حاتم الصكر يكتب: سمك الغرب وماء الشرق: "صيد السلمون في اليمن" والبعد الاستشراقي
تاريخ النشر: 27th, July 2025 GMT
لا تكاد مقولات الاستشراق بنوعيه القدم والجديد أن تتغير جوهرياً بصدد التعايش والنّدية البشرية، ونبذ الاستعلاء في خطاب الغرب التقليدي بوهم المزج بين الحضارة والمدنية، أي عدّ الحضارة في الشرق متأخرة في التقييم بسبب المدنية التي حصل عليها الغربيون.
وهذه مصادرة على مطلوب منطقي لا يضع في الاعتبار ما على الأرض من رواسم وشواهد، تنطق بالمنجز الإنساني في تاريخ الشرق والإضافات التي قدمها للحضارة العالمية ونهضتها الحديثة، رغم الظلام الذي يعم حاضره لأسباب لم يكن الغرب نفسه بمنأى عن صنع بعضها احتلالاً، وتجهيلاً، ونهباً لثرواته وكفاءاته وتراثه الروحي الذي تعج به متاحف الغرب.
لقد استند إدوارد سعيد في قراءته للفكر الاستشراقي على تمددات هذا الفكر من مقولة دزرائيلي إن الشرق صناعة غربية. وتعقب ذلك ليرى تجسداته في الصور النمطية التي تُصنع في الأعمال الروائية الغربية لكراهية الآخر، عبر تنميطه بتلك الطريقة التي شخّصها سعيد وبحث في مشغّلاتها النظرية؛ ليدين الخطاب الاستشراقي الكامن في خلفيات كتابتها ومحرك ذلك التصور المنتج سردياً.
وإذ يتحدث سعيد عن علاقات ثقافية وسياسية، يريد الاستشراق، بكونه (خطاباً) حسب المفهوم الفوكوي الذي تبنّاه سعيد، أن يلخّصه في (صورة نمطية) تشيع وتترسخ ليسهل من بعد رفضها، وتبرير كراهيتها، مبيناً خطورة عمل السلطة في المعرفة، وكاشفا إجراءات معرفة الغرب بالشرق التي (كانت سبيلاً لمدّ السلطة عليه)، وهكذا أصبح (الشرق) نصاً، و(الغرب) سلطة، والاستشراق (معرفة) ووسيلة للهيمنة.
يخيل إلي أن رواية «صيد السلمون في اليمن» لبول توردي في تأويل قرائي معمق لوجهة النظر فيها، إنما تنويع عصري وسرد حداثي لموضوع استحالة التعايش، أو هي استرجاع سردي لمقولة الشاعر كبلنغ: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، مطوراً المعنى من الجهات الجغرافية – تباعد الشرق والغرب في المكان واستحالة التقاء الشروق بالغروب زمانياً أيضاً. ليجعلها قانوناً محتملاً لتلك النظرة الاستعلائية والمشبعة بضرورة التباعد الإنساني، حفظاً لتراتبات تبنى على وهم التخلف في ما هو راهن لأسباب لا تخفى على قراء التاريخ وتطور المجتمعات وفترات الاحتلال والقهر التي تعرض لها الشرق غالباً، في وقت تَقدُّم الآلة الغربية متسلحة بفائض الثروات والعلم والتسلح. وهي كلها بالمناسبة ليست اكتساباً غريباً ذاتياً، بل نتيجة صراعات واحتلالات وتدمير بنى كثيرة في الشرق.
إن العمل الذي شبهه المترجم الدكتور عبد الوهاب المقالح في المقدمة العربية للرواية «بصبر صياد وبراعته كي يصطاد في النهاية عملا كهذا يرينا الصلة الممكنة بين الشرق والغرب، عبر رمزية عيش السمك بعيداً عن منابع الأنهار التي يجري فيها أو يهاجر إليها السلمون».
لقد استجاب الدكتور جونز العالم المتخصص بصيد سمك السلمون لضغط الحكومة البريطانية، لتنفيذ رغبة الشيخ اليمني محمد لتنفيذ رياضة صيد السلمون في اليمن ترافقه مجموعة باحثين سيفشلون في المشروع؛ لأن السلمون في الأصل لا يعيش في بيئة كاليمن. ولكن الروائي اختار نهايته بعمل الطبيعة التي تثور غاضبة وتعصف بكل شيء يوم افتتاح المشروع الذي هللت له واحتفت به الحكومة البريطانية، هرباً من خيبات حروبها في الشرق، وتعتيماً عليها، فيموت الشيخ اليمني ورئيس وزراء بريطانيا غرقاً، ويهلك سمك السلمون كذلك.
