كيف تستفيد أي تنسيقية مدنية من الكفاءات المدنية المستقلة؟
تاريخ النشر: 25th, April 2025 GMT
المقدمة
في خضم الحرب الأهلية التي تمزق السودان، تبرز تنسيقيات مدنية جامعة للقوى المدنية السودانية الساعية لوقف الحرب وإعادة بناء الدولة. لكن التحدي الأكبر الذي يواجهها هو كيفية توحيد الجهود مع الكفاءات المهنية المستقلة خارج نطاقها، خاصة تلك غير المنتمية لأحزاب سياسية، ولكنها تمتلك خبرات علمية وعملية كبيرة يمكن أن تساهم في إنقاذ البلاد.
فكيف يمكن لها أن تنسق مع هذه القوى وتوظف إمكانياتها لتحقيق السلام والاستقرار؟
1. إشراك الخبراء في صنع القرار: من التهميش إلى التمكين
تزخر السودان بالعديد من الكفاءات الأكاديمية والإدارية والفنية التي ظلت لعقود خارج دوائر صنع القرار بسبب هيمنة العسكر والأحزاب التقليدية. اليوم، يمكن للتنسيقية المدنية أن تعوض هذا الإقصاء عبر:
- تشكيل مجالس استشارية تضم خبراء في الاقتصاد، الصحة، الإدارة، والعدالة الانتقالية.
- إشراكهم في وضع خطط إنقاذ سريعة لإعادة الخدمات الأساسية في المناطق الخارجة من الحرب.
- الاستعانة بهم في صياغة سياسات طويلة الأمد لإعادة الإعمار.
لكن من المهم التنبيه إلى نقطة أساسية: إشراك الخبراء لا يعني أن الحلول تأتي من طرفهم منفردين، بل الأهم هو توفير مناخ صحي يقبل الاختلاف في وجهات النظر، ويسمح بتفاعل مثمر بين الخبراء والسياسيين، بما يؤدي إلى حلول ذكية ومستدامة لا مجرد وضع "ضمادات على جرح الوطن المعتل".
الذكاء الجمعي القائم على الاختلاف الخلّاق وتعدد الزوايا في النظر إلى القضايا هو ما نفتقده في العمل العام، وهو ما يجب أن تسعى التنسيقيات المدنية إلى تبنيه كأساس لأي شراكة مع الكفاءات المستقلة.
لا يمكن بناء سودان جديد بمنظومة قرار قديمة.. إشراف الخبراء المستقلين ضرورة وليس رفاهية.
2. النقابات المهنية: قوة ضغط ودعم ميداني
تمتلك النقابات المهنية (كالأطباء والمهندسين والمحامين) تاريخاً نضالياً وتنظيمياً يمكن أن يكون عوناً للتنسيقيات المدنية في:
- تنظيم قوافل إغاثية للمناطق المتضررة.
- توثيق انتهاكات الحرب عبر شبكات المهنيين من المحامين والأطباء وغيرهم من المستقلين.
- تقديم الدعم الفني في إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة.
مثال حي:
في بداية الحرب، لعبت نقابة الأطباء دوراً محورياً في إنشاء خدمات ميدانية. فلماذا لا يتم تعميم هذه التجربة عبر تنسيق أوثق مع التنسيقيات المدنية؟
3. الأكاديميون والباحثون: عقول تُهمَّش بينما الأزمة تحتاجها
الجامعات ومراكز الأبحاث السودانية تضم كفاءات قادرة على تحليل الأزمات وطرح الحلول، لكنها غالباً ما تُستبعد من عملية صنع القرار. هنا يأتي دور التنسيقيات المدنية في:
- توظيف الباحثين لرصد آثار الحرب (النزوح، الجوع، انهيار التعليم).
- الاستفادة من الدراسات الأكاديمية في وضع خطط التنمية.
- إشراك الأساتذة في تصميم برامج التوعية المجتمعية.
---
4. منصات تنسيقية جامعة: تجمع الجهود بدلاً من تشتيتها
إحدى مشكلات العمل المدني السوداني هي التشرذم، ولتجاوز ذلك يمكن:
- إنشاء منصة رقمية تجمع كل المبادرات المستقلة تحت مظلة تنسيقية واحدة.
