منذ نهاية الحرب الباردة، كان من المتوقع إلى حد كبير أن تتبع الولايات المتحدة أحد مسارين في السياسة الخارجية؛ إما الحفاظ على مكانة البلاد رائدة للنظام الدولي الليبرالي وإما الانسحاب والتكيف مع عالم ما بعد الولايات المتحدة متعدد الأقطاب، وفق مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية.

لكن الأكاديمي والباحث الأميركي مايكل بيكلي كتب في مقاله هذا أن الولايات المتحدة ربما اختارت، على الأرجح، أن تسلك مسارا ثالثا، وهو أن تصبح قوة عظمى مارقة، لا هي دولية ولا انعزالية، بل عدوانية وقوية وتسعى دوما إلى تحقيق مصالحها وتتصرف باستقلالية في الشؤون العالمية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف خانت جامعة كولومبيا قسم الشرق الأوسط فيها؟list 2 of 2صحف عالمية: ما يحدث في غزة قرار سياسي وليس فشلا إنسانياend of list

وقال إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدّم تعريفا فظا لهذه الرؤية برفع التعريفات الجمركية وخفض المساعدات الخارجية، وازدراء الحلفاء، واقتراح الاستيلاء على أراضٍ أجنبية، بما فيها غرينلاند وقناة بنما.

الولايات المتحدة ربما اختارت أن تصبح قوة عظمى مارقة، لا هي دولية ولا انعزالية، بل عدوانية وقوية وتسعى دوما إلى تحقيق مصالحها وتتصرف باستقلالية في الشؤون العالمية

وأضاف أن أحد الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تتصرف بمفردها هو أنها تستطيع ذلك. فعلى الرغم من عقود من التحذيرات من التراجع، إلا أنها لا تزال تمتلك قوة عالمية هائلة، عسكرية واقتصادية وتكنولوجية.

وأوضح أن للولايات المتحدة سوقا محلية استهلاكية ضخمة تنافس حجم الأسواق في الصين ومنطقة اليورو مجتمعة، وهيمنة مالية عالمية، ونفوذا عسكريا لا مثيل له ولا تضاهيها فيه دولة أخرى. كما أنها أقل اعتمادا على التجارة الدولية والعمالة الأجنبية، على عكس معظم الدول.

إعلان

وفي عالم يعتمد على جيش الولايات المتحدة وأسواقها إلى حد كبير، تتمتع واشنطن بنفوذ هائل يمنحها القدرة على مراجعة القواعد أو التخلي عنها تماما، كما يدعي بيكلي الذي يعمل أستاذا مشاركا في العلوم السياسية في جامعة تافتس.

ويشرح الكاتب في مقال الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تجنح إلى أن تصبح دولة "مارقة"، حيث يرى أن النظام الليبرالي الذي بنته أصبح الآن عبئا عليها لأنه يقوّي خصومها مثل روسيا والصين، بينما يسبب ألما اقتصاديا في الداخل.

ولقد أصبح حلفاؤها يعولون عليها مفرطين لأنهم ربما غير راغبين أو عاجزون عن تحمل وطأة الحفاظ على الأمن الدولي. ثم إن رد الفعل العنيف داخل الولايات المتحدة على العولمة دفعها إلى تأجيج النزعة الحمائية والقومية، وفق المقال.

ويعتقد بيكلي -الذي يعمل أيضا باحثا غير مقيم في معهد "أميركان إنتربرايز" في واشنطن– أن الاتجاهات العالمية تعزز التحول في السياسة الأميركية. ومن الأمثلة على ذلك، أن التغير الديمغرافي السريع يضعف القوى العظمى، خاصة في منطقة أوراسيا، ويزعزع الاستقرار في مناطق واسعة من العالم النامي.

التكنولوجيات الجديدة ومنها الذكاء الاصطناعي، تقلل من حاجة الولايات المتحدة إلى العمالة الأجنبية والطاقة والقواعد العسكرية الكبيرة

وفي الوقت نفسه، تقلل التكنولوجيات الجديدة والذكاء الاصطناعي من حاجة الولايات المتحدة إلى العمالة الأجنبية والطاقة والقواعد العسكرية الكبيرة، طبقا لبيكلي الذي يضيف أن الجيش الأميركي يتحول من الردع بالحضور عسكريا إلى القدرة على توجيه ضربات دقيقة من بُعد.

لكن النزعة الأحادية "المنفلتة" -على حد تعبير المقال- تنطوي على مخاطر إذ قد تفضي إلى تدمير التحالفات وزعزعة استقرار النظام العالمي، وقد تتسبب الرسوم الجمركية والسياسة الاقتصادية العسكرية في استفزاز منافسين مثل الصين وتؤدي إلى صراع مفتوح.

إضافة إلى ذلك، فإن تنازل الولايات المتحدة عن مناطق النفوذ لروسيا والصين قد يؤدي إلى توسعهما وليس احتواءهما.