وحين يعتزل الدكتور جونز العمل العلمي والبحثي بعد فشل المشروع، يعيش متفرغا في كوخ صغير مشرفا على مفقسة لتربية الأسماك اليافعة في بريطانيا. ويقول: «تلك السلمونات الصغيرة لديها هنا فرصة أكبر مما يمكن أن تتاح لها لو كانت في اليمن. هذا موطنها الطبيعي، كما هو موطني الطبيعي». فعادت أسماك الغرب لتعيش وتفقس بيضها في مياهه، لا في المياه الشرقية، العربية تحديداً. ويطغى على وصفه للسمكات الصغيرة طابع العطف على مصيرها المحتمل، هناك في الصحراء العربية التي لا تزال في المخيال الغربي مكان التجهيل والتخلف والأساطير القديمة.
أما في الفيلم فثمة أمثولة أيضاً، فبسبب سقوط المطر بغزارة في أحد مواقع التصوير في المغرب جرت إعادة بناء ديكوراته، فرأى أحد الممثلين في ذلك إنجازاً وتحقيقاً للمستحيل. وكأنه يبتكر مسمّى جديداً لفشل ترويض السلمون ليعيش ويبيض في صحراء اليمن، وفي نهر اصطناعي. فكانت تلك صدفة موضوعية أن ترفض الطبيعة في المغرب التمثيل المستنسخ لبيئة اليمن، كما جرى في اليمن استنساخ الوهم السلموني الذي جسدته الرواية، وقام عليه تأويلنا بالبعد الاستشراقي الذي تجاهله النقاد وصناع الرؤية البصرية للرواية، بواسطة الفيلم الذي تم تصويره في أماكن يتم فيها تخييل الأحداث التي تدور في صحراء اليمن. حتى عّدته بعض الموسوعات وقراءات النقاد عملاً (رومانسيا كوميدياً).
ولا نفهم تفسير الكوميديا فيه إلا بأنها محاولة تكرار الصورة النمطية عن حياة العرب وتفكيرهم. كما أن النقد الفني الموجه للفيلم كان يوضح تحريف وقائع الرواية نحو الكوميديا، وافتعال المواقف الحادة الوقع، حتى أن مترجم الرواية ومسؤولون في المركز الثقافي البريطاني بصنعاء، وجدوا عند عرض الفيلم في لقاء خاص، أن ثمة اختلافات وفروقا كثيرة بين ما جاء في الفيلم والنسخة الروائية.
لقد كنت أعمل في جامعة صنعاء حين حدثنا زميلنا الدكتورعبد الوهاب المقالح عن صدور الرواية وعزمه على ترجمتها. من الطبيعي أن نندهش لما سمعنا عن فكرة الرواية وتمثلات المواقع اليمنية بتلك الدقة التي أسهب المقالح في سردها، وغرابة أحداثها، وبيّن عزمه على ترجمتها. وقد فعل ذلك، وأنجز الترجمة العربية الأولى للرواية ونشرها في صنعاء عام 2008، أي بعد عام واحد من صدورها في بريطانيا. ولم تكن الرؤية البصرية قد أنجزت سينمائياً إلا عام 2011.
حظيت الرواية بترجمات للغات عديدة وقراءات متعددة أيضاً شرقاً وغرباً. فتوقف الغربيون عند المثير في الأحداث وغرابتها، وما فيها من حبكات جانبية كالفساد الحكومي والوهم العلمي المساند له. والعلاقات الغرامية ونهاياتها المؤثرة، والتعريج على حرب الخليج عبر مصير النقيب روبرت ماثيوز المجند في القوة البريطانية في مدينة البصرة وزوجته هاريت التي تعمل في مشروع السلمون.
كانت أصداء قراءة الرواية عربياً قد توقفت عند موضوع الإيمان، والأمل الذي يعد إيماناً يفتقده العالم جونز المتخصص بصيد السلمون، وكذلك في دلالات المشروع الفاشل وترميزاته الفكرية عن علاقة الشرق والغرب، وإمكان تحققها بتلك الندية المفترضة بعد مزج الذاكرة والتاريخ والوقائع، وكذلك السائد من الرؤى والمواقف المكرسة للتباعد بالانحياز لناهبي الثروات والمحتلين.
وكذلك حول التبرير الاستعماري لجدوى المشروع وفشله المحتم، والسياسة التي تنفضح ألاعيبها وكواليسها وفساد السياسيين في ثنايا العمل. وقليلاً ما ذهبت القراءات إلى تكريس استحالة اللقاء الشرقي الغربي.
