ياسين سعيد نعمان يكتب: هل ستتخلى إيران عن الحوثي؟
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
هل ستتخلى إيران فعلًا عن الحوثي ، سؤال لا يمكن الاجابة عليه بصورة مستقلة عن التطورات التي شهدها الإقليم خلال الفترة الماضية وخاصة :
1/ ما حدث لحزب الله ، وسقوط نظام الأسد والتغيرات الهامة داخل بنية النظام السياسي العراقي ، ناهيك عما يتعرض له الحوثي ومخزون السلاح الايراني الإستراتيجي في مناطق سيطرته من تكسير بواسطة الجيش الأمريكي .
2/ ما يدور داخل أروقة نظام الحكم في إيران وجناحيه الحكومي البراجماتي والمحافظ الأيديولوجي من نقاش حول ما يسمى "محور المقاومة" ، ومدى فائدته حينما يتعلق الأمر بمصالح النظام الايراني الاستراتيجية وما بات يتهدده من مخاطر وعوامل معاكسة .
فيما يخص العنصر الأول ، لا شك في أن ما حدث ، ويحدث قد وضع النظام الإيراني أمام خيارات صعبة بعد أن فقد مشروع التوسع والمقاومة زخمه العسكري والسياسي والشعبي . وراح بعض المحللين السياسيين الايرانيين الذين ينتسبون للنظام أمثال علي مهدي شريعتي يتحدثون عن أن الدولة الايرانية أخذت تتخفف من عبء هذا المشروع ، الأمر الذي سيمكنها من مواجهة التحديات المصيرية .
-أما فيما يخص العنصر الثاني فمن الواضح أن النقاش الداخلي حول الموضوع يتصاعد ، لكنه لم يحسم بعد ، وإن كانت المعطيات السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة ، على نحو عام ، قد أخذت تقدم أكثر من دليل على أن المنهج التوسعي الذي استخدمته إيران من خلال الشحن الطائفي ومن ثم التفعيل العسكري والسياسي لطوائف بعينها في المجتمعات العربية لم يؤد سوى إلى تكسير الدولة في هذه المجتمعات بكلف ضخمة ، دون أن تحقق إيران من ورائها أي فائدة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية دات بعد استراتيجي .
يؤكد هذه الحقيقة الجناح الحكومي البراجماتي في النظام، وإن كان لا يصرح بذلك إعلاميًا، إلا أن القراءة المتأنية للتصريحات التي يطلقها على ألسنة بعض منتسبيه، بين الحين والآخر ، تشي بأن هناك معارضة للكلفة الباهضة التي تتكبدها إيران للانفاق على مشروع فاشل أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه أضحى عبئًا يثقل الاقتصاد والمواطن الايراني ، بل ويهدد النظام من أساسه .
هذه المعارضة تتنامى ، وتستمد حوافز التمسك بموجهاتها من الرفض الشعبي لسياسة النظام ، هذا الرفض الذي أخذ يطوق القلة الحاكمة ، والتي فرضت خياراتها الأيديولوجية التي أخذت خلال السنوات الماضية تضع المنطقة كلها في حالة من الفوضى والحروب والتحفز والاستقطابات . غير أن ما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن مشروع بناء وتمويل المليشيات الطائفية تحت شعار المقاومة كان جزءًا من معادلة الصراع الداخلي بين جناحي النظام الايراني الحاكم .
فطريقة بنائها وتمويلها وارتباطها وتنفيذ مهامها ومنهجها الفكري تنم عن صلتها المباشرة بالجناح الأيديولوجي الذي يقوده الحرس الثوري ويمتد رأسياً الى مؤسسة المرشد ، وهناك شواهد تدل على استقواء هذا الجناح المتشدد بهذا المشروع في تشكيل معادلة الحكم . حتى أن الدعم الذي يقدم لهذه المليشيات يأتي كما قال حسن نصر الله من الموارد التي تتجمع بيد المرشد ( الخمس) وهي ذات طبيعة ايديولوجية تضفي على الدعم مشروعية خاصة ، وتبرئ الدولة الايرانية منها .
أمريكا التي أخذت على عاتقها إدارة توافقات جيواستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة لم تحسم أمرها ، منذ سقوط الشاه عام 1979، فيما يخص الدور التخريبي الذي يقوم به هذا النظام في المنطقة مروراً بحرب العراق وايران حتى إسقاط نظام صدام في العراق وإطلاق يد إيران في العراق .
