وسط عالم يتسارع نحو التكنولوجيا ويغرق في تعقيدات السوق، يبرز صوتٌ فلسفي نادر يدعو إلى التوقف، لا لمجرد التأمل، بل لإعادة النظر في الأسس التي نقيم عليها علومنا الاقتصادية الحديثة، وفي كتابه الأخير«الاقتصاد، علم همجي» يقترح الباحث والمفكر ألكسيس روستاند قراءة مغايرة للاقتصاد لا تنطلق من مناهج الرياضيات أو نظريات العرض والطلب، بل من صميم الفلسفة الأخلاقية ومن تساؤل بسيط: لماذا فقد الاقتصاد علاقته بالروح؟

ينطلق روستاند من قناعة مفادها أن الاقتصاد، وقد تحوّل إلى «علم مهيمن»، انفصل تدريجيًا عن الفلسفة التي أنجبته، لينزلق في مسار تقني جامد يفكك الواقع دون أن يمنحه معنى، وفي ظل هذا الانفصال، يقول: إننا أنتجنا جيلًا من «الهمج الجدد» - اختصاصيين بارعين في أدواتهم، لكنهم عاجزون عن إدراك المعنى الأوسع لأفعالهم، هؤلاء، كما يصفهم، قد يحسنون إدارة الشركات والبورصات، لكنهم لا يعرفون شيئًا عن «العناية بالروح»، التي كانت في قلب الفلسفات الكلاسيكية.

في هذا السياق، أجرينا مع ألكسيس روستاند الحوار التالي، والذي يتقاطع مع أطروحاته الفكرية في كتابه الأخير، لنستكشف معه كيف يمكن إعادة الاعتبار للبعد الإنساني في الاقتصاد، وما إذا كان بإمكان الفلسفة أن تنقذ الأسواق من غطرسة الأرقام، وترد للاقتصاد روحه الضائعة؟

**********************************************************************

في حديث لكم في أحد البرامج الحوارية بعنوان «هل الاقتصاد علم همجي؟»، أشرتم إلى أن هذا الحقل كثيرًا ما يتجاهل الأبعاد الأخلاقية والإنسانية، كيف يمكن من وجهة نظركم إعادة تشكيل النظريات الاقتصادية لتدمج العدالة الاجتماعية والاعتبارات الأخلاقية؟

لإعادة تشكيل النظريات الاقتصادية بحيث تتسع لتشمل مفاهيم العدالة الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية، أعتقد أنه من الضروري أن نتذكر فكرتين أساسيتين تناولتهما في مؤلفاتي.

أولًا: لا بد من إعادة ربط علم الاقتصاد بجذوره الفلسفية، فقد نشأ هذا العلم في رحم الفلسفة الأخلاقية، ويجب علينا استرداد هذا الإرث، ولنتذكر أن آدم سميث، أحد أبرز أعلام الاقتصاد، كان في الأصل فيلسوفًا أخلاقيًا، كتب بإسهاب حول مفاهيم التعاطف والروابط الإنسانية في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» قبل أن ينشر «ثروة الأمم»، من هذا المنطلق، ينبغي إعادة دمج الاقتصاد في المجتمع، بكل أبعاده، كما عبّر عن ذلك كارل بولاني بشكل شهير.

ثانيًا: ينبغي أن نعتمد التعددية المنهجية، إذ أن الصيغة الرياضية المهيمنة على علم الاقتصاد اليوم يجب أن تُكمل برؤى من علم الإنسان، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، وهذا يعني الاعتراف بالأدلة النوعية جنبًا إلى جنب مع البيانات الكمية، والتسليم بحدود النماذج الرياضية النيوكلاسيكية.

**********************************************************************

هل تعتقدون أن التركيز المستمر على تحقيق الربح وزيادة الكفاءة يمكن أن يضر بالمجتمع؟

في أطروحاتي لا أوجه النقد فقط لهدف الاقتصاد أو لتجاوزات السعي غير المنضبط نحو الربح، فذلك أمر كثيرًا ما تم التطرق إليه، تركيزي ينصب بالأحرى على نتائج تجزئة المعرفة التي تدفع جامعاتنا اليوم لإنتاج ما أسميهم «الهمج»، أي أولئك المتخصصين في مجالاتهم ولكنهم غير قادرين على التفكير خارج حدود تخصصهم.

