منذ بداية الحرب على غزة، اتخذت إسرائيل التجويع سلاحا تراه فعالا لتحقيق أهدافها؛ لكنها لم تستطع أن تُرّكع القطاع الصامد، أو تحقق أهدافها فيه. وفي أوائل شهر مارس آذار 2025، ومع عودة الحرب في غزة، لجأت إسرائيل مرة أخرى إلى سلاح التجويع. وكان الهدف وفقًا لمجلس الوزراء الإسرائيلي: جعل الحياة في غزة لا تُطاق، أو كما قال سموتريتش "فتح أبواب الجحيم في غزة بأسرع ما يمكن وبطريقة مميتة".



وفي هذا المقال نتناول سلاح التجويع في غزة، وهل يمكن حساب إسرائيل عليه؟ وما هي العقبات التي تواجه عمل الجنائية الدولية في هذا الخصوص؟ مع عرض خلفية تاريخية لسلاح الجوع، ولماذا تأخر إدراجه في القانون الدولي كجريمة إبادة جماعية وجريمة حرب تستوجب العقاب؟ كما سنتناول آثار المواجهة القانونية الدولية على إسرائيل ومستقبل الصراع.

ومصادرنا في ذلك ما يلي:

1 ـ منظمة جيشاه الحقوقية الإسرائيلية، مثل إخراج الروح من الجسد، 6/2/2025.
2 ـ منظمة جيشاه الحقوقية الإسرائيلية، المشردون، 28/2/2025.
3 ـ بويد فان ديك، إسرائيل وغزة وسلاح التجويع، فورين أفيرز، 30/4/2025.
4 ـ مؤسسة السلام العالمي WPF، كم عدد الأشخاص الذين ماتوا من الجوع في غزة؟، 17/12/2024.
5 ـ تامي كانر وبنينا شارفيت باروخ، مذكرات الاعتقال الصادرة من الجنائية الدولية خطيرة وخطيرة: ماذا الآن، معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب INSS، 8/12/2024.
6 ـ بنينا شارفيت باروخ، إسرائيل على طريق العزلة الدولية، معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب INSS، 4/7/2024.
7 ـ تامي كانر وأودي ديكل، خطة الجنرالات: الاتجاه الصحيح والتنفيذ الخاطئ، معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب INSS، 15/10/2024.

التعريف القانوني للتجويع

تقول مؤسسة السلام العالمي: "التجويع  قانونًا هو الحرمان من ضروريات الحياة: الغذاء، الماء، الصرف الصحي، الدواء، المأوى، رعاية الأمومة للأطفال الصغار، ومجموعة من الضروريات الأخرى. أما على المستوى الفردي، فيُعرّف الجوع بأنه حالةٌ جسديةٌ وطبيةٌ لسوء التغذية الحاد الوخيم المُهدد للحياة، وزيادةُ قابليةِ الفردِ الذي يُعاني من سوء التغذية للإصابة بالأمراض والموت بسبب الجفاف".

إسرائيل تريد تدمير شعب وجيل بأكمله

في ظل هذا الصمت العربي والإسلامي المخزي، تمارس إسرائيل واحدة من أكبر جرائم الإبادة الجماعية في القرن الحادي والعشرين، وتستخدم الجوع سلاحا أساسيا فيها، إضافة إلى القتل وتدمير كافة مقومات الحياة. إنها تريد تدمير جيل بأكمله، وهذا ما تؤكده التقارير الدولية والمنظمات الحقوقية الإسرائيلية:

1 ـ 70% في شمال غزة يعانون من الجوع الكارثي. وفي منتصف فبراير/شباط 2024، أفادت وكالات الأمم المتحدة أن 5% من الأطفال دون سن الثانية يعانون من سوء التغذية الحاد.

"التجويع قانونًا هو الحرمان من ضروريات الحياة: الغذاء، الماء، الصرف الصحي، الدواء، المأوى، رعاية الأمومة للأطفال الصغار، ومجموعة من الضروريات الأخرى. أما على المستوى الفردي، فيُعرّف الجوع بأنه حالةٌ جسديةٌ وطبيةٌ لسوء التغذية الحاد الوخيم المُهدد للحياة، وزيادةُ قابليةِ الفردِ الذي يُعاني من سوء التغذية للإصابة بالأمراض والموت بسبب الجفاف".2 ـ إصابة 475 طفلا شهريا بمعاناة جسدية مدى الحياة، بسبب بتر الأطراف وفقدان السمع أو البصر.

ووفقا للأمم المتحدة، فإن عدد الأطفال الذين فقدوا طرفا واحدا أو أكثر هو الأعلى في التاريخ الحديث ، كما أن مدى الصدمة النفسية العميقة بين الأطفال هائل.

3 ـ طوال الحرب، أصدرت إسرائيل أكثر من 100 أمر إخلاء أو تهجير. وحتى 19 يناير/كانون الثاني 2025، نزح تسعة من كل عشرة من السكان، بعضهم نزح أكثر من عشر مرات. وفي ذروة الحرب، كانت 86% من أراضي القطاع خاضعة لأوامر إخلاء نشطة من قِبل الجيش الإسرائيلي.

4 ـ واجه الغزيون في مواقع النزوح نقصا حادا في المياه النظيفة والغذاء ومرافق الصرف الصحي، وأُجبروا على المشي أحيانا لأميال للوصول إلى نقاط ومرافق توزيع المساعدات، والوقوف في طابور أمامها لساعات. وأدى النزوح المتكرر للعاملين في المجال الإنساني إلى صعوبة تقديم مساعدات للمحتاجين.

5 ـ أدى التدمير الإسرائيلي الممنهج لنظام الرعاية الصحية في غزة والقيود على دخول المساعدات إلى انتشار سوء التغذية على نطاق واسع، وزيادة عدد الأشخاص ذوي الإعاقة وتفاقم حالتهم. وما يقرب من 25% من جميع المصابين منذ بداية الحرب يحتاجون إلى إعادة تأهيل فورية ومستمرة.

6 ـ هناك علاقة طردية بين سوء التغذية والإعاقة، إذ يؤدي سوء التغذية إلى إضعاف جهاز المناعة، وزيادة التعرض للعدوى، وتقليل قوة العضلات - وهي قضايا تؤدي إلى تفاقم قيود الحركة الموجودة مسبقا وتجعل التعافي أكثر صعوبة. وتعرض حلقة التغذية الراجعة الخطيرة هذه حياة الآلاف للخطر، مع تفاقم سوء التغذية، وفي كثير من الحالات، يسبب إعاقات جسدية ومعرفية الشديدة.