إدارة بايدن غضت الطرف عما تقوم به إيران من دور في إرباك استقرار المنطقة ، وتعطيل أي محاولة لتحقيق هذا الهدف من خلال عدم السماح بتجسير المسارات السياسية لدولها مع جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتبدو السياسة وكأنها تتحرك في فراغ وبلا محتوى اجتماعي ليسهل اختراق البنى الاجتماعية بمشروعها الانقسامي الطائفي . وعندما أخذ هذا المشروع يصطدم بالمشروع الاسرائيلي ، الذي ينافسه ويتخادم معه ، في نفس الوقت ، على ذلك النحو الذي بات كل منهما يوفر الظروف والاسباب لتقوية بعضهما البعض على حساب استقرار دول المنطقة وإبقائها منطقة صراع وحروب ، أخذت إدارة بايدن تعيد تقييم الوضع بمعايير لم تكن مصالح دول المنطقة حاضرة فيها بالقدر الذي يجعل التدخل مطمئنًا لدول وشعوب المنطقة .
كانت إدارة بايدن تترنح ، ولطالما ترددت في وضع استراتيجية واضحة المعالم للتعاطي مع خطر هذا المشروع على أمن المنطقة ومصالحها ، فيما عدا ما يتعلق بالمساس بأمن اسرائيل وأمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر ، والڤيتو على انتاج السلاح النووي ، الامر الذي شعرت معه شعوب المنطقة وحكوماتها بالخيبة ، وعدم التعاطي ، من ثم ، مع المواجهات المحدودة التي أعلنتها مع مشروع التوسع الايراني ، حيث تأسست هذه المواجهة على عنصرين : أمن الملاحة الدولية ، وأمن اسرائيل ، وأغفلت ما يتعرض له أمن دول المنطقة واستقرارها ومستقبل شعوبها من مخاطر .
لقد ظلت المواجهة بلا محتوى سياسي قادر على أن يطلق ثقة من نوع ما لدى شعوب وحكومات المنطقة تجعلها ذات معنى حينما يتعلق الأمر بربط أمن دول المنطقة بأمن الملاحة الدولية وتوفير شروط تحقيق الامن الاقليمي والدولي ، حتى جاء ترمب الذي نقل المواجهة مع هذا المشروع الى طور جديد ، بدأ بإعادة المليشيات الحوثي إلى قائمة الارهاب ، مع إجراءات تنفيذية لا تتوقف بالقرار عند حدوده الشكلية كما يحدث أحيانًا كثيرة ، وأصبحت سياسة الادارة الأمريكية الجديدة تعمل على مستويين : المستوى الأول خطاب متشدد موجه في الأساس الى الجناح الايديولوجي المتطرف من ناحية ، وخطاب ناعم لدعم الجناح البراجماتي في النظام من ناحية أخرى، وهذا أمر مقبول ديبلوماسيًا من دولة عظمى كالولايات المتحدة الامريكية التي تحاول أن تحدث تغيرات سياسية واستقطابات إجتماعية داخل النظام كي يقبل بالتفاهمات التي تطرحها معه على أكثر من صعيد ، ذلك أن هدفها في نهاية المطاف هو تقليم مخالب هذا النظام وتطويعه ، فإذا تمكنت من ذلك ديبلوماسياً فسيكفيها ذلك مشقة الحل الخشن والذي ستكون كلفته عالية ولا شك .
وبصورة موازية لهذه السياسة كان لا بد من مواصلة تكسير وإضعاف أذرع إيران ومخازن أسلحتها الضخمة والاستراتيجية في المناطق التي تسيطر عليها هذه الاذرع ، ومنها اليمن حيث أخذت إيران تتوسع في تخزين وتكديس الطائرات المسيرة والصواريخ بصورة لا يمكن لأي عاقل أن يصدق أن المليشيات الحوثية قادرة على تملك وإدارة هذه الترسانة الضخمة والمعقدة من الاسلحة . صحيح أن هده العملية تتم تحت شعار حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن ، وما يرافق ذلك من إعلان عن أن استمراها رهن بتوقف الحوثي عن تعطيل الملاحة في الممرات الدولية ، غير أن الحقيقة هي أن أمريكا ، ومعها المجتمع الدولي ، أدركت خطورة بقاء الحوثي كحارس لهذه المنصة العسكرية الايرانية في هذه المنطقة الحساسة من العالم ، وقررت بسبب ذلك العمل على كسر هذا الجيب الذي عمدت إيران على أن تجعل منه مركز استراتيجي لإعادة تجميع أشلاء أذرعها ، وقد أشرنا إلى هذه المسألة في مقالات سابقة وفي فترة مبكرة .
