يوم الأربعاء الفائت، شنت المقاتلات "الإسرائيلية" عشرات الغارات المتزامنة على مواقع عسكرية واستراتيجية في كل من دمشق وحمص وحماة، في مقدمتها مبنى البحوث العلمية في دمشق والمطار العسكري في حماة وقاعدة تيفور قرب حمص.
وتحدث بيان الخارجية السورية عن عشرات الغارات "الإسرائيلية" على خمسة مواقع في البلاد خلال ثلاثين دقيقة، أدت إلى "تدمير شبه كامل لمطار حماة العسكري وإصابة عشرات المدنيين والعسكريين"، بينما تحدثت تقارير غير رسمية عن مقتل أربعة أشخاص.
كما شهدت الليلة نفسها توغلا جديدا في ريف درعا أسفر عن اشتباكات مع مواطنين تداعوا لصده، ما أسفر عن استشهاد تسعة أشخاص وجرح آخرين، فضلا عن إصابات بين جنود الاحتلال وفق تقارير لم تتأكد. وبعد أقل من 24 ساعة، أغارت طائرات "إسرائيلية" على مواقع ونقاط عسكرية في الفرقة الأولى في ريف دمشق الغربي واللواء 75 في ريف دمشق.
أتت تلك الغارات المكثفة على المواقع العسكرية في ظل تقارير ألمحت إلى خوض سوريا وتركيا محادثات بخصوص إمكانية عقد اتفاقية دفاع مشترك أو تعاون دفاعي بالحد الأدنى، لا سيما وأن التقارير أشارت إلى أن أنقرة بصدد نشر منظومات دفاعية على الأراضي السورية وخصوصا في قاعدة تيفور، بل إن بعضها ادعى توجّه وفد تقني تركي لدراسة وضع القاعدة واحتياجاتها.
يصبح التحليل بأن القصف "الإسرائيلي" رسالة لتركيا بقدر ما هو لسوريا منطقيا وله شواهده، والتي تبدأ من عام 2021 حين وضعت تقارير الأمن القومي تركيا لأول مرة ضمن المهددات لدولة الاحتلال، ولا تنتهي عند تقرير لجنة ناجل خلال الحرب الحالية والتي دعت حكومة الاحتلال للاستعداد لاحتمال المواجهة العسكرية مع تركيا في سوريا خلال سنوات، وما بينهما الإشارات الرسمية المتعددة لتركيا كتهديد، والإعلان العلني عن دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مواجهتها
كما أن مسؤولين "إسرائيليين" عضّدوا فكرة أن الغارات توجه رسالة لأنقرة بقدر ما تسعى لتقويض إمكانات دمشق العسكرية ومقدراتها الاستراتيجية. فقد اتهم وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر تركيا بـ"لعب دور سلبي في سوريا"، محذرا الرئيس السوري أحمد الشرع من "دفع ثمن باهظ" في حال "سمح للقوى المعادية" بدخول بلاده وتهديد "إسرائيل".
كما قال وزير الحرب يسرائيل كاتس إن الغارات الأخيرة "رسالة واضحة وتحذير للمستقبل"، وعلى أن "إسرائيل لن تسمح بأي ضرر يلحق بأمنها". وبشكل أكثر وضوحا ومباشرة، حذر كاتس الرئيس السوري (مستخدما اسم الجولاني في دلالة لا تخفى) من "دفع ثمن باهظ في حال سمح للقوات المعادية بدخول سوريا وتهديد مصالح الأمن الإسرائيلي".
وكانت قوات الاحتلال استغلت سقوط النظام السوري لفرض أمر واقع على القيادة السورية الجديدة، من خلال التوغل في المنطقة العازلة ثم درعا، وقصف الكثير من مقدرات الدولة السورية من سلاح وعتاد ومقار عسكرية ومراكز بحوث. يدفع هذا الانكشاف العسكري والاستراتيجي أمام دولة الاحتلال للبحث عن حلفاء وشركاء أو دولة حامية، ومن البديهي أن تركيا في مقدمة الدول المرشحة للعب دور من هذا القبيل لعدة أسباب؛ في مقدمتها العلاقة الجيدة التي تربطها بـ"سوريا الجديدة"، ورغبتها في نفوذ مستدام في سوريا، وعلاقاتها المتوترة مع "إسرائيل" خلال الحرب على غزة.
وقد أثبتت التصريحات والمواقف المتواترة عن مسؤولين أتراك أن أنقرة ترى في استقرار سوريا مصلحة عليا مشتركة، وأنها مستعدة للعب دور بارز في دعم دمشق في المجالات العسكرية والأمنية وخصوصا التدريب والتسليح. وقد دفعت أنقرة بتعزيزات عسكرية إلى سوريا خلال معركة "ردع العدوان" التي أسقطت نظام الأسد، وكذلك مؤخرا خلال أحداث الساحل السوري في دلالة واضحة على هذا الحرص.