تجويع غزة اختبار رئيسي للقانون الدولي

أصبح تكتيك التجويع، والمبررات التي يقدمها الإسرائيليون لاستخدامه، اختبارًا رئيسيًا للقانون الدولي. وتعقد محكمة العدل الدولية جلسات عقب طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة للتحقيق فيما إذا كانت إسرائيل قد انتهكت ميثاق الأمم المتحدة بعرقلة عمل "الأونروا"، وكالة الإغاثة الرئيسية في غزة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف دولية ضد نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ إلا أن جوهر الاتهامات الموجهة إليهما هي تنظيم سياسة تجويع إجرامية ضد المدنيين في غزة. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تُركز فيها محكمة جرائم حرب على هذه التهمة تحديدًا.

الجنائية الدولية تواجه معركة شاقة وتهديدا وجوديا

رغم الآثار الجلية لسياسات التجويع في غزة، تواجه الجنائية الدولية معركةً شاقةً وتهديدا وجوديا. فلم يحدث قطّ محاكمة زعيم دولة غربية. ووضعت مذكرات التوقيف الدول الأعضاء في المحكمة، وعددها 125 دولة، خاصةً حلفاء إسرائيل الأوروبيين وكندا، في موقفٍ حرج. فإذا دخل نتنياهو أو غالانت إحدى هذه الدول، فإن سلطاتها مُلزمة قانونًا باحتجازه. ومن جانبها، عارضت الولايات المتحدة بشدة القضية المرفوعة منذ البداية، وشرع ترامب في تدمير المحكمة نفسها، فسحب دعم الولايات المتحدة لمحاكمة بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، وأذِن بفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة في فبراير شباط الماضي لعرقلة عملها بشكل كبير. لذا، سارعت المحكمة إلى دفع رواتب موظفيها مُقدمًا، وناشدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدات طارئة. ومن المفارقات أن السلاح الذي تحاول المحكمة الجنائية الدولية مقاضاة نتنياهو عليه، وهو الإكراه الاقتصادي، يُستخدم الآن ضدها. وقد صرّحت رئيسة المحكمة الجنائية الدولية أمام البرلمان الأوروبي في مارس/آذار: "تواجه المحكمة تهديدًا وجوديًا".

وليست المعركة الشاقة هنا فقط بسبب أشخاص المتهمين أو دعم الغرب لهم وتواطؤه معهم، وإنما أيضا لصعوبة إثبات قضية تجويع المدنيين. فعلى الرغم من التاريخ الطويل والمدمر لسلاح التجويع، فإنه يصعب إثبات التجويع المتعمد للسكان المدنيين، ونادرًا ما تُحاسب الأطراف المتحاربة التي استخدمت هذا التكتيك. وسواء نجحت القضية أم لا، فإن السابقة التي تُرسيها قد تُعيد رسم الحدود القانونية للحرب وتُجبر الدول على مراعاة قواعد ظنت يومًا أنها لن تنطبق عليها أبدًا.

التجويع.. سلاح الغرب المُفضّل!!

لقد لقي ملايين المدنيين حتفهم في القرن العشرين نتيجةً لاستراتيجيات الحصار والتجويع؛ إلا أنه لم يتم حظر استخدام سلاح التجويع في القانون الدولي حتى عام ١٩٧٧. ومنذ ذلك الحين، ورغم الحظر الصريح، أصبحت مُلاحقة مرتكبي هذه الجريمة نادرةً للغاية. ولم تُدرج مُعظم المحاكم الجنائية الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية التجويع القسري في أنظمتها الأساسية، ناهيك عن السعي لمُقاضاة مرتكبيه. والسؤال هنا: لماذا؟!! والجواب يكمن في أن حصار التجويع كان طوال القرن العشرين جزءًا لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي الغربي الذي اعتبره أداة مهمة للحفاظ على النظام الدولي نفسه. وكان هذا التكتيك فعالًا بشكل مرعب لدرجة أن المنتصرين والمهزومين اعتبروه سلاحًا لكسب الحرب في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

لماذا تجاهل القانون الدولي سلاح التجويع؟

استمر تبني الغرب الاستراتيجي للتجويع لفترة طويلة بعد سقوط هتلر. لذا، غاب النقاش حول هذا التكتيك بشكل ملحوظ عن معظم هياكل القانون الدولي بعد الحرب، ولم تتناوله صراحة اتفاقية الإبادة الجماعية لعام ١٩٤٨ ولا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن صياغة اتفاقيات جنيف هي التي تُقدم أوضح نافذة على أسباب تهميش جرائم التجويع بعد الحرب العالمية الثانية. إذ عندما اجتمع ممثلو الدول في جنيف عام ١٩٤٩ لصياغة اتفاقيات لحماية ضحايا الحرب، سعت دول عديدة إلى ترسيخ ضمانات إنسانية أقوى للنزاعات المسلحة ووضع ضمانات لحرية مرور المساعدات الإنسانية وحظر تدمير المواد الأساسية لبقاء المدنيين؛ لكن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أصرّتا على الحفاظ على قدرتهما على فرض الحصار، وقاومتا أي بنود قد تحد من قوتهما البحرية أو الجوية، ونجحتا في تخفيف هذه المقترحات. ورغم أن اتفاقيات جنيف لم تحظر هذا التكتيك، فإنها وصمت نهب الأراضي، وحمّت عمال الإغاثة، واعترفت اسمياً بمبدأ الوصول الإنساني ــ والذي أضعفه إلى حد كبير الشروط التقييدية وصلاحيات التفتيش الشاملة، مما سمح للمحاصِرين بعرقلة المساعدات حتى لمجرد أدنى شك في أنها قد تفيد العدو.

وبعد عام ١٩٤٩، استطاعت قوى الحصار وضع استثناءات مهمة، حيث يُمكن اعتبار موت المدنيين غير المتعمد أمرًا مقبولًا قانونيًا في ظروف محددة. وعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة أساليب التجويع على نطاق واسع في حرب فيتنام، بتدميرها الممنهج للمحاصيل في المناطق المشتبه في إيوائها لعصابات شيوعية. وفي هذا الإطار الناشئ، يُمكن لحكومة في حالة حرب أن تدّعي أن تجويع المقاتلين الأعداء لا يزال قانونيًا. وكما هو معروف، نادرًا ما يمكن وصف المجاعات في زمن الحرب بأنها متعمدة من البداية إلى النهاية؛ بل غالبًا ما تكون نتيجة لسياسات الحصار التي تُعطي الأولوية للاحتياجات العسكرية على أرواح المدنيين.