سيزور بول توردي اليمن عام 2014، ويصل إلى جبال حراز التي تخيل أن مشروع السلمون سينجز فيها، ويلتقيه الروائي اليمني وجدي الأهدل معية كتاب يمنيين، ويدوّن في مقالة نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الثورة الصنعانية في الأول من كانون الأول (ديسمبر)، سارداً بعض تفاصيل ذلك اللقاء. يخبرهم توردي أنه زار المرتفعات الجبلية في سلطنة عُمان، ورآى مشاهد الطبيعة فيها، ما ساعده على تمثل جبال حراز موقعاً لمشروع السلمون، وخطة الرواية في تعيين الأمكنة الممكنة للحدث في اليمن.
وعندما يسأل الكتاب اليمنيون عن المعنى المجازي للرواية بعد تلخيصه لأحداثها، وإذا ما كان يعني «أن البلاد العربية الجافة ليست صالحة لتلقي الحضارة الغربية، وأن أية محاولة للتنوير سيكون مصيرها الفشل المحتوم؟». يقول الأهدل إن توردي أخذ وقتاً قبل أن يجيب، نافياً ذلك المعنى المنسوب للعمل، وردّ بأنه «قصدَ المعنى السياسي وضرورة عدم تدخل بلده في قضايا الشرق الأوسط، كما حصل في التدخل في العراق». وذلك تفسير أحادي قد ينطبق على جزئية مقترح الحكومة وبذخها على مشروع السلمون الفاشل. لكن المغزى الأعمق المقترح لا يروق للكاتب كما يبدو.
وفي مقال وجدي الأهدل أمثولة طريفة حيث أهدى الروائيون اليمنيون كتبهم لتوردي الذي قال إنه سيضعها في مكتبته، رغم أنها بالعربية التي يجهلها. ولديه يقين كما ينقل الأهدل بأنها ستخوض رحلة شبهة برحلة السلمون الذي يقطع مئات الكيلومترات مهاجراً من البحر إلى منابع المياه في الأنهار، لتصل أي الكتب، إلى قارئ ما.
ولعل توردي ساق لنا دليلاً آخر عند الحديث عن مصير الروايات المكتوبة بالعربية، الذي شبهه بما يحصل لسمك السلمون في كل هجرة للمنابع، متناسياً ما خطّ هو نفسه من مصير للسلمون المهاجر عكس التيار.
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: اليمن سمك السلمون السلمون فی فی الیمن
إقرأ أيضاً:
صاحب مبادرة لسنا أرقاما: الغرب يرى الفلسطيني إرهابيا ومشروعنا يكسر هذه الصورة
واستعرض الناعوق مسيرته في حلقة جديدة من برنامج المقابلة، مبينا أن الفقد الشخصي الذي تعرض له كان حافزا لتحويل الألم إلى مشروع يواجه الرواية الإسرائيلية.
وأوضح أن استشهاد شقيقه أيمن عام 2014 خلال عدوان الاحتلال على غزة جعله يدرك قسوة أن يُختزل الموت في أرقام لا تحكي قصة أصحابها.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4كيف تحول الإسرائيليون إلى منبوذين في أوروبا؟list 2 of 4حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟list 3 of 4فلسطين ذاكرة المقاومات.. محمد بنيس يقدم شهادة ثقافية إبداعيةlist 4 of 4كيف يُعيد ناشطو العالم تعريف التضامن مع غزة؟end of listولد الناعوق في مدينة دير البلح عام 1994، وهو العام الذي شهد دخول السلطة الفلسطينية إلى القطاع بعد اتفاق أوسلو، حيث ساد الأمل بإنهاء المأساة الفلسطينية.
غير أن طفولته المبكرة تزامنت مع الانتفاضة الثانية عام 2000، فارتبط وعيه منذ السادسة بأصوات القصف والدبابات والشهداء.
ويقول إنه لم يدرك معنى الطفولة الطبيعية إلا عندما غادر غزة إلى بريطانيا ولاحظ الفرق الكبير بين حياة الأطفال هناك وبين أطفال فلسطين الذين تُصادر طفولتهم مبكرا بفعل الاحتلال والحصار.
ويضيف أن السياسة في قطاع غزة ليست ترفا فكريا، بل واقعا يفرض نفسه على تفاصيل الحياة اليومية منذ سنوات الطفولة الأولى.