الحوثي من الناحية العملية هو حصان الرهان الذي تلعب عليه إيران في مفاوضاتها التي ستبدأ يوم السبت 13 ابريل بعد أن خسرت أذرعها الأخرى . وهي بكل تأكيد سترضخ للقرار الأمريكي الذي يقضي بمنع انتاج السلاح النووي ، وربما تفكيك البرنامج النووي بأكمله . "ويتكوف" المبعوث الامريكي ورئيس المفاوضين في مسقط، قال "قد تكون هناك حاجة لتقديم تنازلات لإيران مقابل تخليها عن البرنامج النووي " ، فهل يكون الحوثي في دائرة ما تفكر فيه أميركا من تنازلات لإيران . ستسعى إيران للتمسك بهذا " المنجز" ، وستقدم تنازلات بهدف إعادة تحسين صورته بالحديث عن تسوية لا تقوم على أسس سليمة لتمكينه من الاستمرار بصورة تراهن على الوقت وما يحدثه من تغيرات ، يظل فيها اليمن رهنًا بما يستجد وفقًا لهذه المتغيرات .
لذا على اليمنيين أن يتنبهوا لهذا الفخ ويبحثوا مع أشقائهم في المنطقة خطورة أن يكون الحوثي الثمن الذي تطلبه إيران مقابل النووي إرضاء لمؤسسة المرشد والجناح الايديولوجي المتشدد ، كي لا يبدو وكأنه قد هزم في المعركة الداخلية للنظام .
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: اليمن إيران الحوثي أمريكا هذا المشروع دول المنطقة
إقرأ أيضاً:
د. هاني العدوان يكتب ..
#سواليف
#علو_الكيان_الأخير وسقوطه الحتمي
#الدكتور_هاني #العدوان
#غزة محراب الحقيقة وساحة المحاسبة، في شوارعها المنكوبة تتساقط الأقنعة، وتتهشم الروايات، وتعلو صرخة الدم فوق ضجيج التضليل، الكيان يقف أمام مرآة المصير، محاصرا بعيون الضحايا، وأشلاء الأبرياء، وركام المدن التي أبيدت على مرأى العالم، كل طلعة جوية، كل غارة، كل قذيفة، سجل موثق في دفتر الإدانة، وشاهد لا يسقط بالتقادم، أطفال خرجوا من تحت الردم، أحياء أو موتى، يحملون في ملامحهم شهادة على الوحشية العارية، أمهات يحضن الرماد، يبحثن عن بقية من قلب أو صوت
أما الذين باركوا، والداعمون الذين مولوا، والصامتون الذين تواطأوا، فالجميع بات مكشوفا في محكمة الوعي الإنساني
غزة تحولت إلى عدسة صارخة، كشفت الكيان، وهزت كل من تحالف معه أو التزم الصمت أو انحاز للخيانة
من هنا تبدأ الحكاية
ومن هنا يبدأ السقوط الكبير، سقوط العلو، وزوال الزيف، ونهاية خرافة لن تصمد أمام شظايا الحقيقة
وتبدأ القصة.
فما كان يُكتب بالإعلام ويُرسم بالدعاية قد سقط في الميدان، وانكشفت صورة الكيان بلا قناع، فبعد أن كان يصور نفسه مظلوما محاصرا بين جموع من العرب المتعطشين لزواله، يتوسل الحماية ويطلب التعاطف، ظهر أمام العالم وهو يفتك بالجوعى والعزل، يقصف الأطفال والنساء، ويمحو المدن عن بكرة أبيها بلا هوادة، وبغريزة الموت والتدمير
العالم لم يعد أعمى كما كان، لأن المشهد خرج من عباءة الرواية إلى عدسات الحقيقة، والغرب الذي طالما مول ودافع، وجد نفسه لأول مرة في مواجهة غضب داخلي، وتظاهرات عارمة تنقض روايته، وتطالب بوقف الدعم للقاتل لا المجني عليه، انقلبت الموازين واهتزت الثقة، بدأ الحديث في عواصم القرار عن ضرورة فرض تسوية، لا حبا في الفلسطيني ولا عداء للكيان، بل لأن الوحشية خرجت عن السيطرة، وباتت تهدد البنية الأخلاقية للغرب ذاته
لكن السؤال الأهم، ما هي نهاية هذا العدوان، تشير المؤشرات الواقعية أن الكيان قد خسر أهم ما كان يملكه، صورته، وتماسك جبهته الداخلية، وورقة التعاطف الدولي، لكن في المقابل هو لا يزال يمتلك دعما أميركيا مطلقا، ومظلة نووية، وقرارا سياسيا متطرفا لا يرى في التسوية إلا هزيمة، وما مصادقة الكنيست على ضم الضفة وغور الأردن، الا تحديا صارخا للإرادة الدولية كعادته، ضاربا بعرض الحائط كل مفاهيم الشرعية، ومتمسكا بعقيدة التوسع، لا السلم