تعديل منقوص ومعيب للقانون الدولي

مع حلول سبعينيات القرن الماضي، قامت الدول حديثة الاستقلال بحملة جديدة لتشديد وصم أساليب التجويع. وفي المفاوضات التي أفضت إلى إضافة بروتوكولين جديدين إلى اتفاقيات جنيف عام ١٩٧٧، ضغطت هذه الدول من أجل وضع قواعد صارمة ضد القصف العشوائي، وتدمير المحاصيل، والتجويع. ونتيجةً لذلك، كبح الهيكل القانوني الدولي الجديد أساليب التجويع في الحروب بين الدول وأثناء الاحتلال، لكنه لم يُجرّم هذا السلاح بالكامل، وكان لهذه النتيجة عواقب وخيمة. ظلت الأقليات عديمة الجنسية أو المهمشة عرضة للحصار المسبب للمجاعة من قبل الحكومات المعادية. وحتى بعد أن صنف نظام روما الأساسي التجويع كجريمة حرب، فإن هذا التصنيف ينطبق فقط على النزاعات المسلحة بين الدول. واستغرق الأمر حتى عام 2019 حتى تعترف الدول رسميًا بالتجويع كجريمة في الحروب الأهلية. وعلى الرغم من ذلك، استمر التجويع المتعمد استراتيجية عسكرية رخيصة وبسيطة وفعالة للغاية ومن الصعب جدًا المعاقبة عليه.

صعوبة مقاضاة إسرائيل على جرائم التجويع

تسعى مذكرات التوقيف الصادرة من الجنائية الدولية ضد قادة إسرائيل إلى الطعن في هذا الإفلات من العقاب طويل الأمد. لكن القضية تُسلط الضوء أيضًا على الصعوبات المستمرة في مقاضاة جرائم التجويع: إذ يتعين على المدعين إثبات أن القيادة الإسرائيلية حرمت السكان المدنيين في غزة، عمدًا وعن علم، من مواد لا غنى عنها لبقائهم. وكما هو الحال في الإبادة الجماعية، غالبًا ما يكون إثبات النية أمرًا بالغ الصعوبة. فقد يتمكن القادة السياسيون أو العسكريون من تصوير أي وفيات ناتجة على نتيجة مؤسفة للحرب الحديثة. علاوة على ذلك، فإن طريقة فرض الحصار قد تُصعّب تحديد الجرائم، وعادةً ما تتكشف آثاره المدمرة مع مرور الوقت، وغالبًا ما تكون بعيدة عن الأنظار. وهذه العملية الخفية غالبًا ما حمت حملات التجويع من الملاحقة القانونية لفترة طويلة.

تصريحات تدين إسرائيل

باعتبار الحرب في غزة أول محاكمة تُجريها المحكمة الجنائية الدولية لجرائم التجويع، يبدو أن المحكمة قد خلصت إلى أن التصريحات العلنية الصريحة للقادة الإسرائيليين تُقدّم أدلةً ملموسةً على النية، بغض النظر عن مختلف العقبات القضائية. فبعد يومين من بدء الحرب، أعلن غالانت  فرض حصار كامل على غزة، وأمر بقطع جميع إمدادات الكهرباء والغذاء والوقود، وأشار إلى سكان غزة على أنهم "حيوانات بشرية". ورفض نتنياهو علنًا السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وفي الآونة الأخيرة، ضاعفت القيادة الإسرائيلية من خطابها حتى مع إعادة فرض حصار كامل واستئناف حملة القصف في مارس آذار الماضي. لقد حوّلت هذه التصريحات العلنية الصادرة عن القيادة السياسية الإسرائيلية التجويع من جريمة حرب لم تُلاحق قضائيًا قط إلى ما وصفه بعض خبراء القانون الدولي بـ"الغاية السهلة المنال". ولو تجنبت القيادة الإسرائيلية الإعلان صراحةً عن حصار تجويع، لكانت التهم قد اقتصرت بدلاً من ذلك على "مسؤولية القيادة" عن الهجمات المباشرة على المدنيين والجرائم ضد الإنسانية.

هل هناك أهمية لجر إسرائيل إلى ساحة المواجهة القانونية الدولية؟

قد يعتقد البعض أنه لا قيمة فعلية للإجراءات القانونية المتخذة ضد اإسرائيل في المحاكم الدولية، وأنها لن تسفر عن شئ ملموس؛ لكن الحقيقة غير ذلك، فآثار المواجهة متعددة المجالات والساحات ولها آثار بعيدة المدى تؤثر على مستقبل الكيان وشرعية وجوده:

1 ـ نقطة تحول قانونية مهمة: في ظلّ الرياح السياسية المعاكسة الهائلة التي تواجهها المحكمة الجنائية الدولية الآن؛ إلا أن أوامر الاعتقال الصادرة بحق القادة الإسرائيليين تُمثّل نقطة تحول قانونية مهمة، إذ قد تُوضّح، بل وتُخفّض، الحدّ اللازم لإثبات النية في الملاحقات القضائية المستقبلية، سواءً في المحاكم المحلية أو الدولية. وقد جاء قرار المحكمة الجنائية الدولية في وقت مهم على المستوى الدولي وتحولات النظام العالمي، إذ تزامن مع تحول حاسم طويل الأمد في المواقف العالمية تجاه استخدام التجويع كسلاح. ولا شك أن هذا التكتيك لا يزال متشابكًا مع الأولويات الاستراتيجية لأقوى دول العالم، مع استعداد الصين لحصار خانق محتمل على تايوان، واستمرار الولايات المتحدة في قبول حصار التجويع كأساليب حرب قانونية محتملة ضد الأعداء.

لا يوجد دليل يدعم الافتراض بأن حصار غزة وتجويعها سيؤدي إلى إطلاق سراح الرهائن أو سيركع غزة ويجبر أهلها على الخروج منها أو يجبر حماس على الاستسلام. علاوة على ذلك، تشكل خطة التجويع خطرا على الرهائن، حيث من المرجح أن يكونوا أول من يحرم من الطعام والماء مع تضاؤل الإمدادات في غزة. وليس هناك يقين من أن مقاتلي حماس سيستسلمون بسبب المجاعة.مع ذلك، فإن قضية المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل - يحمل دلالات على إمكانية محاسبة حتى حلفاء الغرب الأقوياء. وبينما تسعى القوى الأوروبية الكبرى إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بسرعة في عالم لم تعد فيه مظلة الدفاع الأمريكية مضمونة، تواجه حكوماتها خيارًا: إما تطبيق المبادئ الدولية التي طالما دافعت عنها، أو التخلي عن ادعائها بالقيادة الأخلاقية. وعلى نفس القدر من الأهمية، يجب على الدول الكبرى في الجنوب العالمي أن تتدخل الآن، وعليها دعم جهود المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ليس فقط قولًا بل بالفعل. وإلا، فقد تُفقد المحكمتان والقواعد الدولية التي تسعيان إلى تطبيقها أهميتها.