انتقل الناعوق إلى بريطانيا عام 2019 بعد حصوله على منحة لدراسة الماجستير في الإعلام الدولي بجامعة ليدز.
فَقْدٌ أثمر مشروعاويعتبر أن مغادرته أنقذت حياته، إذ لم يتمكن من العودة مجددا إلى قطاع غزة، بينما استشهد خلال الحرب الأخيرة أكثر من 20 فردا من أسرته دفعة واحدة في قصف استهدف منزل العائلة.
غير أن التحول الأبرز في حياته حدث خلال عدوان 2014، عندما فقد شقيقه أيمن الذي كان صديقه الأقرب، فقد دفعه هذا الفقد العميق إلى كتابة مقال عنه باللغة الإنجليزية بطلب من الصحفية الأميركية بام بيلي، وكانت تلك المرة الأولى التي يخاطب فيها الجمهور الغربي مباشرة بقصة إنسانية من غزة.
شكل المقال بداية وعي جديد لديه، إذ لمس تعاطفا مفاجئا من قراء غربيين مع قصة شقيقه، وهو ما دفعه إلى إدراك أن ثمة جمهورا في الغرب يريد أن يسمع الرواية الفلسطينية إذا قدمت له بلغة إنسانية صادقة.
إعلانومن هنا وُلد مشروع "لسنا أرقاما" عام 2015 بالتعاون مع المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، والذي بدأ بتدريب مجموعة من الشبان والشابات على كتابة قصصهم بالإنجليزية بمرافقة صحفيين غربيين.
وتحول المشروع لاحقا إلى منصة شارك فيها أكثر من 400 كاتب نشروا مئات القصص والمقالات والقصائد التي وصلت إلى جمهور عالمي واسع، ونجحت في إعادة الاعتبار للضحايا الفلسطينيين كبشر لهم حياة وأحلام.
ويؤكد الناعوق أن المبادرة لا تركز فقط على قصص الشهداء، بل تروي أيضا حكايات الأمل والصمود والتعليم والإبداع في غزة، بما يبرز وجها آخر يتجاوز المأساة ويكسر الرواية الإسرائيلية التي تحصر الفلسطيني في صورة الضحية أو "الإرهابي".
انحياز غير عفويوفي حديثه عن تجربته مع الإعلام الغربي، أوضح أنه واجه مواقف مهينة خلال مقابلاته، حيث كان يُسأل مرارا: "هل تؤيد 7 أكتوبر؟"، وهي صيغة تهدف لوضع الفلسطيني دائما في خانة الاتهام، واعتبر أن هذه المقاربة جزء من انحياز مؤسسي يجعل الإعلام الغربي شريكا في الجريمة.
ويرى أن هذا الانحياز ليس عفويا، بل نتيجة خوف المؤسسات الإعلامية من نفوذ اللوبي الصهيوني الذي يضغط لمنع أي تغطية تنتقد إسرائيل، فضلا عن إرث ثقافي غربي يرسخ صورة العربي كمتخلف وإرهابي مقابل الإسرائيلي الذي يُرى امتدادا للغرب.
وأضاف أن محاولات إصلاح الإعلام الغربي من الداخل تبدو مهمة شبه مستحيلة، ولذلك فإن البديل هو تأسيس منصات إعلامية مستقلة قادرة على صياغة الرواية الفلسطينية ونقلها بموضوعية وجرأة، مستشهدا بانتشار الإعلام الرقمي البديل الذي قدم تغطيات أكثر إنصافا خلال السنوات الأخيرة.
كما شدد على أن الحرية هي جوهر ما ينشده الفلسطينيون، سواء تحقق ذلك من خلال حل الدولتين أو الدولة الواحدة أو أي صيغة سياسية أخرى، مشيرا إلى أن المطلوب هو وحدة وطنية فلسطينية تصوغ برنامجا موحدا لمطالبة العالم بحقوق مشروعة لا يمكن اختزالها أو تجاهلها.
ورغم الفقد الشخصي الكبير الذي عايشه بفقد أسرته، يرى الناعوق أن هذه الخسارة جعلته أكثر إصرارا على أن يظل صوتا لأهله ولشعبه، مؤكدا أن رسالته عبر "لسنا أرقاما" هي أن الفلسطينيين بشر لهم وجوه وقصص، لا مجرد أعداد في نشرات الأخبار.
Published On 5/10/20255/10/2025|آخر تحديث: 23:16 (توقيت مكة)آخر تحديث: 23:16 (توقيت مكة)انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعيshare2شارِكْ
facebooktwitterwhatsappcopylinkحفظ