المشهد لم يكتمل بعد، فالمجازر لم تتوقف، والدم ما زال ينزف، لكن في الأفق تظهر احتمالات لتسوية ما، دولة فلسطينية بشروط لا ترقى لدولة، تُحاصر بالاعتراف، وتُجرد من السيادة، وتُفرض على الفلسطينيين بإكراه سياسي ودولي، والكيان قد يوافق على هذا الكيان الناقص، ليس عن قناعة، بل ليكسب وقتا ويرمم شرعيته، ويحول الأنظار عن جرائمه، لكنه لن يخضع بسهولة، فالعقيدة الصهيونية لا تؤمن بدولة فلسطينية، ولا ترى للفلسطينيين أي حق تاريخي، واليمين الإسرائيلي الحاكم اليوم يتبنى رؤى أكثر تطرفا من جابوتنسكي وبن غوريون أنفسهم
الولايات المتحدة ما زالت حارسة الحلم الصهيوني، لكنها الآن تعاني اهتزازا داخليا، وتراجعا في قوتها الأخلاقية عالميا، وفي ظل الضعف الأوروبي، والتردد الروسي، والانشغال الصيني، يواصل الكيان عربدته في سوريا، وفي لبنان واليمن، وتهديداته المستمرة لإيران، وكأنه يلوح أن لا أحد سيوقفه، وأنه سيكتب مستقبل الشرق الأوسط بيده، وبنار طائراته، لكن الحقيقة أن كل قوة متغطرسة تبلغ ذروتها قبل سقوطها، وتلك سنة التاريخ لا تخطئ
أوراق نجاحه ما تزال حاضرة، التفوق العسكري، الدعم الأميركي، ضعف الإرادة العربية الرسمية، الانقسام الفلسطيني، والحالة العامة من اليأس التي تعم المنطقة لكن أوراق فشله تتراكم، العزلة الدولية، تفكك الجبهة الداخلية، تصاعد المقاومة، انكشاف صورته، تنامي الوعي العالمي، وغضب الشعوب
الدول العربية ما زالت تتأرجح بين الصمت والارتباك، بين الحرج والارتهان، بين شعوب حية وحكومات تخشى الحقيقة، إنما الإرادة الجمعية العربية لم تسقط، ما زالت تنبض، وما زالت غزة توقظ فيها كل نداء، وكل ذاكرة، الشعب المصري لم ينس، ولا الأردني، ولا السوري، ولا الخليجي، رغم اتفاقيات السلام والتطبيع الهش
كل المؤشرات تشي إلى أن العرب سنهضون، نعم لإن فلسطين ليست قضية شعب فقط، بل قضية كرامة أمة
إلى أين ستؤول الأمور، الخيارات كلها مفتوحة على الجراح والاحتمالات، فالعالم على حافة حروب إقليمية قد تخرج عن السيطرة، وحرب عالمية قد تشتعل من خاصرة الشرق، خاصة إذا استمر الكيان بجرائمه بحق الشعب الفلسطيني وإذا ارتكب حماقة كبرى بضرب إيران من جديد أو اجتياح جنوب لبنان، أو استفزازات دائمة في جنوب سوريا، العالم ينهار اقتصاديا، ويتغير من الداخل، والنظام الدولي كما نعرفه يتفكك ببطء
ما بعد غزة ليس كما قبلها، والكيان الآن أمام ثلاث احتمالات، إما أن يخضع لإرادة دولية تفرض عليه حدودا، وإما أن يواصل عدوانه حتى الانفجار الكبير، أو أن يسقط من داخله حين تتفكك روايته ويهتز مجتمعه، النهاية الأكيدة ليست واضحة بعد، لكنها تقترب، فحين تصرخ الأرض بهذا الحجم من الدم، لا بد أن يحدث شيء، لا بد أن تتغير قواعد اللعبة، ولا بد أن تستفيق الأمة من هذا السبات الطويل، وكل المؤشرات تقول، فلسطين لن تموت، ولا الشعوب، والكيان إلى الزوال، عاجلا أم آجلا، فالزمن لا يحمي الكيانات المصنوعة بالخوف، والمبنية على الدم