والنتيجة، رغم ما يبدو من كفاءة في الأنظمة التي يديرها هؤلاء، هي فقدان المعنى واختفاء ما أطلق عليه أفلاطون وباتوكا وماتّيي «العناية بالروح»، وفي هذا السياق، فإن السعي المحض إلى تعظيم الأرباح ليس السبب بقدر ما هو نتيجة يائسة لتخلي مجتمعاتنا، لا سيما في أوروبا، عن أحد أسسها الروحية المتمثل في السعي إلى الخلاص الذاتي.

**********************************************************************

هناك نقاش متزايد حول مفهوم الدخل الأساسي الشامل. ما رأيكم في هذا النموذج كحل محتمل لمستقبل سوق العمل؟

لم يسبق أن جذبني هذا الطرح، لسبب بسيط: إن تقنين «الحق المكتسب» لم يكن يومًا في صالح التقدم، حتى وإن جاء باسم العدالة الاجتماعية. لا أرى فقط أن هذا الأمر قد يؤدي إلى آثار عكسية، مثل تقويض قيمة العمل -وهو أمر أعاينه شخصيًا في فرنسا- بل أعتقد من منطلق فلسفي أن العمل هو شرط من شروط الكرامة الإنسانية.

من هنا، فإن ما ينبغي السعي إليه هو خلق شروط اجتماعية واقتصادية تتيح للناس تحقيق ذواتهم من خلال العمل، بكل أشكاله، وبأقصى قدر من الحرية، بدلًا من منح تعويضات تعسفية لا تحفز على العمل ولا على الاستكشاف الإنساني.

**********************************************************************

لو أُتيحت لكم الفرصة لإعادة تصميم أحد الأنظمة الاقتصادية الكبرى -كالنظام النقدي أو الهيكل المالي أو أطر التجارة- ما التغيير الجوهري الذي ستجرونه؟

السؤال جريء، ولكن حتى لو سنحت لي الفرصة وحدي لإعادة تصميم أحد هذه الأنظمة، لما فعلت. لأنني أعتقد أن التطوير المتناغم للاقتصادات والمجتمعات لا يأتي من التصاميم السلطوية، بل من التعديلات الفاضلة، والنقاش الحر - disputatio - إن جاز التعبير.

ولنأخذ مثالًا واحدًا هو الحواجز الجمركية؛ يمكننا اليوم أن نلاحظ أن سياسة خفضها بشكل ممنهج، كما روجت لها منظمة التجارة العالمية منذ اتفاقيات «الجات»، قد خلّفت آثارًا ضخمة، تُعد من بين أسباب سياسات الرئيس ترامب. ومن ثم، لو تسنّى لي إحداث تغيير، فسيكون بإعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية في أولويات صانعي القرار، وإبراز أهمية الفكر الفلسفي، الذي يعبّر عنه مجتمع الفلاسفة من مختلف المشارب. ولو تحقق ذلك، لكان في رأيي إنجازًا كبيرًا.

**********************************************************************

هل تعتقدون أن للاقتصاديين تأثيرًا حقيقيًا على السياسات الحكومية، أم أن الاقتصاد يُستخدم فقط كأداة لتبرير القرارات السياسية؟

نعم، أعتقد أن للاقتصاديين -باعتبارهم خبراء في تدبير «البيت»، كما يدل عليه أصل الكلمة «oikos»- دورًا مؤثرًا يجب أن يبقى فاعلًا في السياسات العامة. كثير من هذه السياسات، للأسف، تصدر عن فهم محدود بالآليات الاقتصادية، وتُوجّه أساسًا بحسب ما يخدم فرص إعادة الانتخاب كل أربع أو خمس سنوات، بدلًا من التركيز على الصالح العام.

لذلك، لو أمكن الجمع بين هذين المعسكرين -الاقتصادي والسياسي- من خلال أفق أعلى مستمد من الفلسفة ومسكون بفكرة الخير المشترك، فسيسعدني ذلك كثيرًا.

**********************************************************************

ما هي، في رأيكم، القوى الأكثر تأثيرًا في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي اليوم؟ وهل تقود هذه التحولات نحو عدالة أكبر أم إلى مزيد من الاضطراب؟

بصورة لافتة، نشهد اليوم عودة السياسة والجغرافيا السياسية، وهي تعصف بالأساطير التي نسجها الغرب حول السوق العالمي، والتي روج لها بدافع نشوة النجاح الاقتصادي الظاهري. فعودة الحروب، بما في ذلك الحروب الاقتصادية، تعني عودة السياسة، وبالتالي -وفقًا لتعريف كارل شميت الجوهري- عودة جدلية «الصديق - العدو».