2 ـ إسرائيل نظام نازي: إصدار أوامر قضائية ضد القادة الإسرائيليين، يتوقف تنفيذها على قرار ملزم من مجلس الأمن، بل تخلق وصمة عار شديدة ضد إسرائيل، وتصورها على أنها ترتكب أخطر جريمة ممكنة ـ الإبادة الجماعية. وهذه الجريمة، التي حددها فقيه يهودي وناج من الهولوكوست فيما يتعلق بالأفعال النازية ، تحمل وزنا تاريخيا عميقا. وفي الوقت الحاضر، ينتشر هذا الاتهام في الاحتجاجات ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم ويظهر عبر الشبكات الاجتماعية، مما يعزز الفكرة الصادمة بأن إسرائيل أقرب إلى النظام النازي.

 3 ـ إسرائيل رمز عالمي للشر: الاحتجاجات الجماهيرية ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم غير مسبوقة، مما يجعل إسرائيل رمزا عالميا للشر. وأي بحث على الإنترنت عن مصطلحات سلبية مثل الإبادة الجماعية والتعذيب والتدمير يؤدي إلى إسرائيل، مع عدد لا يحصى من مقاطع الفيديو والمقالات والمقالات التي تقدم إسرائيل كقوة وحشية لا ترحم. وفي العديد من اللغات والبلدان. تتحول إسرائيل بسرعة إلى "دولة منبوذة". وتنتشر هذه التصورات بشكل كبير ، مما يجعل من الصعب للغاية مواجهة تأثيرها الضار وإعادة الجني إلى الزجاجة. ويُنظر إلى إسرائيل اليوم على أنها أقرب إلى جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري، وتتعالى دعوات مقاطعتها بالكامل.

4 ـ إسرائيل لا تجد من يدافع عنها: أحد أكثر الجوانب إثارة للقلق لدى إسرائيل ومؤيديها أن التعبير عن دعم إسرائيل أصبح إشكاليا وخطيرا. ويعرف المثقفون ورجال الأعمال والصحفيون وغيرهم من الشخصيات المؤثرة أنهم سيدفعون الثمن إذا عبروا عن آراء إيجابية حول إسرائيل، لذلك يختارون التزام الصمت أو حتى الانضمام إلى المنتقدين. وبالتالي، فإن الرواية المعادية لإسرائيل، التي تعتبر الرواية "المناسبة"، تهيمن على الخطاب. وفي المقابل، تتضاءل الأصوات المعارضة، حيث يأتي معظم الدعم المفتوح لإسرائيل من مصادر إسرائيلية أو يهودية، ينظر إليها على أنها متحيزة، أو من اليمين المتطرف، الذي يزيد ارتباطه من نفور الجمهور الليبرالي عن إسرائيل.

5 ـ  إسرائيل دولة مارقة منبوذة: منذ اندلاع الحرب، قطعت عدة دول العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو استدعت سفراءها. وأصدرت العديد من الدول بيانات عدائية، وأطلقت مبادرات ضد إسرائيل، وصوتت ضدها في الأمم المتحدة. وفرضت دول مختلفة عقوبات على كيانات إسرائيلية، ولا سيما على المتطرفين اليهود المشتبه في قيامهم بأعمال عنف ضد الفلسطينيين. واعترفت بعض الدول بدولة فلسطين. وفي الوقت نفسه، تتزايد حالات المقاطعة المعلنة أو الضمنية ضد الإسرائيليين، خاصة في العالمين الأكاديمي والثقافي.  ومع استمرار الحرب، تصبح صورة إسرائيل كدولة منبوذة أكثر رسوخا وسيكون من الصعب التخلص منها. هذا صحيح بشكل خاص إذا لم يكن هناك تغيير جذري في السياسة الإسرائيلية.

6 ـ  آثار بعيدة المدى على الكيان: بعض الإجراءات لها آثار طويلة الأجل، لا سيما إذا اشتدت الإجراءات الرامية إلى سحب الاستثمارات أو فرض المقاطعة والعقوبات ضد إسرائيل. كما أن الضرر المهني الذي يلحق بالباحثين الإسرائيليين في العلوم والتكنولوجيا والأوساط الأكاديمية سيكون له آثار دائمة. والضرر الاقتصادي الناجم عن الإجراءات الحالية، مثل تجنب الاستثمار في إسرائيل وهجرة الأدمغة في الخارج، سيبقى محسوسا لسنوات قادمة. وسيكون من الصعب الحفاظ على مكانة إسرائيل كدولة ناشئة في ضوء هذه العمليات.

وقد تكون العودة إلى هذا الوضع في المستقبل مستحيلة. إن شيطنة إسرائيل، التي تغلغلت في عامة الناس في جميع أنحاء العالم، ليست مجرد مسألة "صورة غير مبهجة" للبلاد، بل لديها القدرة على التأثير بشكل كبير على صانعي القرار في مختلف البلدان. ومع تزايد الضغط الشعبي في مختلف البلدان المعارضة لإسرائيل، قد ينظر إلى إسرائيل من قبل الدول المختلفة وقادتها على أنها عبء أكثر من كونها أصلا، مع تكاليف سياسية لدعمها.

ونتيجة لذلك، قد ينأى بعضهم بأنفسهم عن إسرائيل، حتى إلى حد قطع العلاقات على مختلف المستويات. ويمكن أن تؤدي التكلفة السياسية إلى الابتعاد عن إسرائيل. وبعبارة أخرى، فإن انتشار نزع الشرعية عن إسرائيل وتحولها إلى دولة منبوذة في جميع أنحاء العالم يدفعها نحو واقع العزلة الدولية. وستؤدي إلى أضرار اقتصادية جسيمة، وانخفاض كبير في مستوى المعيشة، وإلحاق الضرر بالأمن القومي. إن فكرة أن إسرائيل قادرة على التعامل بنجاح مع جميع تهديداتها الأمنية بمفردها غير عقلانية وغير عملية. والاستنتاج القاتم هو أن الحملة ضد إسرائيل قد خرجت عن نطاق السيطرة، وإسرائيل تهزم حاليا على الساحة الدولية.

