*✒️ذو النورين النور أحمد النور*
إستشاري جيوفيزيائ

في بلادٍ يجتهد فيها الباطل ليثبت حقّه، ويُتهم فيها المضيء لأنه لا يشبه العتمة، لا غرو أن يكون الوليد مادبو هدفاً للخصومة، لا لشيء إلا لأنه قال “لا” حين سكت غيره، ومضى في دربٍ لم تُنَجّره المصلحة، ولم تُعبّده الطائفة.

الوليد لا يُختصر. لا في مقالٍ، ولا على منبر، ولا تحت لافتة أيديولوجية.

هو ابن الصحراء حين يتأملها، وابن المدينة حين يكتب عنها، وهو في كل الأحوال ابن الفكرة. يُحسن العبور بين المقامات كما يعبر خيالُ الشاعر بين الصور. فيه من الحكمة ما يشبه الشيوخ، ومن التمرد ما يُشبه المصلحين، ومن الحنين ما يُشبه العاشقين.

قليلةٌ هي الشخصيات الفكرية في السودان التي تعرّضت لما تعرّض له الوليد مادبو، لا لفسادٍ أو تقلب، بل لشجاعةٍ نادرة. شجاعةٌ جعلته يقف في وجه الطائفية التي أرهقت البلاد، ويفضح الإمبريالية الإسلامية المتدثرة بالدين، يدين الإبادة الجماعية في دارفور وفي كافة أنحاء السودان، ويُعارض عسكرة الدولة، ويرفض الميليشيات التي اختزلت الوطن في بندقية. كان صوته عاليًا حين سكتت الأصوات، وكان منطقه صلبًا حين تهاوت الحجج.

وحين رتبت القوى المحلية والدولية لما عُرف بـ”الهبوط الناعم”، خرج الوليد يدعو للاحتكام إلى الشعب، للعودة إلى جذر المسألة: إلى العدالة، والحرية، والكرامة. وعندما اندلعت الحرب لم يهادن طرفًا، ولم يساوم على الحقيقة، بل واجه كلا المعسكرين المسلحين بالحجة والمبدأ.

هنا اشتدت الحملة عليه. بعضهم رماه بالنخبوية لأنه يحب الخيول ويربيها، يعشق المديح النبوي، يوشوش بالموسيقى ويطرب للجاز، وكأن على المفكر أن يتقشف حتى في ذائقته. ونسوا – أو تجاهلوا – أنه الإمام الذي افتتح المساجد في أميركا، والمفكر الذي حاضر في هايدلبيرغ وأوكسفورد وبيركلي عن العدالة الاجتماعية وحقوق المستضعفين. أليس ماركس، وجيفارا، وكاسترو، ومانديلا، وسيد الخلق نفسه، من أصحاب الامتياز التاريخي الذين نذروا أنفسهم للمهمشين؟ فما بالهم يحتسبون الرقي ترفًا، ولا يرون في سعة الحياة عمقًا؟

وإذا كانت نشأته قد قادته إلى متاحف الفنون في لندن وشيكاغو، فإن قلبه ظل معلقًا ببحيرة سبدو، بدحل عيش، بربوع البادية التي عشقها. هنالك تنفس هواء المجد، وتشرب من تراب الأسلاف. هناك حيث استقبل جده الناظر محمود موسى مادبو الزعيم، زعيم قبيلة الرزيقات ورئيس مجلس عموم البقارة، جمال عبد الناصر على صهوة التاريخ، وفي معيته مئة ألف فارس. في مثل هذا الموقف، انفعل الملك فيصل واقشعر جسده وهو يرى دارفور تستقبله بمشهد مهيب في نيالا، فقال لمرافقه: “هؤلاء هم الرجال، هؤلاء هم الأبطال!”

الوليد مادبو لا يستعير المجد، بل يمشي فيه كما يُمشى في دارٍ معلومة. حين يتكلم، يستيقظ العقل، وحين يكتب، تهتز العبارة. فقد أبدع في أدبه كما في تحليله السياسي. في نفحات الدرت والمدينة الآثمة نثر شيئًا من روحه، وقرأه الناقد إبراهيم برسي بعين المحب البصير. أما المستوطنة الأخيرة، فكانت شهادة على قدرته في تفكيك منظومة الهيمنة، وقد جاءت قراءة أحمد حسب الله الحاج واستدراكه الشفهيّ في برنامج غسان عثمان (الورّاق) لتمنح النص عمقه النقدي الذي يستحق.