ولا يشغلني كثيرًا التساؤل عما إذا كانت هذه العودة ستقود إلى عالم أكثر عدالة أو إلى مزيد من الاضطراب، رغم أن الفرضية الثانية هي الأقرب للواقع حاليًا. ما يشغلني هو ضرورة استعادة شغفنا بالتاريخ والجغرافيا والفلسفة، وأخيرًا، بدراسة الحضارات. إذ لا سبيل لفهم ما يحدث لنا اليوم إلا بهذه العدّة المفاهيمية التي تتيح لنا الإبحار في هذا العالم الغامض والمثير.

**********************************************************************

هل ستبقى الاقتصادات الوطنية ذات أهمية مستقبلًا، أم أن العولمة والرقمنة ستجعل الحدود الاقتصادية غير ذات معنى؟

نحن نشهد بالفعل، كما بات من الشائع قوله، نهاية مرحلة من العولمة، والتي ساهمت في تعميق التفاوتات داخل المجتمعات على المستوى العالمي، وهذا واقع أراه مؤكدًا. لذا، أؤمن بعودة اعتبار الاقتصادات الوطنية، والسعي للحفاظ على التوازنات السياسية.

في هذا السياق، أجد أن الأسابيع الأولى من رئاسة دونالد ترامب كانت رمزية للغاية، وأنا لا أعتقد أنها كانت حادثة عرضية. بل على العكس، أرى أن عودة السياسة تستلزم إخضاع الفاعلين الاقتصاديين الذين استفادوا إلى أقصى حد من تلك العولمة، والتي أثبتت اليوم آثارها السلبية، وخصوصًا في ما يسمى بالاقتصادات المتقدمة.

**********************************************************************

عند النظر إلى العقود المقبلة، كيف ترون أثر الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية (FinTech) على طبيعة الاقتصاد وسوق العمل؟

من الصعب تقديم إجابة حاسمة، ولأكون صريحًا، لا أدري. ما يمكنني قوله، كما يشير العديد من المراقبين، هو أن القوة التكنولوجية المتفجرة ستواصل إعادة تشكيل بيئاتنا بطرق مذهلة، مولدة فرصًا كبيرة كما شهدنا خلال العقود الأربعة الماضية، لا سيما في مجال التكنولوجيا المالية.

ولكن من الواضح بالنسبة لي، أن الذكاء الاصطناعي، رغم قدرته على أداء مهام معقدة بسهولة، لا يمكن مجابهة طابعه اللاإنساني إلا بتنمية مهارات لا تستطيع الآلة تقليدها -أي بتغذية ما تبقى لنا من روح. وهذا أمر مخيف، ولكنه أيضًا كاشف لجوانب عميقة من إنسانيتنا. وهنا يحضرني الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال الذي ذكرنا بأن «عظمة الإنسان تكمن في ضعفه».

**********************************************************************

ألكسيس روستاند - مفكر اقتصادي وكاتب فرنسي، مؤلف كتاب «الاقتصاد، علم همجي» (2024)

باحث في الفلسفة السياسية والاقتصاد الأخلاقي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إعادة تشکیل أعتقد أن کثیر ا فی هذا

إقرأ أيضاً:

مساء اليوم.. حفل غنائي ضخم لـ تامر حسني ضمن فعاليات مهرجان العلمين الجديدة 2025

يترقب الجمهور ظهور نجم الجيل، الفنان تامر حسني، في حفل غنائي ضخم، يقام مساء اليوم الجمعة، على مسرح أرينا، ضمن فعاليات النسخة الثالثة من مهرجان العلمين الجديدة 2025.

حفل تامر حسني في العلمين

ويشارك تامر في الحفل الفنان السوري الصاعد بقوة الشامي، كـ مفاجأة الحفل، بعد النجاح الكبير الذي حققه بأول دويتو جمع بينهما «ملكة جمال الكون» والذي يظهر للمرة الأولى في مهرجان العلمين.

تامر حسني والشامي

ويتساءل الجمهور كيف سيدخل النجم تامر حسنى حفله في مهرجان العلمين بدورته الثالثة، لأنه في الدورة الأولى للمهرجان دخل تامر حسنى المسرح بعرض مبهر معلق بالأحبال ومرتديا بدله تاج من فيلمه تاج مما جعل الجماهير في حالي إبهار و تصفيق كثيف.