إعلان

والنتيجة -برأي كاتب المقال- هي عدم تناسق متزايد يتمثل في فوضى متصاعدة وحلفاء ضعفاء من جانب، واكتفاء ذاتي أميركي متعاظم من جانب آخر. ومع اتساع هذه الفجوة، ستواجه واشنطن إغراءات أقوى للتصرف بمفردها.

واشنطن يمكنها أن تختار القومية المتهورة، أو أن تعيد تشكيل النظام العالمي بإرساء تحالف محكم من الشركاء القادرين، والاستفادة من نقاط قوتها لبناء عالم حر عامل

والبديل الذي يقترحه الكاتب هو إنشاء تكتل إستراتيجي للعالم الحر يتضمن نواة اقتصادية لدول أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك)، وتحالفا عسكريا يركز على الدفاع الأمامي مع مشاركة قوية للأسلحة والتكنولوجيا، وتكتلا اقتصاديا منسقا مع قواعد مشتركة وإمكانية الوصول إلى الأسواق.

ويخلص المقال إلى أن الولايات المتحدة تقف على مفترق طرق، ليس حول ما إذا كان عليها أن تمضي في طريقها بمفردها، بل بشأن كيفية القيام بذلك. ويمكنها أن تختار القومية المتهورة، أو أن تعيد تشكيل النظام العالمي بإرساء تحالف محكم من الشركاء القادرين، والاستفادة من نقاط قوتها لبناء عالم حر يعمل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات ترجمات الولایات المتحدة النظام العالمی

إقرأ أيضاً:

إسرائيل تعمل على تغيير النظام القانوني الذي يحكم الضفة الغربية لتسريع الضم

نشر موقع "موندويس" تحليلا لتقرير جديد صادر عن مركز "عدالة" يكشف عن الخطوات المتسارعة التي تنفذها الحكومة الإسرائيلية لفرض تغييرات قانونية وهيكلية تُرسخ السيطرة الدائمة على الضفة الغربية، وبشكل خاص في المنطقة "ج"، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.

وقال الموقع في هذا التحليل الذي ترجمته "عربي21"، إن التقرير الجديد الصادر عن مركز عدالة القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل، والذي يقع في 87 صفحة، بعنوان "الهياكل القانونية للتمييز والفصل العنصري وتصنيف المناطق: ازدواجية نظام الأراضي الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة"، يصف الطرق التي تبني بها حكومة نتنياهو منظومة قانونية طويلة الأمد تهدد حق الفلسطينيين في تقرير المصير.

وقالت الدكتورة سهاد بشارة، المديرة القانونية لمركز عدالة والمؤلفة الرئيسية للتقرير، لموقع "موندويس" إن هذه التطورات ليست شيئا جديدا، مؤكدة أن تسليط الأنظار على غزة لا يجب أن يحجب خطورة الخطوات القانونية في الضفة منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية مهامها في كانون الأول/ ديسمبر 2022. 

وأكدت بشارة أن ما يحدث في الضفة الغربية يُسرّع سياسات الضم بشكل خطير، في انتهاك صارخ للقانون الدولي؛ حيث تُكثّف إسرائيل إجراءاتها لتغيير الوضع القانوني للعديد من الفلسطينيين القاطنين في المنطقة "ج" الذين يتعرضون لتهجير مُكثّف بسبب عنف المستوطنين والسياسات الإسرائيلية والتوسع الاستيطاني والقيود على فرص التنمية في المنطقة.

وأشار الموقع إلى أن التقرير يوثّق بناء الحكومة المتطرفة الحالية لما تصفه منظمة عدالة بـ"الآليات التأسيسية التي ترسخ إسرائيل من خلالها نظامًا يُسهّل الهيمنة على المناطق والفصل العنصري".
وتُشكّل المنطقة "ج" أكثر من 60 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، وهي تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة.



حكم مدني للمستوطنين وعسكري على الفلسطينيين
أوضح الموقع أن إسرائيل تخلت عن المبررات الأمنية للموافقة على بناء المستوطنات منذ أواخر السبعينيات، واعتمدت سياسة تستند إلى أسس مدنية وليست عسكرية. ويصف تقرير عدالة كيف أُنشئت الإدارة المدنية الإسرائيلية التي تحكم الضفة الغربية لإضفاء الطابع الرسمي على الفصل بين الشؤون العسكرية والمدنية.

ويؤكد التقرير أن "إسرائيل نقلت الحكم على المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية من السيطرة العسكرية إلى السيطرة المدنية، مما أدى إلى ترسيخ الهيمنة على المناطق وتوسيع المشروع الاستيطاني بشكل كبير".

وفي الآونة الأخيرة، أدت الإجراءات الحكومية -مثل تعيين بتسلئيل سموتريتش في منصب وزير المالية- إلى تعزيز السلطة القانونية للموظفين المدنيين الموالين للمستوطنين في الضفة الغربية. 

وقد عززت هذه التغييرات دور الهيكلين القانونيين المختلفين اللذين يحكمان الحياة في القرى الفلسطينية والمستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية: الأول حكم عسكري على الفلسطينيين، والثاني حكم مدني وفقًا للقانون الإسرائيلي يدير حياة المستوطنين.