لم يكن غريبًا أن تعاديه جل التشكيلات السياسية، خاصة تلك القادمة من الطبقة الشمالية المهيمنة أو البروليتاريا الغربية المتطلعة (من شمال السودان وغربه)؛ إذ لم يُخفِ دعوته لتفكيك منظومة الهيمنة الثقافية والفكرية والاقتصادية كما رفض المحاصصات وسيلة لفض النزاعات. وهو في ذلك لم يكن يسعى إلى شقاق، بل إلى عدالة لا تستقيم البلاد دونها.

أما من يتهمه بالتعالي أو الابتعاد عن الناس، فلعله لم يره وهو يخدم ضيوفه حافي القدمين، حاسر الرأس، يسعى بينهم ببشاشة المضيّف ونُبل الكريم، يقدّم الطعام بنفسه، لا يميّز بين عظيم وحقير، فتلك شيم النبلاء الذين لا تغرّهم المراتب ولا تحجبهم الهيبة عن التواضع.

فأما حسين ملاسي، الذي اعتاد السخرية من الوليد مادبو في تغريداته، فلا يخفى على بصير أن في سخريته غرضًا يتبدى في محاولته مجاراة العوام أو استرضاء خاصته من المتنفذين، إذ لا يناقش فكرة ولا يدحض حجة، بل يلهو على حواف الكلام كأن خفة الظل تغني عن عمق الفهم. وإذا حصحص الحق يوماً واستنارة البصيرة، فلن يكون خصمه إلا الصدق الذي ضاقت به صدور كثيرة، والفكرة التي لم تعد تحتملها الأقنعة.

ختاماً، في السودان، يُحاصر النبهاء لأنهم لا يشبهون الزيف. ويُبخس الصادق لأنه لا يُجيد التمثيل. لكن يكفي الوليد أنه حين يُذكر اسمه، لا يُذكر مقرونًا بصفقة أو طمع، بل بموقف. ويكفيه أنه لا يزال يقاوم بالكلمة، في زمن اختار فيه كثيرون الصمت، أو – وهو الأسوأ – التواطؤ.

22أبريل2025

aljunaidrsf@gmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الولید مادبو

إقرأ أيضاً:

بين الجَغِم والبلّ: خرائط الموت التي ترسمها الجبهة الإسلامية على أجسادنا

إبراهيم برسي

في بلادٍ تكسّرت فيها البوصلات، ولم يتبقَّ للناس سوى البكاء على ما لا يُبكى عليه، وجدنا أنفسنا في زمنٍ تُحكمه مفردتان فقط: “الجَغِم والبلّ”. ليستا مجازًا، بل تقنية للقتل الشعبي، تُمارَس في وضح النهار، ويباركها العقل المغسول تحت إيقاع أناشيد الحرب.

“الجَغِم” لم يعد فعلاً بدائيًا لشخص يبتلع ما ليس له، بل تحوّل إلى ماكينة مؤسسية تلتهم الذهب، والنفط، والموتى، وتُنتج بلاغات وفتاوى.
أما “البلّ”، فقد صار طقسًا شعبيًا لإضفاء الشرعية على هذا الجشع. كلمة تُقال بصوت خافت، لكنها تحمل في طيّاتها استسلامًا جماعيًا. كأنك تقول: دع الأمر للقدر، فالعدو دائمًا هو الآخر، والحرب دائمًا هي الحل.

تقول عالمة النفس الفرنسية ماري فرانس هيريجوين:
“الأنظمة السلطوية لا تحتاج لإقناعك، بل فقط لإرباكك، لتخلق مساحة ذهنية تُمكِّنها من غرس أفكارها كحقائق.”

وهذا بالضبط ما فعلته الجبهة الإسلامية حين تسلّلت إلى المؤسسة العسكرية، لا كضيف، بل كمضيفٍ أعاد تعريف معنى الوطن، والعدو، والموت.

في بورتسودان، تُدار الدولة من ثكنة عسكرية، ويُحكم البلد عبر فتاوى القهاوي.
في نيالا، يُدفن الموتى دون أسماء.
في الفاشر، صارت المقابر أكبر من المدارس.
في أم درمان، تُخفي العائلات أبناءها لا من العدو، بل من الجيش.

ولفهم ما نحن فيه، لا بد أن نتذكّر ما حدث في رواندا عام 1994.
حينها، لم يكن السلاح هو المشكلة، بل الكلمة. في راديو “ميل كولين”، كانت الأغاني الشعبية تُغنّى، ثم تتبعها دعوة صريحة:
“اقطعوا التوتسي كالأنشاب.”

هكذا تبدأ المجازر: بمصطلحات تبدو عفوية، بعبارات يُردّدها الناس دون إدراك، ثم ينفجر العنف.

“بلّ بس”، اليوم، تُشبه تمامًا تلك العبارات. تُفتح بها أبواب الجحيم، وتُشرعن بها مجازر لا تُشبه المجازر، بل تُشبه النشيد الوطني بصيغة جنائزية.

