاد قيمه الأصيلة في التسامح والتعايش السلمي .

وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن معركة الوعي ضد خطاب الكراهية ليست ترفًا، كما أنها ليست مسؤولية فردية، بل ضرورة وجودية يجب أن ينهض بها الجميع لحماية بلادنا من الوقوع في دوامة الاحتراب الداخلي والانقسام المجتمعي. وحين ندرك بوعي أن الكلمات قد تكون أكثر فتكًا من الرصاص، يصبح واجبنا جميعًا أن نستخدمها لبناء الوطن لا لهدمه. فالمستقبل الذي نحلم به لا يمكن أن يولد من رحم الكراهية، بل من رحم المصالحة الوطنية، والمواقف العقلانية، والاحترام المتبادل.
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
السبت 5 أبريل 2025 م

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: خطاب الکراهیة

إقرأ أيضاً:

د. عبدالله الغذامي يكتب: شرائح القراءة

أنشد إسحاق الموصلي بيتين هما:
هل إلى نظرة إليك سبيل.. فيروى الصدى ويشفى الغليلُ
إن ما قل منك يكثر عندي.. وكثير ممن تحب القليلُ
فقال له الأصمعي: لمن تنشد، فقال لبعض الأعراب، فقال هذا والله هو الديباج الخسرواني، لكن إسحاق رد: بل هما لليلتهما، فقال الأصمعي: لا جرم، والله إن آثار الصنعة والتكلف بينٌ عليهما.
وهنا نرى حال التذوق وارتباطه بالسياق الثقافي، ففي زمن الأصمعي كانت تسود الرغبة في ثقافة التدوين والرواية وهذه مهنةٌ ثقافية جليلة صنعت لنا ذاكرة عظيمة في الشعر والحكايات، ولولا ذلك الجهد لضاعت ذاكرة العرب ولم نرث عن الماضي هذه الثروة العظيمة التي خلدها لنا المدونون، ومنهم الأصمعي، ولذا فقد طرب الأصمعي لذلك الخبر الشعري المذهل الذي نقله إسحاق الموصلي عن بعض الأعراب، ولكن حين تبين للأصمعي أن اللؤلؤة التي جلبها الصياد ليست حقيقيةً، ومن ثم تحولت لتصبح محاراً، وخاب ظنه بلؤلؤته التي لم تعد أعرابية كما ظن ابتداءً، وهنا تهشمت الذاكرة وذابت الدهشة، والدهشة في عمقها هي حال ذاكرة تبحث لها عن سياق تتموضع فيه كما نتحرك باتجاه رائحة القهوة أو رائحة خبز الأم (وهنا يحضر محمود درويش)، لكن لو اكتشفنا أن الرائحة مزورةٌ وليست أصيلةً فهنا تحدث الخيبة، وينقلب الحكم من إعجاب ودهشة إلى حس بليد لا يغني توق الروح لذاكرة بعيدة تم استحضارها فجاءة.
وهذا يشير إلى أن أنظمة الاستقبال، ومعها أنظمة الحكم على أي نص نستقبله، فأنت تستقبل النكتة بغير ما تستقبل مقولةً فلسفية، والذهن معهما يتصرف بناء على مفهوم (أفق التوقع)، وهو أحد مفاهيم نظرية الاستقبال، وكذلك ما نفعله، مجتمعياً، بين أن نتحدث مع سيدة كبيرة في السن أو شاب مراهق، وبمجرد حضور إحدى هاتين الشخصيتين يتغير الخطاب ومصطلحات الخطاب، وما هو متوقع منا في الحالين، فنحن نتنازل عن مقعدنا في الطيارة مثلاً من أجل السيدة الكبيرة بمثل ما نتوقع من مراهق شاب أن يتجنب مزاحمتنا في الركوب في حافلة السفر، وإن لم يفعل تذمرنا منه، وكذلك هي حالنا مع النصوص وأنظمة التوقع.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: هل تسكننا الأماكن أم نسكنها؟ د. عبدالله الغذامي يكتب: هل التجارب غريزة بشرية؟

مقالات مشابهة

  • شحاتة السيد يكتب: لماذا تُستهدف مصر؟ ولماذا تُنفق المليارات لتشويه صورتها؟
  • د. ثروت إمبابي يكتب: البيوجاز في قرى مصر: طاقة نظيفة من قلب الريف
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (نشرة مشاعر)
  • جمال عاشور يكتب: من خشبة الأوبرا إلى قلب الناس
  • حاتم الصكر يكتب: سمك الغرب وماء الشرق: "صيد السلمون في اليمن" والبعد الاستشراقي
  • ضمك ينهي قضاياه لدى فيفا وينتظر خطاب التسجيل
  • عادل القليعي يكتب: أيها المزايدون على مصر .. عار عليكم
  • د. عبدالله الغذامي يكتب: شرائح القراءة
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (رغم الداء والأعداء)
  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. تدبير الله بين يوسف الصدّيق وترامب