1. إدارة السلطات المحلية
يصف التقرير إحدى أكثر الآليات إثارةً للقلق، والتي تكشف عن نية إسرائيل ضمّ كامل الضفة الغربية. بعد نقل المستوطنات من الإدارة العسكرية إلى الحكم المدني، ومنح صلاحيات قانونية وإدارية مهمة لموظفين مدنيين مؤيدين للمستوطنين، يُمكن لإسرائيل أن تُجادل بأنّ المستوطنات تخضع الآن للسيادة الإسرائيلية.

لكنّ التقرير يؤكّد أنّ تطبيق القانون الإسرائيلي على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية يُمثّل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني ويُشكّل "ضمًا فعليًا".

2. حوافز مالية للمستوطنات
ذكر التقرير أنّ "المستوطنات الإسرائيلية تحصل على مزايا مالية واسعة من خلال الدعم الحكومي المباشر، والسياسات التفضيلية، والحوافز المالية في قطاعاتٍ مُتعددة، بما في ذلك تخصيص الأراضي، والإسكان، والبنية التحتية، والزراعة".

وضمن هذه السياسة، تواصل إسرائيل ضخّ المليارات سنويًا لتطوير المستوطنات في الضفة الغربية، مما يمثل انتهاكًا للقانون الدولي.

ويشرح تقرير عدالة بشكل مفصل "الآليات القانونية وراء هذه الحوافز وكيف يُسهّل القانون الإسرائيلي توزيعها" على المستوطنات.

3. إعلان الأراضي تابعة للدولة
ويؤكد التقرير أن إعلان إسرائيل تحويل الأراضي في الضفة الغربية إلى ملكية الدولة يُعدّ "الآلية القانونية الأساسية التي استولت من خلالها السلطات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي". 

لكن حجم ضم الأراضي في الفترة الأخيرة ارتفع بوتيرة غير مسبوقة، ويتضمن التقرير معلومات تُظهر حقيقة صادمة: أعلنت إسرائيل عن ضم أراض فلسطينية وتحويلها لملكية الدولة في أقل من سنة واحدة  أكثر مما قامت خلال 18 سنة.

من 1998 إلى 2016، تم إعلان ما يزيد قليلاً عن 21 ألف دونم كأراضٍ تابعة للدولة الإسرائيلية، ولكن في غضون تسعة أشهر فقط (من نهاية شباط/ فبراير 2024 إلى أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2024)، تم إعلان أكثر من 24 ألف دونم كأراضٍ تابعة للدولة، فيما يُعدّ تسارعًا غير مسبوق تاريخيا.



جرائم إسرائيل في الأراضي المحتلة
خصص تقرير عدالة قسمًا كاملًا للإطار القانوني والهيكلي المعمول به في المنطقة (ج)، والذي يهدف لتوسيع مشروع الاستيطان الإسرائيلي.

وتخلص منظمة عدالة إلى أن إسرائيل ترتكب 5 جرائم من خلال سياساتها في الضفة الغربية: انتهاك القانون الدولي الإنساني؛ تعميق آليات الضم الفعلي غير القانوني؛ حرمان الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير؛ تعميق نظام الفصل العنصري في الأرض الفلسطينية المحتلة؛ ارتكاب جرائم حرب.

وقد رصدت أحدث نشرة إخبارية من منظمة "عير عميم"، وهي منظمة غير حكومية إسرائيلية، توسع سيطرة إسرائيل في القدس الشرقية. وأكدت تيس ميلر، مسؤولة التوعية العامة في "عير عميم"، أن آليات التهجير التي تم رصدها داخل القدس ليست منفصلة عن الآليات التي يتم تطبيقها في غزة والضفة الغربية.

ووفقا للدكتورة بشارة، فإن تقرير منظمة عدالة يهدف إلى خلق "ضغط دولي ضد هذه التغييرات طويلة الأمد في الضفة الغربية، التي تنتهك القانون الدولي وتهدد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير".

مقالات مشابهة

  • كيف يعيد النظام السوري تشكيل الاقتصاد؟.. صلاحيات غير رسمية لشقيق الشرع
  • النظام العالمي والشرق الأوسط الجديد
  • ما الذي تخشاه حماس بخصوص الأسرى لديها من واشنطن وتل أبيب؟
  • موقع إسرائيلي: ما الذي يمكن أن يدفع المجتمع الدولي إلى التدخل ووقف الإبادة بغزة؟
  • ابو زيد يتحدث عن “المسافة صفر”.. التكتيك الذي حيّد نظام “تروفي” المتطور
  • إسرائيل تعمل على تغيير النظام القانوني الذي يحكم الضفة الغربية لتسريع الضم
  • من الذي يسد غياب السودان في واشنطن؟
  • حملة شاملة لتحرير الملك العمومي تعيد النظام إلى شوارع سلا
  • حذف ثانية من التوقيت العالمي.. ما الذي سيحدث في 2030؟
  • واشنطن توافق على بيع محتمل لصواريخ سطح-جو متطورة إلى مصر