يقول أنطونيو غرامشي:
“الهيمنة لا تتحقق بالعنف وحده، بل بالموافقة الصامتة للمقهورين.”

وهذه الموافقة هي ما تفعله الجبهة الإسلامية كل يوم، حين تحوّل المواطن إلى “متلقٍ”، ثم إلى “مُبرِّر”، ثم إلى “جلّاد”، باسم الدولة أو الدين أو القبيلة.

أما الذين يجغمون بالفعل، فهم ليسوا على الجبهات، بل في البنوك، في دبي، في أنقرة، في الدوحة، وفي القاهرة.
يجغمون العقود، والشركات، والذهب، والمستقبل.
يحرقون البلاد، ثم يتهمون المواطن بأنه لم “يبلّ بما فيه الكفاية”.

هل هذا وطنٌ أم مسرح عمليات؟
هل هذه حربٌ أم إعادة تموضع للجبهة تحت رايات جديدة؟
هل ما زلنا بشرًا، أم مجرّد وقود بين “الجَغِم والبلّ”؟

لكننا نعرف.
نعرف أن الجبهة لا تحارب لتنتصر، بل لتحكم.
وأن المواطن لا يموت فقط، بل يُعاد إنتاجه كأداة للقتل.
نعرف أن “الجَغِم” صار مصيرًا، و ”البلّ” صار عقيدة.
لكننا، رغم كل شيء، نعرف.
ومن يعرف، لا ينجو بالمعرفة… بل يُساق بها إلى النفي.

أشد أنواع الغسيل دموية، ليس ذاك الذي يُبيّض القميص، بل الذي يُغطّي الجريمة بلون الراية.
وحين تتدفق الأكاذيب من الشاشات إلى الدماغ، يتحوّل المواطن إلى جندي دون أن يرتدي الزي العسكري.
يضحّي بابنه، ويصفّق لمن نهب راتبه، ويقولها دون تفكير:
“بلّ بس… نحنا في معركة وجود وكرامة.”

تستعيد ذاكرتنا نموذج سيراليون، حيث تحوّل الأطفال إلى قتلة باسم “الوطن”.
تقول الباحثة الكندية نومي كلاين:
“حين يُعاد تعريف العنف كضرورة أخلاقية، تنهار البنية النفسية للإنسان، ويصبح القتل فعلَ طمأنينة.”

وهذا ما نراه:
مواطنون يتعاملون مع الحرب كأنها زواج مقدّس، ومع الموت كأنه استثمار مضمون في سوق الوطنية.

في “الخوي والنهود”، لم يعد الناس يتساءلون عمّن هو على حق، بل عمّن لا يزال على قيد الحياة.
في “دنقلا وكسلا”، لا يُسأل الأب عن حلم ابنه، بل عن موقعه على الخارطة:
في الجيش؟ في الدعم؟ أم في المقابر؟

السودان اليوم ليس بلدًا، بل سجن مفتوح يدور فيه الحارس والضحية في حلقة “بلّ وجَغِم”، بين رصاصتين، ورايتين، وبيانين.

نحن الذين كُتب علينا أن نعيش بين “الجَغِم والبلّ”، لا نملك حتى ترف الصمت.
لأن الصمت نفسه صار مشاركة في الجريمة.
لأن “البلّ” اليوم يعني أنك قبلت أن تُمحى،
و ”الجَغِم” يعني أنك صرت جزءًا من ماكينة المحو.

وحدهم الذين لا يبلّون ولا يجغمون، من يكتبون بأجسادهم معنى الوطن.
أما الباقون، فقد اختاروا شكلهم في الجنازة: بين قاتلٍ يبتسم، ومبرّرٍ يبرّر، وجثةٍ تصفّق في الغياب.

الوسومإبراهيم برسي

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • من الذي التهم صنم العجوة ؟
  • الأمم المتحدة: المساعدات التي دخلت إلى غزة قطرة في محيط
  • الكوكب الذي غاب عن السماء.. زاهر البوسعيدي في ذمة الله
  • شاهد بالفيديو.. “كيكل” يتعهد بإنهاء الأزمة والذهاب للمناطق التي تنطلق منها “مسيرات” المليشيا
  • بين الجَغِم والبلّ: خرائط الموت التي ترسمها الجبهة الإسلامية على أجسادنا
  • ما سر الحشرة الزومبي التي تخرج بالملايين في أميركا كل 17 سنة؟
  • الكائنات الغريبة التي لم نعهدها
  • غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
  • وليد مادبو: لا تهدم سياجاً لم يتفق لك بعد لماذا قام في أول أمره