إن العالم اليوم، وخصوصا العرب والمسلمين، أمام لحظة مفصلية وفارقة في التاريخ: إما أن ينصروا غزة ويوقفوا حرب الإبادة والتجويع؛ وإلا ستظل غزة بأطفالها وشيوخها ونسائها والأجنة في بطون أمهاتها تلعنهم أبد الدهر ، والتاريخ لا يرحم، وذاكرة الشعوب أبدا لا تموت.7 ـ فشل الخطاب الإسرائيلي عن معاداة السامية: إن الخسائر الجسيمة والدمار والأزمة الإنسانية الحادة في قطاع غزة، مع نشر الصور باستمرار في وسائل الإعلام وعلى الشبكات الاجتماعية، حولت إسرائيل في نظر الكثيرين إلى كيان قاسي يلاحق الفلسطينيين العاجزين بلا هوادة. وقد لعبت التصريحات الإسرائيلية لعبت لصالح منتقدي إسرائيل الذين استخدموها لإظهار نوايا إسرائيل الخبيثة المفترضة لقتل المدنيين الفلسطينيين وتجويعهم وطردهم.

واستخدمت هذه التصريحات كذخيرة مفيدة للذين يقاتلون إسرائيل على الساحة الدولية.  لذلك، فإن إن الميل التفاعلي المعتاد لوصف كل الانتقادات ضد إسرائيل بأنها معاداة للسامية واللجوء إلى الهجمات الشخصية يصب في مصلحة أولئك الذين يديرون الحملة ضد إسرائيل. ويجعل من الواضح أن إسرائيل ليس لديها رد جوهري على الادعاءات الموجهة ضدها. كما أنه يدفع المنتقدين، الذين ليسوا بالضرورة معادين لإسرائيل، إلى المعسكر المناهض لها.

الخلاصة.. إسرائيل لن تحقق أهدافها من التجويع

لا يوجد دليل يدعم الافتراض بأن حصار غزة وتجويعها سيؤدي إلى إطلاق سراح الرهائن أو سيركع غزة ويجبر أهلها على الخروج منها أو يجبر حماس على الاستسلام. علاوة على ذلك، تشكل خطة التجويع خطرا على الرهائن، حيث من المرجح أن يكونوا أول من يحرم من الطعام والماء مع تضاؤل الإمدادات في غزة. وليس هناك يقين من أن مقاتلي حماس سيستسلمون بسبب المجاعة.

إن رفض المدنيين الإخلاء لن يجعل الحصار قانونيا. إذ يجب أن يمتثل الحصار لمبدأ التناسب، ويجب ألا يلحق أي ضرر بالمدنيين متناسبا. وبالتالي، فإن حقيقة أن الحصار يستهدف حماس لن تعفي إسرائيل من واجب السماح بدخول المساعدات الإنسانية وحظر تجويع السكان.

إن العالم اليوم، وخصوصا العرب والمسلمين، أمام لحظة مفصلية وفارقة في التاريخ: إما أن ينصروا غزة ويوقفوا حرب الإبادة والتجويع؛ وإلا ستظل غزة بأطفالها وشيوخها ونسائها والأجنة في بطون أمهاتها تلعنهم أبد الدهر ، والتاريخ لا يرحم، وذاكرة الشعوب أبدا لا تموت.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الحرب غزة الاحتلال الفلسطينيين احتلال فلسطين غزة حرب كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المحکمة الجنائیة الدولیة فی جمیع أنحاء العالم الولایات المتحدة الإبادة الجماعیة القانون الدولی جرائم التجویع سلاح التجویع الأمن القومی سوء التغذیة هذا التکتیک عن إسرائیل ضد إسرائیل فی التاریخ إسرائیل فی التجویع فی على أنها من الصعب حرب فی الذی ی سلاح ا فی غزة التی ت فی هذا

إقرأ أيضاً:

حكايات الحب في زمن الحرب.. قصص عشق غيرت مجرى التاريخ في الحرب العالمية الثانية

حين تندلع الحروب، تنقلب الموازين كلها، ويختلط صوت القنابل بخفقات القلوب، تبدو المعارك للوهلة الأولى ساحات للدمار والموت فقط، لكن بين خطوط النار، تولد قصص حب أعنف وأصدق مما تخيلنا، في زمن تذوب فيه القيم تحت وطأة العنف، يصبح الحب تمردًا صامتًا، سلاحًا خفيًا، وقرارًا جريئًا بالانتصار للحياة في وجه الموت.

وليس كل من حمل السلاح كان يحارب فقط من أجل أرض أو شرف، أحيانًا كان يقاتل من أجل وجه حبيب ينتظره في الضباب، أو وعد قطعه قبل أن يشعل العالم نيرانه، وفي أحيان أخرى، تحولت قصص الغرام إلى خناجر في خاصرة الجيوش، غيرت مسار معارك، وأعادت رسم خرائط قارات.

في زمن الحرب، الحب ليس مجرد قصة عابرة، بل معركة موازية تدور بصمت، مفعمة بالخيانة أحيانًا، وبالفداء أحيانًا أخرى، ويصبح العاشق جاسوسًا، والضابط خائنًا لأجل وعد، والجاسوسة ملاكًا يزرع الفوضى بين الصفوف المتراصة، هنا يصبح القلب جزءًا من الخطة العسكرية، والقبلات رسائل سرية تمر عبر الحدود، ومن أحبوا في زمن الحرب لم يكونوا مجرد محبين، كانوا محاربين من طراز آخر، كتبوا تاريخهم بالدموع والرصاص معًا.

وفي قلب أكثر الفصول دموية في التاريخ، وبين أزيز الطائرات ودوي القنابل، ووسط مشهد سياسي يغرق في الدماء والمؤامرات، كان هناك حب يعيش في الظل، حب خجول لكنه عميق، يربط بين أكثر رجال القرن العشرين إثارة للجدل، وبين فتاة عادية تحولت إلى أسطورة مأساوية، فقصة " إيفا براون " و" أدولف هتلر " ليست مجرد قصة عشق، بل فصل خفي من الحرب العالمية الثانية، قصة حب ولاء مطلق قاد إلى غرفة صغيرة تحت الأرض، حيث انتهى كل شيء برصاصة وحبة سيانيد.

