تتعلم وتتعاون وتغش مثل البشر.. أسطورة ذاكرة السمك تتحطم
تاريخ النشر: 13th, May 2025 GMT
"أنت تملك ذاكرة السمك "، يقال هذا الوصف الساخر تهكما على كل من ينسى سريعا، حتى تسربت إلى الثقافة العامة حقيقة باتت غير قابلة للنقاش، وهي أن القدرات العقلية للأسماك محدودة.
لكن دراسة هولندية جديدة أعادت للأسماك بعضا من حقها المسلوب، إذ أثبتت أنها تتعلم من تجاربها، وتتعاون، بل وتغش أحيانا بشكل يحاكي السلوك البشري.
ودراسة القدرات الإدراكية للأسماك ليست بالأمر الجديد، لكن مشكلة مثل هذه النوعية من الدراسات، أنها كانت تجرى في ظروف مختبرية معقمة وبعيدة كل البعد عن المواطن الطبيعية في الأنهار والبحيرات والبحار، مما أدى إلى الاستخفاف بذكاء الأسماك لفترة طويلة.
لكن الباحثين من جامعة "فاخينينغن" الهولندية عالجوا هذا القصور عبر تطوير طريقة بسيطة ومنخفضة التكاليف، استطاعوا من خلالها تقييم قدرات الأسماك الإدراكية في بيئتها الطبيعية، وأسفرت نتائجهم المنشورة في دورية "ميثودس إن إيكولوجي آند إيفولوشن"، عن مفاجآت مثيرة.
وتتلخص الطريقة المختلفة التي ابتكرها الباحثون في تطوير جهاز بسيط يشبه "لوح تغذية" مصنوع من بلاستيك متين يحتوي على ثقوب صغيرة مغطاة بأقراص بلاستيكية ملونة يمكن للأسماك دفعها للحصول على الطعام الموجود تحتها.
إعلانوهذا الابتكار لا يتطلب الإمساك بالأسماك أو نقلها من بيئتها، بل يُوضع مباشرة في الماء حيث تعيش الأسماك.
واختبر الباحثون الجهاز على نوعين من الأسماك، وهما "أسماك الجوبي" في جزر ترينيداد الاستوائية، و"أسماك الشوكيات" ذات التسعة أشواك في هولندا، وقد لاحظوا أن الأسماك أظهرت قدرة على التعلم التدريجي مع الوقت.
وبعد عدة محاولات، بدأت الأسماك تختار الأقراص الصحيحة للوصول إلى الطعام بوتيرة أسرع وأكثر دقة، مما يدل على اكتساب خبرة ومعرفة بالمهمة، وهذا يعارض الاعتقاد الشائع بأن الأسماك تفتقر إلى الذاكرة أو القدرة على التعلم.
وبعض الأسماك لم تتعلم عن طريق التجربة المباشرة، بل راقبت ما تفعله الأسماك الأخرى "المستكشفة" وتعلمت منها كيف تصل إلى الطعام، وهذا يشير إلى وجود شكل من أشكال التعلم الاجتماعي أو التعاون، حيث تستفيد بعض الأسماك من جهود الآخرين.
ولوحظ أن بعض الأسماك لم تبذل مجهودا في اكتشاف الأقراص الصحيحة، بل تتبعت الأسماك الأخرى الناجحة واستفادت من مجهودها بالوصول إلى الطعام مباشرة بعد أن تفتحه تلك الأسماك، وهذا النوع من السلوك يفسر على أنه انتهازي أو "غش"، أي الاستفادة دون المشاركة في الحل.
ثورة في الفهموتعد المنهجية الجديدة التي استخدمها الباحثون وقادت إلى هذه النتائج المهمة نقلة نوعية في دراسة سلوكيات الأسماك، ليس فقط لكونها سهلة التطبيق وقليلة التكاليف، بل لأنها تفتح الباب لدراسة أنواع متعددة من القدرات المعرفية، والأهم أنها تزيل الغبار عن المفهوم القديم بأن الأسماك تفتقر للذكاء أو للقدرة على التعلم.