لكن ما لا تدركه القوى العظمى، وما تتجاهله النخب المتحالفة مع هذا الكيان، أن هناك إرادة إلهية ستتحقق، لا محالة، ففكر هذا الكيان ليس إلا تمظهرا للفكر اليهودي الذي كتب الله عليه الشتات، وأعلن عليه اللعنة، لعصيانه ولعداوته المطلقة للحق والعدل والنبوة والإنسانية، لم يكن اليهود في التاريخ أصحاب دولة راسخة، ولا حضارة مؤثرة، بل ظلوا دوما تابعين داخل حضارات أعظم، من الفراعنة إلى البابليين، ثم الفرس فالرومان، فالإسلام، لم تكن لهم دولة ذات سيادة إلا لعقود معدودة في زمن داود وسليمان عليهما السلام، وسرعان ما مزقوها بعصيانهم، فدمرها الآشوريون، ثم البابليون، وشردوهم في الأرض
كتب الله عليهم الشتات لأنهم قتلوا الأنبياء، وفسدوا في الأرض، وعادوا المسيح عليه السلام، وصلبوه ظنا منهم أنهم أطفؤوا النور، لكن النور عاد، وتحولت اللعنة عليهم في كتبهم قبل كتبنا، ففي الإنجيل ورد “ها هو بيتكم يُترك لكم خرابا”، وقال المسيح عنهم “أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قتالا للناس من البدء”، وفي التوراة نفسها نجد نبوءات عن اللعنة والتشتيت والعقاب، لكنهم حرفوها وجعلوا أنفسهم الضحية الدائمة
أما القرآن الكريم، فقد جاء بالنص القاطع، لا يحتمل التأويل، ولا يدع مجالا للشك، قال تعالى
“وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا”
وهذا العلو الثاني، هو ما نراه الآن، علو فوق كل علو، بدعم عالمي، وسطوة إعلامية، وسطوة سياسية، واستباحة للأرض والعرض والحق
ثم قال
“فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا”، أي جمعناهم من كل أصقاع الأرض، وهو ما حدث بالفعل، عادوا من أكثر من مئة دولة، اجتمعوا في بقعة ضيقة، تمهيدا للنهاية المحتومة
ثم يأتي الوعد القاطع
“فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا”
هذه ليست أمنيات، بل وعد من الله، والتتبير هنا هو الإزالة الكاملة، المحق، الاجتثاث، ومن هم أولئك الذين سيقومون بهذه المهمة
قال تعالى
“بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار”
عباد لله بالفعل والعقيدة والجهاد، أولي بأس، أي أصحاب قوة وإيمان ووعي، يجوسون خلال الديار، أي يخترقون العمق، لا توقفهم الحدود، ولا تحكمهم السياسات
من هم، قد يكونون من فلسطين، أو من محيطها، من أكناف بيت المقدس أو من شعوب نهضت من تحت الرماد، لكن المؤكد أنهم ليسوا من العابرين العابرين، بل من حملة الحق، ومشروع المقاومة، وأصحاب الوعد الإلهي الأخير
وهكذا، فإن هذا الكيان الذي يحاول أن يفرض نفسه كقوة لا تقهر، إنما يسير بخطى متسارعة نحو نهايته، لأن الزمن تجاوزه، والتاريخ لفظه، والسماء حكمت عليه بالفناء، إن الأرض لن تقبل كيانا قام على الدم والخداع، والشعوب لن تبقى إلى الأبد تحت القهر، والحق لا يموت، وإن طاله التأجيل
وفي نهاية المطاف، فإن كل العلو والزيف سينهار، وسينكشف الغطاء، وسيعود المسجد الأقصى لأهله، وتزول هذه الأسطورة الملفقة من صفحات التاريخ، كما زالت أمثالها، وتبقى الأرض لمن يعمرها بالعدل، لا بالقتل، ولمن يقيم فيها ميزان الله، لا ميزان الطغيان
وإلى الذين انساقوا خلف أسطورة الكيان، وانخدعوا ببريق القوة الأمريكية الزائل، وأعمتهم المناصب ومكاسب الدنيا، عودوا إلى كتاب الله، إلى وعده الحق، ونوره الذي لا يخبو، قبل أن تُطوى صحائفكم وتُساقوا إلى مقام لا ينفع فيه مال ولا سلطان
أين أنتم من الحق، أين أنتم من الوعد الإلهي الذي لا يخلف
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض
تذكروا قبل أن يطويكم الغياب
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
فهل أعددتم للسؤال جوابا