ولدت " إيفا آنا بول براون " عام 1912 في ميونخ، لعائلة بورجوازية بسيطة، ولم تكن من النبلاء، ولا ابنة ضابط، كانت فتاة عادية ذات ملامح أوروبية هادئة وشعر أشقر وعيون زرقاء، تحلم بالحب والحياة العادية،عملت وهي في سن السابعة عشرة كمساعدة للمصور الشخصي لأدولف هتلر، هاينريش هوفمان، وكانت تلك اللحظة البسيطة في حياتها بداية لقدر معقد، إذ التقت خلال عملها بهتلر نفسه.

كان هتلر في أواخر الثلاثينيات من عمره، زعيمًا متصاعدًا للحزب النازي، يشق طريقه إلى السيطرة على ألمانيا، ولكنه كان غامضًا، منطويًا، يعيش على ذكريات حب قديم انتهى بمأساة انتحار حبيبته الأولى جيلي راوبال، ومع إيفا، كان الأمر مختلفًا، فقد وجد فيها هتلر نوعًا من الصفاء، البساطة، والولاء غير المشروط الذي كان يحتاجه، أما هي، فقد انجذبت إلى الهالة الغامضة حوله، إلى هذا الرجل الذي كان يعد ألمانيا بعصر مجيد.

ورغم العلاقة العاطفية التي جمعتهما مبكرًا، ظل هتلر حريصًا على إبقاء إيفا في الظل، فقد كان يعلم أن صورته كرجل أعزب تعزز جاذبيته السياسية، وتمنحه صورة القائد المتفاني الذي لا وقت له للحب، " إيفا " لم تحضر المناسبات الرسمية الكبرى، ولم ترافقه علنًا، وكانت جزءًا من حياته الخاصة، تعيش بين قصوره، في أوبرسالزبرغ بجبال الألب، أو في برلين، لكنها كانت دومًا بعيدة عن الأضواء.

تحملت تجاهله العلني، وعزلتها السياسية، وحبسته العاطفية القاسية، بل في إحدى الفترات، حين شعرت بالإهمال، حاولت الانتحار بإطلاق النار على نفسها، لكنها نجت، وكانت رسائلها له مليئة بالحب والاشتياق والولاء، بينما كانت رسائله قليلة، مقتضبة، يغلب عليها الطابع الأبوي أكثر من العاطفي.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، أصبح هتلر غارقًا في خريطة العالم أكثر من حياته الشخصية، وكانت إيفا شاهدة صامتة على كل شيء، الانتصارات السريعة على أوروبا الغربية، وهزيمة فرنسا، وغزو الاتحاد السوفيتي، وفشل حملة روسيا الشتوية، وبداية السقوط في ستالينغراد، وخلال كل هذه السنوات، بقيت إيفا في الظل.

كانت تزين قصوره، ترتب أموره الشخصية، وترافقه في لحظات الانكسار كما في لحظات الجنون، في الوقت الذي كانت فيه ملايين النساء الألمانيات يفقدن أزواجهن وأبناءهن في الجبهات، كانت إيفا تعد لهتلر الحفلات الصغيرة، تهديه أفلامًا منزلية، وتملأ لحظاته بالضحك البسيط الذي بات نادرًا.

ومع انهيار جبهة الحرب، وسقوط برلين في قبضة الجيش الأحمر، انسحب هتلر وإيفا مع قادة الرايخ المقربين إلى قبو تحت الأرض أسفل المستشارية الألمانية، عرف لاحقًا باسم "الفوهرر بانكر"، وكان ذلك القبو آخر معقل للرايخ الثالث، وآخر محطة في رحلة هتلر السياسية والشخصية، وفي الأيام الأخيرة، تخلت إيفا براون عن كل فرصة للهرب، كان يمكنها بسهولة مغادرة برلين، لكنها اختارت البقاء إلى جانبه حتى النهاية.

وفي 28 أبريل 1945، وسط دوي القنابل وزحف السوفييت نحو وسط برلين، قرر هتلر أن يكافئ وفاءها الأخير، وطلب منها الزواج، أقيمت مراسم زفاف صغيرة في الفوهرر بانكر، حضرها عدد محدود جدًا من كبار النازيين، وكانت إيفا أخيرًا "السيدة هتلر"، لكن السعادة لم تدم أكثر من أربعين ساعة، وفي 30 أبريل 1945، بعد توديع المقربين منهم، اختلى هتلر وإيفا في غرفتهما.

هو أطلق الرصاص على رأسه، وهي ابتلعت كبسولة سيانيد قاتلة، وطبقًا لأوامر هتلر، حمل الحراس جثتيه وجثة إيفا إلى الحديقة الخلفية للمستشارية، حيث تم إحراقهما بالكامل بالبنزين، وسط القصف المستمر، وكان الهدف واضحًا، عدم ترك الجثتين للعدو ليحولوهما إلى أداة دعائية، وهكذا انتهت قصة حب غريبة، حب اختار ألا يعيش إلا في الظل، وألا يموت إلا وسط النيران.

قصة إيفا براون وهتلر تظل واحدة من أكثر قصص الحب جدلًا في التاريخ الحديث، حب لم يغير مسار الحرب كما تفعل قصص الجواسيس أو الضباط، لكنه شكل اللحظة الأخيرة في حياة رجل غيّر وجه العالم للأبد، واختارت إيفا أن تكون جزءًا من حكاية الموت، لا الحياة، وأن تبقى مع الرجل الذي أحبته، ولو في قبو مظلم تحت الأرض، ولو كان الطريق الوحيد للخروج هو الموت.

وعلي الجبهه وسط هدير الدبابات وصرير الأسلحة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعارك، عاشت قصة حب هادئة لكنها صلبة، قصة قادت واحدًا من أشهر قادة الحرب العالمية الثانية إلى قرارات غير متوقعة، أثرت على سير المعارك وعلى مصير ألمانيا النازية نفسها، وهي قصة إروين روميل، أسطورة الصحراء، وزوجته لوسي مولين، لم تكن مجرد علاقة عاطفية، بل كانت دراما إنسانية كاملة، كان للحب فيها دور خفي لكنه عميق في تشكيل مسار القائد الذي تحدى هتلر نفسه.

ولد إروين روميل عام 1891 لعائلة ألمانية متواضعة، ولم يكن من أبناء العائلات الأرستقراطية، بل كان نسيجًا من الطبقة الوسطى الطموحة، أما لوسي مولين، فهي ابنة رئيس بلدية صغير، فتاة ألمانية أنيقة، ذكية، تربت على مبادئ الصرامة والأخلاق، والتقى الاثنان في مرحلة مبكرة من حياته العسكرية، خلال فترة خدمته في الجيش القيصري الألماني، وكانت لوسي تكبر روميل بأربع سنوات، لكنها كانت تمتلك روحًا شابة تتجاوز حدود الزمن.