ووفق بيان أصدرته جامعة فاخينينغن الهولندية، فإن هذه الدراسة من أولى التجارب التي تتيح فحص القدرات العقلية للحيوانات المائية في بيئاتها الطبيعية دون تدخل بشري مباشر، ويرى الباحثون أن الجهاز الذي نجحوا في تطويره يمكن تعديله لاختبار مهارات مختلفة، مثل الذاكرة، تمييز الألوان، وحتى العد البسيط.
إعلانويقول ألكسندر كوترشال، الباحث المشارك بالدراسة في البيان: "عندما ندرس الحيوانات في بيئاتها الطبيعية، يمكننا ملاحظة سلوكها الحقيقي، وهذا لا يعزز فهمنا لتطور الإدراك فحسب، بل يحمل أيضا دلالات مهمة في مجالات الحفاظ على البيئة ورفاهية الحيوان".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
تربية الأبناء في عصر الذكاء الاصطناعي.. الموازنة بين الفرص والمسؤوليات
د. عبدالعزيز بن محمد الصوافي
في عالمٍ يتشكل فيه الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد ومتسارع، تواجه تربية الأبناء مجموعة جديدة من التحديات والفرص التي لم تكن معروفة سابقًا؛ حيث يكاد لا يمر يوما دون أن نسمع بظهور أدوات وتطبيقات جديدة قائمة على الذكاء الاصطناعي من أدوات التعلم المدعومة بالذكاء الاصطناعي والمساعدين الرقميين إلى المحتوى المُدار بالخوارزميات على منصات التواصل الاجتماعي، ينشأ أبناء اليوم منغمسين في بيئة رقمية مغرية ومختلفة تمامًا عن تلك التي عرفها آباؤهم.
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداةٍ ثانوية أو حتى اختيارية يمكن تجنبها. فهو يُنظّم ما يشاهده الأبناء على اليوتيوب، ويُخصّص تجاربهم التعليمية في الفصول الدراسية، بل ويُشغّل حتى الشخصيات الافتراضية التي يتفاعلون معها في الألعاب الإلكترونية. في حين أن هذه التقنيات تُقدّم فوائد كثيرة مُحتملة وواعدة، مثل تحسين وتسريع عملية التعليم والتعلم، وسهولة وإمكانية الوصول لمصادر المعرفة المختلفة، والراحة وتقليل الجهد المبذول للحصول على المعرفة واكتسابها، إلا أنها تُثير أيضًا مخاوف بشأن الخصوصية، والسلامة، والتطور، والتواصل الاجتماعي.
ويُعدُّ وقت استخدام الشاشة (النقال أو الجهاز اللوحي) من أكثر التحديات إلحاحًا ووضوحًا. غالبًا ما تُصمّم المنصات المدعومة بالذكاء الاصطناعي لزيادة التفاعل إلى أقصى حد ممكن، وهو نهجٌ قد يؤدي إلى الإفراط في استخدام الشاشة. بالنسبة للعقول الشابة التي لا تزال تُطوّر مهارات التنظيم والتعلم الذاتي، قد يكون لهذا عواقب على تطور حواس الإدراك والانتباه لديهم، وجودة نومهم، وحتى صحتهم النفسية. لذا، يجب على الآباء توخي الحذر، ووضع حدود وتقنين الاستخدام، والتأكد من توازن الاستهلاك الرقمي مع اللعب البدني، والتفاعل المباشر مع اقرانهم، والاستكشاف غير المنظم. في البيئات الحقيقية.
وهناك مصدر قلق آخر يتمثل في خصوصية البيانات وانتهاكها؛ حيث تجمع العديد من الألعاب والتطبيقات والخدمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي البيانات لتخصيص التجارب. وبينما يدعم التخصيص التعلم والتطور، فإنه يعني أيضًا تخزين معلومات الأطفال وتحليلها، وربما مشاركتها مع أطراف أخرى بشكل غير أخلاقي. وفي هذا السياق، تُعد الموافقة المستنيرة من الوالدين والالتزام الصارم بقوانين حماية البيانات، مثل قانون حماية خصوصية الأطفال على الإنترنت (COPPA)، ضمانات أساسية. يجب على الآباء معرفة البيانات التي يتم جمعها وكيفية استخدامها.