- عقد مؤتمرات دورية تجمع التنسيقيات المدنية مع الكيانات المهنية لتوحيد الرؤى.
---
5. الضغط الدولي: صوت موحد أقوى
الكفاءات المستقلة تتمتع بمصداقية دولية عالية، ويمكن للتنسيقيات المدنية أن تستفيد منها في:
- إصدار تقارير مشتركة تعرض معاناة السودان للعالم.
- تنظيم حملات ضغط على المنظمات الدولية بخطاب مهني غير حزبي.
---
الخاتمة: شراكة وطنية لا استقطاب سياسي
السودان لا ينقصه الكفاءات، بل ينقصه الإطار الذي يتيح لها العمل المشترك في بيئة تُقدّر التنوع وتُرحّب بالاختلاف.
التنسيقيات المدنية أمام فرصة تاريخية لقيادة تحالف مدني حقيقي، لا يقوم على استقطاب سياسي ضيق، بل على الذكاء الجمعي وروح الشراكة الوطنية. المطلوب هو فضاء مشترك يتفاعل فيه السياسي مع الخبير، والأكاديمي مع الميداني، على قاعدة واحدة.
الخروج من الأزمة لن يكون بقرارات فردية، بل بشراكة وطنية تضع مصلحة السودان فوق كل اعتبار.
كلمة أخيرة:
الوقت ليس في صالح السودان.. كل يوم حرب يُفقد البلاد جزءاً من مستقبله.
التعاون بين التنسيقات المدنية والقوى المهنية المستقلة ليس خياراً، بل هو ضرورة للنجاة.
dr.elmugamar@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
سقوط الفاشر... هل يُكرر السيناريو الليبي؟
توالت الإدانات من كل حدب وصوب خلال اليومين الماضيين لـ«قوات الدعم السريع» نتيجة الانتهاكات الواسعة والمذابح التي ارتكبتها في مدينة الفاشر بعد اقتحامها وانسحاب الجيش السوداني والقوات المشتركة منها. فالتقارير الواردة من المدينة، ومقاطع الفيديو التي وثق بها مسلحو «الدعم السريع» جرائمهم، كشفت عن حجم الانتهاكات ضد المدنيين وعمليات القتل على أسس عرقية وعنصرية، التي لم يسلم منها الشيوخ والنساء والأطفال، والأطباء والممرضات والمرضى والجرحى في المستشفيات.
لم تكن هذه الممارسات جديدة على «الدعم السريع»، فقد ارتكبت مثلها في كل المناطق التي دخلتها سابقاً قبل أن تُطرد منها، من الجزيرة إلى سنار، ومن أم درمان إلى كردفان. كما أن تربصها بالفاشر وسكانها، وتخطيطها للإبادة الجماعية بحقهم، لم يأتِيا مصادفة، بل كانا مرسومين وممنهجين عبر حصار المدينة لنحو 500 يوم، وتجويع أهلها، واستهدافهم بالقصف وبالمسيّرات في معسكرات النزوح.
لكن هذا لم يمنع الصدمة الواسعة إزاء عمليات القتل الممنهج التي انتشرت مشاهدها من الفاشر، ما جعل عدداً كبيراً من الدول والمنظمات الدولية تدين وتشدد على ضرورة حماية المدنيين.
كما انطلقت دعوات، أبرزها من السيناتور جيم ريتش رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، للمطالبة بتصنيف «قوات الدعم السريع» «منظمة إرهابية».
في خضم هذه المأساة والفجيعة المحسوسة على نطاق واسع، تبرز مفارقة أن هناك من يريد إعطاء دور لهذه القوات بكل سجل ممارساتها المعروف، في الترتيبات المستقبلية، سواء بالحديث عن تقسيم السودان واستنساخ السيناريو الليبي، أو باتفاق لوقف الحرب يضمن بالضرورة موقعاً ووجوداً لـ«الدعم السريع» في المشهد القادم، وهذه معضلة كبرى في ظل الهوة العميقة التي تشكلت بين أغلبية السودانيين وهذه القوات.