وقع روميل في حبها منذ النظرة الأولى، وبدأت بينهما علاقة مليئة بالرسائل الرومانسية والمواعيد المتأججة بالمشاعر، وبعد خطوبة طويلة بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، تزوجا عام 1916، وسط أجواء الحرب والدمار، كان زواجهما بمثابة واحة من السكينة وسط العاصفة.

ومنذ بداية زواجهما، أدركت لوسي أن الحياة مع روميل لن تكون سهلة، فقد كان مهووسًا بالكمال العسكري، كثير الغياب عن المنزل بسبب تدريباته ومهامه، ومع ذلك، كانت لوسي شديدة الولاء والدعم له، شجعته على مواصلة طموحاته، حتى حين كان يقضي أشهرًا طويلة بعيدًا عنها، كانت تملأ حياته برسائلها الدافئة التي تشجعه على الصبر والمثابرة.

أنجبا ولدًا وحيدًا، مانفريد روميل، الذي أصبح فيما بعد شخصية سياسية بارزة في ألمانيا ما بعد الحرب، ورغم الحياة العسكرية القاسية، بقي روميل زوجًا محبًا وأبًا مهتمًا، يعود دائمًا إلى حضن لوسي طلبًا للراحة بعيدًا عن ضوضاء المعارك، ومع تصاعد نجمه خلال الحرب العالمية الثانية، خاصة في حملة شمال إفريقيا، أصبح روميل أسطورة عسكرية عالمية.

وبينما كان روميل يقود قواته وسط رمال ليبيا ومصر، كانت لوسي في ألمانيا تنتظر بشغف أخباره، تتابع تقاريره عبر الراديو، تقرأ الرسائل التي كان يرسلها لها كلما سنحت له الفرصة، ولم تكن مجرد زوجة تقف على الهامش، بل كانت أحيانًا مستشارته العاطفية والمعنوية، تشجعه حين تتراجع معنوياته، وتواسيه حين تتكاثر عليه الضغوط السياسية والعسكرية.

يقال إن روميل، رغم انشغاله الشديد، كان يحمل معه صورة صغيرة للوسي في محفظته العسكرية طوال الحملات القتالية، ورغم عمله ضمن القيادة النازية، لم يكن روميل من الدائرة المغلقة للنازيين الأيديولوجيين، كان ينظر إلى نفسه كجندي محترف، وليس كأداة سياسية، ومع تقدم الحرب، وظهور الفظائع التي ارتكبها النظام النازي، بدأ روميل يبدي امتعاضه الشديد من سياسات هتلر، خاصة إصرار الفوهرر على القتال حتى الموت دون أي مرونة تكتيكية.

ةتقول بعض الروايات إن لوسي لعبت دورًا مهمًا في تغذية شكوكه السياسية، كانت تسمع عن مآسي الحرب، وعن التضحيات العبثية، وتنقل لروميل صورة مختلفة عن الأكاذيب الرسمية التي كان النظام يبثها، وهذه الأحاديث الخاصة بينهما كانت تزرع في داخله بذور التمرد، والتي ستظهر لاحقًا في موقفه المصيري.

وفي عام 1944، وبعد إنزال قوات الحلفاء في نورماندي، انهارت جبهة ألمانيا الغربية، كان روميل مكلفًا بالدفاع عن فرنسا، وكان يعلم أن ألمانيا قد خسرت الحرب بالفعل، وفي هذه المرحلة الحرجة، اتصل به بعض كبار الضباط المشاركين في مؤامرة 20 يوليو الشهيرة لاغتيال هتلر والانقلاب على الحكم النازي.

روميل، برغم رفضه لسياسات هتلر، كان مترددًا في المشاركة الفعلية في الاغتيال، ويعتقد المؤرخون أن واحدًا من الأسباب كان حبه العميق لعائلته، خاصة خوفه على لوسي ومانفريد من الانتقام النازي، وبعد فشل محاولة الاغتيال، وقع روميل تحت الشبهات، ولم يكن هناك دليل قاطع على تورطه المباشر، لكنه كان يعرف أكثر مما يجب.

هتلر، الذي كان يعجب بروميل كبطل شعبي، خيره بين أمرين، أن يحاكم محاكمة علنية بتهمة الخيانة، مما سيؤدي إلى إذلاله وإعدام عائلته، أو أن ينتحر "بشرف"، مقابل حماية أسرته ومنحهم معاشًا كريمًا، وفي أكتوبر 1944، زار ضابطان من قوات الأمن الخاصة منزله، وأعطياه السم.

ودع روميل لوسي ومانفريد وداعًا مؤلمًا، وغادر المنزل بسيارته الرسمية وفي الطريق، ابتلع السم، ومات على الفور، وأعلنت السلطات لاحقًا أن روميل توفي متأثرًا بجروح أصيب بها خلال غارة جوية، حفاظًا على صورته كبطل قومي.

وبعد وفاة روميل، عاشت لوسي حياة طويلة نسبيًا، حتى وفاتها عام 1971، ولم تتزوج أبدًا بعده، وكرست حياتها لتربية ابنهما مانفريد، الذي أصبح لاحقًا عمدة مدينة شتوتغارت، وظلت لوسي وفية لذكراه حتى أنفاسها الأخيرة، وفي مذكراتها ورسائلها، لم تكن تتحدث عن روميل كقائد عسكري فقط، بل كزوج حنون، وإنسان كان يحلم بالسلام أكثر من الحرب.

لم يكن حبهما قصة خيالية أو رومانسية وردية، كان حبًا واقعيًا، تحمل الغياب، والألم، والخوف، والخيانة السياسية، وربما كان حب لوسي هو ما منح روميل شجاعة اتخاذ قراره الأخير،  أن يموت بشرف، لا أن يعيش مذلولًا، ولا أن يترك عائلته فريسة للانتقام.

وعلي جبهه أخري في دهاليز الظلام والمهمات السرية، حيث لا يرى النصر إلا عبر الهمسات والخيانات والقلوب المكسورة، تظهر وجوه أخرى من البطولة، من بين هؤلاء " كريستين غرانفيل "، الجاسوسة البولندية البريطانية التي غيرت مسار عمليات في الحرب العالمية الثانية، ليس فقط بذكائها وقدرتها الفائقة على البقاء، بل أيضًا بقدرتها الغامضة على أسر القلوب، وتحويل مشاعر الحب إلى سلاح ناعم يفتك بالأعداء ويُنقذ الأرواح.