من هنا، يصبح التحليل بأن القصف "الإسرائيلي" رسالة لتركيا بقدر ما هو لسوريا منطقيا وله شواهده، والتي تبدأ من عام 2021 حين وضعت تقارير الأمن القومي تركيا لأول مرة ضمن المهددات لدولة الاحتلال، ولا تنتهي عند تقرير لجنة ناجل خلال الحرب الحالية والتي دعت حكومة الاحتلال للاستعداد لاحتمال المواجهة العسكرية مع تركيا في سوريا خلال سنوات، وما بينهما الإشارات الرسمية المتعددة لتركيا كتهديد، والإعلان العلني عن دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مواجهتها.
في ردها على الغارات، قالت وزارة الخارجية التركية إن "إسرائيل باتت أكبر تهديد لأمن المنطقة"، وأنها تزعزع استقرارها عبر "التسبب بالفوضى وتغذية الإرهاب"، داعية إياها "للتخلي عن سياساتها التوسعية، والانسحاب من الأراضي التي تحتلها، والكف عن تقويض جهود إرساء الاستقرار في سوريا".
بيد أن الأنظار توجهت أكثر لتصريح وزير الخارجية هاكان فيدان، الذي قال إن بلاده "لا تريد مواجهة مع إسرائيل في سوريا"، مشيرا -في تصريحات لوكالة رويترز- إلى أنه "إذا كانت الإدارة الجديدة في سوريا ترغب في التوصل لتفاهمات معينة مع إسرائيل فهذا شأنها الخاص".
فهل يعني ذلك أن أنقرة رضخت لرسائل الضغط "الإسرائيلية" وأن القصف المتكرر أدى غرضه بردعها وثنيها عن خطط التمركز العسكري في سوريا؟
لا يبدو ذلك دقيقا ولا مؤشرات منطقية عليه. الواضح، ومنذ البداية، أن تركيا لا تريد فعلا مواجهة عسكرية مباشرة مع "إسرائيل"، وتحديدا إذا كانت وفق توقيت الأخيرة والطريقة التي تفضلها وتختارها، لتداعيات ذلك المتوقعة وتأثيرها المحتمل على العلاقات مع الإدارة الأمريكية.
قد تعوّل أنقرة لاحقا على إمكانية التوصل لتفاهمات غير مباشرة مع "إسرائيل" عن طريق واشنطن، بحيث يمكن رسم خرائط النفوذ والمصالح بشكل يحول دون الصدام، وهو ما ترى أنقرة أنه ممكن على المدى البعيد كما كان ممكنا سابقا مع روسيا وإيران رغم تعارض المصالح
فتركيا تعول كثيرا على الموقف الأمريكي من سوريا عموما، وتحديدا مسألة رفع العقوبات ودعم المرحلة الانتقالية، لكن وبشكل أكثر أهمية وأولوية موقفها من دعم قسد وبقاء القوات الأمريكية على الأراضي السورية. ولذلك تحديدا، تراهن أنقرة على زيارة مرتقبة لأردوغان للبيت الأبيض ولقاء ترامب، الذي ما زال يكيل المديح للأخير والعلاقات الطيبة التي تجمعهما، ولا تريد أن تترك ذريعة لنتنياهو لتقويض فرص هذه الزيارة في تحقيق اختراقات مهمة في الملف السوري، وكذلك على صعيد العلاقات الثنائية بين البلدين ولا سيما في ملف التسليح.
ولذلك، تفضل تركيا في الوقت الحالي تجنب المواجهة مع "إسرائيل"، ومحاولة الضغط عليها من خلال إدارة ترامب، الذي كانت تصريحاته خلال استقباله نتنياهو إيجابية نسبيا بالنسبة لها، ولا سيما رفضه الضمني لفكرة الصدام مع تركيا في سوريا. كما أن أنقرة ستسعى على المدى البعيد لفرض أمر واقع بخصوص تواجدها في سوريا، فهي تقدّر بأن جرأة "إسرائيل" على القصف والاستهداف بعد تواجد قوات وأسلحة لها ستكون أقل بكثير مما هي عليه الآن، إذ أن القصف الحالي قد يمنع أنقرة من الاستقرار ومد النفوذ، لكن تعرض قواتها لاستهداف مباشر قد يشعل فتيل مواجهة مباشرة لا يريدها الطرفان.
أكثر من ذلك، قد تعوّل أنقرة لاحقا على إمكانية التوصل لتفاهمات غير مباشرة مع "إسرائيل" عن طريق واشنطن، بحيث يمكن رسم خرائط النفوذ والمصالح بشكل يحول دون الصدام، وهو ما ترى أنقرة أنه ممكن على المدى البعيد كما كان ممكنا سابقا مع روسيا وإيران رغم تعارض المصالح.