ومن الناحية الإيجابية، يُمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي حليفًا تعليميًا رائعًا ومسليا في نفس الوقت. فعلى سبيل المثال تستخدم منصات التعلم التكيفي، مثل أكاديمية خان (Khan) وأكاديمية دولينجو (Duolingo)، الذكاء الاصطناعي لتخصيص الدروس التعليمية بما يتناسب مع أنماط التعلم الفردية وسرعتها. بالنسبة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، يُقدم الذكاء الاصطناعي مجالات أكبر - فالمساعدون الصوتيون، وتقنيات التعرف على الكلام، والتطبيقات القائمة على التعلم الآلي، قادرة على كسر حواجز التواصل وإمكانية الوصول. وبهذه الطريقة، يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداةً لـ التعليم والتعلم الشامل.
ومع ذلك، من الضروري أن يظل التوجيه البشري محوريًا ولصيقًا. فلا يُمكن لأي ذكاء اصطناعي أن يُغني عن الوجود البشري، والحكم الأخلاقي، والذكاء العاطفي الذي يُقدمه الآباء والمعلمون ومقدمو الرعاية والخدمات التعليمية. وعليه يجب أن يكتسب ويتعلم الأبناء مهارات التفكير الناقد والتفكير التحليلي وممارستها على كل ما تنتجه وتقدمه لهم أدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة من معلومات ومعارف وعدم قبولها بلا تمحيص أو تفكير. في هذا السياق، ُ تًعد قيم محو الأمية الإعلامية والرقمية، والمواطنة الرقمية، والتفكير الأخلاقي أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ حيث يجب أن يُدرك الأبناء أن وراء كل اقتراح أو توصية رقمية من الذكاء الاصطناعي مجموعة من الافتراضات والخوارزميات والتحيزات المُحتملة من صنع الإنسان.
هناك أيضًا مسألة التنمية الاجتماعية. فالتفاعل مع أدوات الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا عن العلاقات الإنسانية الحقيقية والواقعية (في المسجد والمدرسة والنادي والزيارات العائلية والمناسبات المجتمعية). فبينما قد تُوفر روبوتات الدردشة ممارسةً أساسيةً ومتزايدة للمحادثة، إلا أنها تفتقر إلى دقة وعمق التفاعل البشري الحقيقي الذي يحتاجه الأطفال في هذه المرحلة العمرية لنموهم المعرفي والعاطفي الحقيقي. لذا فإن تشجيع الأطفال على التفاعل مع أقرانهم، وتنمية قيم التعاطف، وممارسة حل المشكلات الواقعية أمرٌ أساسي في عصر الذكاء الاصطناعي.
للآباء والأمهات الذين يخوضون هذه التجربة الجديدة، إليكم بعض المبادئ المفيدة في هذا الشأن:
المشاركة: فهم منصات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها أطفالكم. وضع حدود: إنشاء مناطق خالية من الشاشات والتطبيقات وتشجيع الأنشطة البدنية والعقلية غير المتصلة بالإنترنت. تعليم الأخلاق الرقمية: مساعدة الأبناء على فهم الخصوصية والموافقة والسلوك المحترم على الإنترنت. القيادة بالقدوة: أن يكونوا قدوة لأبنائهم في الاستخدام السليم للتكنولوجيا والتفكير النقدي.إنَّ تربية الأبناء في عصر الذكاء الاصطناعي لا تعني عزلهم عن التكنولوجيا فذلك أمر لا يمكن قبوله ولا يمكن تحقيقه بأي حال من الأحوال؛ بل تعني إعدادهم للتعايش معها بحكمة واستخدامها الاستخدام الأمثل. ومن خلال التوجيه الرصين والمحادثات والنقاشات التربوية معهم، يمكن لأبناء اليوم أن يكبروا ليصبحوا مواطنين رقميين مسؤولين، مُستعدين ليس فقط لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بحكمة، بل أيضًا لرسم مستقبله وتوجيه مساره نحو الأفضل.
** باحث أكاديمي