اسمها الحقيقي ماريا كريستينا جانا سكاربك، لعائلة أرستقراطية يهودية الأصل، عاشت طفولة مرفهة، لكنها كانت متمردة على القيود الاجتماعية منذ صغرها، كانت تركب الخيول، تتسلق الجبال، وتخوض مغامرات جريئة في وقت كانت فيه النساء يحصرن في أدوار ضيقة، ومع اجتياح ألمانيا لبولندا عام 1939، تغيرت حياتها للأبد.

لم تكن كريستين من النوع الذي يقف موقف المتفرج، فقررت أن تدخل معركة الحياة أو الموت بطريقتها الخاصة، وذلك عبر العمل في صفوف الاستخبارات البريطانية، وبفضل لغتها البولندية الأصلية، وإجادتها للفرنسية والإنجليزية، وجمالها اللافت، وقوة شخصيتها، أصبحت كريستين واحدة من أوائل الجاسوسات اللواتي جندتهن المخابرات البريطانية للعمل خلف خطوط العدو.

كانت عملياتها متنوعة، تهريب الرسائل، تنظيم حركات مقاومة، تجنيد العملاء المحليين، وحتى تهريب الأسرى، لكن كريستين امتلكت سلاحًا فريدًا آخر وهو قدرتها على بناء علاقات عاطفية مع رجال مفاتيح، سواء كانوا عملاء أو قادة ميدانيين، دون أن تفقد ولاءها أو تغرق في العاطفة على حساب مهمتها.

كان الحب بالنسبة لها أداة، لكنها لم تكن تستعمله بخبث  بل كانت تعطي الآخرين شعورًا حقيقيًا بالقرب والحنان وسط عالم مليء بالقسوة وهناك واحدة من أبرز القصص التي أظهرت تأثير الحب في حياة كريستين وغّيرت مسار عمليات المقاومة، كانت علاقتها بالضابط الفرنسي أندريه كامبون والذي كان قائدًا في حركة المقاومة الفرنسية، وتم اعتقاله من قبل الشرطة السرية النازية، وكانت التهمة كافية لإعدامه دون محاكمة.

عندما علمت كريستين باعتقاله، أطلقت واحدة من أكثر عمليات الإنقاذ جرأة في الحرب، انتقلت إلى بلدة قريبة من السجن متنكرة كصحفية فرنسية، وأقنعت أحد القادة الألمان المحليين بأنها ابنة دبلوماسي كبير، واستخدمت مزيجًا من الإغراء والتهديد المبطن، وبعد أيام من المناورات النفسية والعاطفية، استطاعت أن تحصل على إطلاق سراح أندريه مع اثنين من قادة المقاومة الآخرين.

كان مشهد خروج أندريه من السجن معصوب العينين واستقباله من قبل كريستين المشعة ابتسامة، أكثر درامية من أي فيلم سينمائي، ورغم علاقاتها المتعددة، لم تكن كريستين يومًا أسيرة لحب واحد، كانت ترتبط عاطفيًا ثم تنفصل بهدوء حين تفرض الظروف ذلك، دون أن تسمح لأي رجل أن يعطل مهمتها.

قال عنها أحد رؤسائها في الاستخبارات، "كانت كريستين تجمع بين دفء الأنثى وبرودة العقلية العسكرية، لا شيء يربك خطواتها "، ومع ذلك، تركت أثارًا عميقة في قلوب من أحبوها، وكثير من الرجال الذين تعاملوا معها ظلوا يتحدثون عنها حتى بعد نهاية الحرب، وكأنها كانت حلمًا عبر حياتهم كالبرق.

و مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وعودة أوروبا إلى سلام هش، وجدت كريستين نفسها بلا مهمة، العالم الذي تفوقت فيه، عالم الظلال والأكاذيب البطولية، قد اختفى، رفضت العمل كموظفة مكتبية أو أن تعيش حياة رتيبة، تنقلت بين وظائف بسيطة، عملت بائعة، ثم مضيفة على متن السفن، وأحيانًا مرشدة سياحية.

لكن روحها المغامرة وجمالها الأخاذ جعلاها دائمًا محط الأنظار، وفي عام 1952، تلقت طعنة غادرة في لندن، على يد رجل مهووس بها كان قد أحبها حبًا مرضيًا ورفضت ارتباطه، ماتت كريستين غرانفيل عن عمر يناهز 44 عامًا، ماتت الجاسوسة التي قاومت جيوشًا كاملة، على يد خيبة أمل في زمن السلم.

ربما كانت نموذجًا حيًا على أن الحب يمكن أن يكون أداة ناعمة وفتاكة في نفس الوقت، وكانت قادرة على استخدام مشاعرها ومشاعر الآخرين لتغيير مجريات المعارك، وإنقاذ الأرواح، وتحقيق المستحيل، وفي سجل الأبطال المنسيين للحرب العالمية الثانية، تظل كريستين واحدة من الأسماء التي تهمس بها الرياح خلف الستار، امرأة لم تعرف الخوف، ولم تكسرها الهزائم، ولم يسمح لها قلبها بأن يخون القضية التي وهبتها حياتها.

مقالات مشابهة

  • قبل اختفائها.. إليك خطوط الطيران التي لا تزال تستخدم طائرات ذات طابقين
  • كيف تستخدم إسرائيل المساعدات كـطعم لتهجير غزّة؟.. تمنع دخول الإمدادات الحيوية
  • مصر تجدد رفض استخدام إسرائيل "سلاح التجويع" ضد سكان غزة
  • لا توجد مدرسة واحدة في العلاقات الدولية تقول إنه عندما تعتدي عليك دولة (..)
  • “العفو الدولية”: الدعم السريع السوداني يستخدم أسلحة وفرتها الإمارات
  • منظمة العفو الدولية: أسلحة صينية متطورة قدمتها الإمارات لمليشيا الدعم السريع
  • حكايات الحب في زمن الحرب.. قصص عشق غيرت مجرى التاريخ في الحرب العالمية الثانية
  • العفو الدولية: الإمارات أعادت تصدير أسلحة صينية متطورة لقوات الدعم السريع
  • غارديان: ناجون من الحرب العالمية الثانية يتحدثون عن ذكرياتهم
  • إنريكي: لازال لدينا مباراتين لصنع التاريخ