ولعل تصريحات ترامب خلال استقباله نتنياهو، وتصريح الأخير أنه بحث مع الرئيس الأمريكي "تدهور علاقاتنا مع تركيا وكيفية تفادي حصول أزمة معها" تعزز هذا المنطق، وهو ما سيحكم عليه الوقت والتطورات اللاحقة. لكن تركيا، بكل الأحوال، ليست في وارد التخلي عن دعم سوريا ولا عن مصالح أمنها القومي والفرص التي فتحتها لها "سوريا الجديدة".
x.com/saidelhaj
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الإسرائيلية سوريا تركيا ترامب سوريا إسرائيل تركيا ترامب مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد صحافة مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أن أنقرة مع ترکیا ترکیا فی فی سوریا أن القصف
إقرأ أيضاً:
كيف تعيد السعودية رسم التوازنات في سوريا؟.. تحول لحلبة اقتصادية
نشر موقع "ليه ديبلوماتيه" تقريرًا سلّط فيه الضوء على تحوّل الساحة السورية من ميدان للصراع المسلح إلى حلبة للاستثمار الاقتصادي، مع عودة لافتة للسعودية عبر وفد ضخم زار دمشق وأبرم اتفاقات شراكة بقيمة 5.6 مليار دولار، ما يكرّس دور الرياض كلاعب محوري في إعادة إعمار سوريا.
وقال الموقع، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه بعد أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية، تجد سوريا نفسها في قلب دينامية جديدة: لم تعد دينامية السلاح، بل دينامية الاستثمارات، فقد زارها وفد سعودي مكوّن من أكثر من 150 ممثلًا عن القطاعين العام والخاص دمشق، تحت قيادة وزير الاستثمار خالد الفالح.
وأوضح الموقع أن العنصر الأساسي يتألف من اتفاقيات شراكة بمجموع 5.6 مليارات دولار، وهو ليس بالأمر الهيّن، بل يمثل عودة الرياض إلى الساحة السورية، هذه المرة عبر بوابة إعادة الإعمار.
الدعم السعودي
فبعد الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر/كانون الاول 2024 وصعود أحمد الشرع إلى السلطة بدعم من الرياض، برزت السعودية كالدعامة الرئيسية للحكومة السورية الجديدة، وتستهدف الاستثمارات قطاعات حيوية: البنية التحتية، والطاقة، والطيران، وتقنيات الاتصالات، والصناعة الثقيلة، والسياحة والعقارات. ومن بين المشاريع البارزة: مصنع إسمنت في عدرا بقيمة 20 مليون دولار، ومشروع تجاري بقيمة تقارب 100 مليون دولار.
وقد عُقد منتدى دمشق للاستثمار رغم أعمال العنف الطائفية الأخيرة في السويداء، التي أسفرت عن مئات الضحايا. والهدف المعلن للسلطات السورية والسعودية واضح: جعل الاقتصاد الرافعة الرئيسية للاستقرار، حتى في سياق لا يزال هشًا، كما كانت لرفع العقوبات الأميركية دور حاسم. فقد قام دونالد ترامب، بعد لقائه مع الشرع في السعودية، بإضفاء الطابع الرسمي على إنهاء العقوبات ضد سوريا في شهر يوليو، استجابةً لطلبات الرياض وأنقرة. وقد أتاح ذلك تسديد الديون السورية للبنك الدولي، وجذب الشركات الأميركية، خصوصًا في قطاع الطاقة.
لفت الموقع إلى أنه يشارك كل من قطر والإمارات العربية المتحدة في هذه المبادرة، فقد وقّعت الدوحة اتفاقًا في مجال الطاقة بقيمة 7 مليارات دولار، بينما تعمل شركة "دي بي وورلد" ومقرها دبي، على تطوير البنى التحتية للموانئ. وهكذا بدأت تتبلور عملية إعادة اصطفاف إقليمي: إبعاد سوريا عن المدار الإيراني وربطها بنظام سني جديد تقوده الممالك الخليجية.
واختتم الموقع تقريره بالتأكيد على أنه حاليًا يجري تشكيل مجلس تجاري مشترك بين دمشق والرياض، بهدف تنظيم الاختراق الاقتصادي السعودي من خلال نهج مستدام ومؤسسي. لقد أصبحت عملية إعادة الإعمار ساحة معركة جيو-اقتصادية، وساحة تنافس بين القوى الإقليمية لتحديد المستقبل السياسي والاقتصادي والدبلوماسي لسوريا. إنها مرحلة انتقالية مهمة: من القنابل إلى الاستثمارات، ومن التحالفات العسكرية إلى الاتفاقيات الاقتصادية. فالشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة يُبنى فيها النفوذ من خلال المليارات، ومشاريع البناء، والاتفاقات الاستراتيجية.