السؤال الأكثر إلحاحا على الإسلاميين دائما، وبلا توقف، هو "ما العمل؟!".. ثمّة معان إيجابية في هذا السؤال، أو تبدو كذلك، باعتبار "نحن قوم عمليون" كما قال الشيخ حسن البنا، أو باعتبار أنّنا متعبَّدون بالعمل، وقد يشير السؤال إلى حالة الاستغلاق التي تواجهها الحركة الإسلامية منذ تأسيسها إلى اليوم، ولكن، وللمفارقة، يقصد السؤال، في بعض أوجهه، أنه لا عمل، ليس من جهة أنّ الحركة الإسلامية لا تعمل، أو لا تريد أن تعمل، ولكن من جهة أنّه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن، أي كلّ ما هو كائن صحيح وصائب، طالما أنّه خيارنا!

يحيل هذا المنطق إلى المعنى من وجود الحركة الإسلامية سياسيّا، أي ماذا تريد؟! وما هي رؤيتها؟! طالما أنّها مستعدة أن تسوّغ لنفسها، في لحظات معينة، كلّ ما تأخذه على غيرها، يتضح ذلك من موقف ظاهر لأوساط إسلامية واسعة من سياسات وخيارات العهد الجديد للحكم في سوريا، والذي وإن كان سليل حركة جهادية، وناجما عن ثورة، فإنّه يختار الانخراط بعمق في النظام الإقليمي وأبعاده الدولية، ولا يرى خيارا أفضل للاستمرار، أو بحسب بعض المفاهيم الإسلامية الأثيرة لـ"التمكين"، وللتمكن من النهوض بالعبء السوري الهائل استقرارا وإعادة إعمار وبثّ حياة.



يتضح ذلك من موقف ظاهر لأوساط إسلامية واسعة من سياسات وخيارات العهد الجديد للحكم في سوريا، والذي وإن كان سليل حركة جهادية، وناجما عن ثورة، فإنّه يختار الانخراط بعمق في النظام الإقليمي وأبعاده الدولية، ولا يرى خيارا أفضل للاستمرار، أو بحسب بعض المفاهيم الإسلامية الأثيرة لـ"التمكين"
تنبغي الإشارة، والحالة هذه، حتى لا يلتبس الأمر، إلى أنّ الكلام متجه إلى موقف الإسلاميين من خيارات بعضهم في الحكم، وليس إلى السوريين من حيث آمالهم وتطلعاتهم في حياة يلتقطون فيها أنفاسهم بعد حرب مدمرة طالت 14 عاما. تتحدث تلك الأوساط من الإسلاميين، عن السياسة بوصفها "فنّ الممكن"، فهي بهذا الاعتبار منفتحة على كلّ الخيارات، وقابلة لكل الاحتمالات، ومجرّدة من كلّ الضوابط، وطالما كانت السياسة كذلك، فإنّ السؤال الذي ينبغي أن يطرحه الإسلاميون على أنفسهم، هو الفارق الذي يمكنهم أن يصنعوه بممارستهم السياسية، أو بكلمة أخرى، طالما أنّ السياسة لا محددات أخلاقية لها، فما معنى ممارسة السياسة باسم الإسلام؟!

عارض الإسلاميون حكومات وأنظمة، وقاتلوا بعضها إن كانوا جهاديين، وانحازوا في أحوال إلى ثورات شعبية عليها، بيد أن تلك الحكومات والأنظمة كانت تدعي أعذارا تفسّر بها عجزها عن إنجاز ما طالب به الإسلاميون، أو تبيح بها بعض خياراتها التي رفضها الإسلاميون، كاختلال موازين القوى، وحدّة التعقيد في التدافع السياسي والاقتصادي والاجتماعي من أدنى مستوياته إلى أوسعها كونية، ومن شأن تلك الحكومات والأنظمة أن تشجب "العنتريات"، وتدين "التهور"، وتعلي من شأن العقلانية، وأن تعيد التأكيد على كون السياسة هي "فن الممكن"، فحينما يكرّر الإسلاميون، اعتذارا منهم لأنفسهم ولمن يحبون، الأعذار نفسها، فأيّ إضافة يقدّمونها حينئذ بممارسة السياسة باسم الإسلام؟!