ويحظى الحفل المنتظر باهتمام جماهيري واسع، حيث يعد أول ظهور لتامر حسني بعد إطلاق ألبومه الجديد «لينا معاد»، الذي طرح خلال الأيام الفائتة عبر المنصات الموسيقية وموقع يوتيوب.

تامر حسني والشامي قواعد وإرشادات حفل تامر حسني والشامي بالعلمين الجديدة

وأوضحت شركة «تذكرتي» عبر صفحتها الرسمية على موقع «فيس بوك» قواعد وإرشادات حفل تامر حسني والشامي بالعلمين الجديدة، والتي جاءت كالآتي:

- تفتتح البوابات الساعة السادسة مساءً.

- يرجي طباعة واستلام التذكرة الورقية من خلال الفروع الخاصة بنا.

- غير مسموح بدخول الأطفال أقل من 12 سنة.

- غير مسموح بدخول المواد المشتعلة.

أسعار تذاكر حفل تامر حسني في مهرجان العلمين 2025

وبالرغم من إقامة الحفل الليلة، ولكن مازال يمكن شراء تذاكر حفل تامر حسني في العلمين عبر موقع تذكرتي، حيث أتيحت بأسعار متفاوتة لتناسب كافة شرائح الجمهور، وتأتي أسعار تذاكر على النحو الآتي:

- تذكرة الـragular بـ 850 جنيهًا.

- تذكرة الـfan pit بـ1500 جنيه.

- تذكرة الـfront line بـ6000 جنيه.

- تذكرة الـhigh tabels لخمسة أفراد بـ75 ألف جنيه.

- تذكرة الـlounges لثمانِي أفراد بـ150 ألف جنيه.

حفل تامر حسني والشامي في مهرجان العلمين
رابط وخطوات حجز تذاكر حفل تامر حسني في العلمين

ويمكن حجز وشراء تذاكر حفل تامر حسني عبر منصة تذكرتي من خلال اتباع الخطوات التالية:

-الدخول إلى موقع تذكرتي.

-اختر حفلات مهرجان العلمين Al Alamein Festival 2025.

-اختر حفل تامر حسني والشاب الشامي.

-اضغط على حجز التذاكر.

-سجل الدخول للموقع.

-اختر فئة التذاكر وعددها.

-حدد طريقة الدفع الإلكتروني لتأكيد الشراء.

اقرأ أيضاً«البرنسيسة الطاغية».. تامر حسني يوجه رسالة لـ مي عز الدين لهذا السبب

جمهور تامر حسني يترقب حفل مهرجان العلمين الجديدة 2025.. جدول مواعيد الحفلات

«خلونا نشوفكم تاني».. تامر حسني يطرح أحدث أعماله من ألبوم «لينا ميعاد»

مقالات مشابهة

  • اليمن نموذج فريد للمقاومة الاقتصادية.. لا بضائع أمريكية ولا (إسرائيلية) في الأسواق
  • الجماز: تأخير صفقات الهلال يتكرر رغم مطالب إنزاغي
  • عبد الله جول: أصبح العالم هشًا ولا يحترم القواعد
  • تحذير هام بشأن واقيات الشمس التي تستخدم “مرة واحدة في اليوم”
  • حتى تحتفظ بلياقتك.. كم عدد الخطوات التي تحتاجها حقا في اليوم؟
  • وزيرة الاقتصاد والمالية: يمكن أن نراجع التوقعات الاقتصادية للميزانية جراء تداعيات التوترات
  • مساء اليوم.. حفل غنائي ضخم لـ تامر حسني ضمن فعاليات مهرجان العلمين الجديدة 2025
  • تصريح محافظ حلب المهندس عزام الغريب لـ سانا حول أهمية المنتدى الاستثماري السوري السعودي في مشاريع إعادة الإعمار
  • شبكة النفوذ الجديدة: كيف يعيد شقيق الرئيس أحمد الشرع رسم ملامح الاقتصاد السوري في الظل؟
  • رئيس اتحاد غرف التجارة السورية علاء العلي لـ سانا: الاتفاقيات والشراكات التي أبرمت مع الأشقاء في السعودية اليوم ترتقي بالعلاقات الاقتصادية بين بلدينا نحو الشراكة الشاملة ما سيساهم في تحفيز النمو الاقتصادي المستدام في سوريا