سقوط الفاشر ستكون له تداعيات كبيرة على مسار الحرب ومآلاتها. فالمدينة كانت آخر معقل للجيش والقوات المشتركة التي تقاتل إلى جانبه في دارفور، وبسقوطها تكون «قوات الدعم السريع» قد بسطت سيطرتها على الإقليم، الذي تعادل مساحته تقريباً ضعف مساحة بريطانيا.
لا تقتصر أهمية الفاشر على مكانتها التاريخية، وقصة صمودها تحت الحصار، بل تمتد إلى موقعها الاستراتيجي لكونها مركز وصل بين شمال ووسط وغرب دارفور، ومعبراً رئيسياً نحو تشاد وليبيا ومصر.
وبالسيطرة عليها تصبح كل حدود السودان الغربية مفتوحة لـ«الدعم السريع» والإمدادات القادمة من الخارج. وإذا أضفنا إلى ذلك سيطرة «الدعم السريع» على مدينة بارا الاستراتيجية في شمال كردفان، تتضح خطورة المشهد أكثر، إذ بات في مقدورها تهديد الولايات الشمالية من شمال دارفور، وتهديد الأبيض وأم درمان والخرطوم والنيل الأبيض والجزيرة عبر بوابة بارا.
وكل هذه الاحتمالات أشار إليها قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) في خطابه الأخير قبل أيام، ربما مدفوعاً بطموحات شخصية وخطط مدفوعة من أطراف خارجية. فالرجل منذ انطلاق الحرب كشف عن نياته، عندما أعلن هو وشقيقه عبد الرحيم أنهما يريدان أسر أو قتل البرهان، لا بصفته الشخصية، بل بصفته القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة، وكشفا بذلك عن النية المبيتة في المخطط المرسوم للسيطرة على السلطة وتفكيك الجيش لكي تكون ميليشياتهما هي البديل.
يبقى السؤال: هل يؤدي سقوط الفاشر إلى توسع الحرب، أو إلى انفصال دارفور وتقسيم السودان بتكرار السيناريو الليبي، مثلما ورد على لسان المبعوث الأميركي مسعد بولس في مقابلات عدة أجراها هذا الأسبوع في ضوء التطورات المتسارعة؟
لا أميل إلى مفهوم استنساخ التجارب، فلكل دولة ظروفها وخصوصيتها، ولكل حرب ديناميكياتها. دارفور ليست متجانسة، و«قوات الدعم السريع» لا تمثل أغلبية فيها، بل إن عدداً لا يستهان به من المكونات الإثنية هناك على عداء شديد معها، ولن ينسوا لها جرائمها والإبادة الجماعية التي ارتكبتها في عدد من المناطق بدوافع عرقية وعنصرية.
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إغفال أن مخططات تقسيم السودان قديمة ومعروفة وموثقة، تحدث عنها مسؤولون أميركيون وإسرائيليون سابقون، وأشارت إليها بحوث ودراسات. والمحاولات سوف تستمر، إن لم يكن اليوم فغداً، ما دامت المنطقة كلها على طاولة الإضعاف والتفتيت.
في المشهد الراهن، لا يمكن للجيش السوداني - ومعه القوات المشتركة ومجموعات من المكونات الدارفورية - أن يقف مكتوف الأيدي. سيقاتلون لمنع «الدعم السريع»، المدعومة بمرتزقة أجانب وأطراف خارجية، من إكمال هيمنتها على الإقليم، ولمنع أي مخطط انفصالي، لأن ذلك لن يعني سوى المزيد من الانتهاكات والفوضى وعدم الاستقرار في دارفور وفي الجوار الإقليمي. وتجربة جنوب السودان ما زالت ماثلة أمامنا، إذ أصبح بعد انفصاله محترباً في الداخل، ومصدراً للقلاقل في الجوار.
لذا؛ فإن المرجح أن تشهد الفترة المقبلة احتداماً في المعارك، لا سيما في كردفان التي باتت السيطرة عليها أهم من ذي قبل، وتعني الكثير في مسار الحرب ومآلاتها. أما بالنسبة للمسارات التفاوضية، فقد أصبحت بعد سقوط الفاشر وبارا أكثر تعقيداً، وأقل حظوظاً.
الشرق الأوسط