هل ثمّة إضافة في اتخاذ الإسلاميين خيارات هاجموها من قبل لما اتخذتها حكومات قبلهم؟! هل تختلف طبيعة الخيارات المرفوضة حينما تختارها أيد متوضئة ولحى طويلة؟! ليس النقاش هنا إن كان من حقّ الإسلامي أن يأخذ الفرصة ليحكم أم لا، ومن ثمّ فليس الأمر مقارنة بينه وبين غيره ممن عارضهم أو قاتلهم من حيث الفرصة، وقد أخذوا عقودا متصلة من الزمن فرصتهم، ولكنّ النقاش في استعادة السياسات القديمة نفسها بوجوه جديدة، سياسات كانت من أسباب المعارضة أو القتال أو الرفض. وبالرغم من ذلك، فحتى المطالبة بالفرصة والانتظار، تستدعي وضوح الرؤية والوعد بحيث يعلم الناس كيف سيوسّع هذا الإسلامي فرصه وإمكاناته في الحكم، وما هي المشاكل التي سيحلّها بنحو عجز عنه سابقون، وهذا لا يجاب عليه فقط بالقول "السياسة فن الممكن".

لكن وبالتجاوز عن ذلك، كيف إذا كان هذا الممكن مرهونا بشروط الهيمنة الإقليمية والدولية؟ هل ستصير أسباب الرفض للحكومات والأنظمة أسبابا للتمكين للحكومات الإسلامية؟! هل سيكون مقبولا مثلا إدارة سجون لـ"C.I.A" في البلاد العربية؟! هل سيصير التطبيع ثمنا محتملا لأيّ غرض كان، كإنجاح التجربة؟! (ومفهوم النجاح شديد الالتباس فيما يكتبه ويقوله بعضهم)، هل ينبغي الدفاع عن الحكم الجديد في سوريا مثلا لو ثبت أنّ هذه الإدارة تعاونت في تسليم رفات الجندي "تسفيكا فلدمن" وأرشيف الجاسوس "إيلي كوهين"؟! (هذه التساؤلات لا تتهم الإدارة الجديدة بالتورط في ذلك، ولكنها تسائل ميلا غريزيّا عند بعض الإسلاميين إلى الإنكار إن مسّهم الاتهام مهما قويت القرائن، أو كان التساؤل وجيها أو مشروعا، ثم التسويغ تاليّا، باعتبار أنّ النوايا المضمرة تحتمل تنازلات مؤقتة إلى حين التمكين)!

هذا كلّه دون نقاش الجوهر السياسي، وهو إمكانية التحرر لاحقا من الشرط المفروض بعد قبوله والتزامه ابتداء في بنية سياسية شديدة الإحكام، ولم يعد فيها بالإمكان التأسيس لموقع سياسي في الإقليم والعالم فقط من خلال الدولة، بعد كلّ التحولات العميقة التي جرت على النظام العالمي، وخلقت شبكات بالغة التعقيد من المصالح، بحيث لا يمكن بالقبول بهيمنتها ابتداء؛ واختراق جدارها نحو فضاء مستقلّ أو أرحب. ولكن، ومرّة أخرى، وبالتجاوز عن ذلك، هل هذا ما كان يعد به الإسلاميون من ممارسة السياسة باسم الإسلام؟! أي انتهاج خيارات السابقين، ولكنّ معناها ومآلاها معهم سيكون مختلفا لأنّ الفاعل مختلف؟! هل كانت هذه الخيارات مرفوضة لذاتها أم كان الرفض لفاعلها؟! وهل كان رفض الفاعل السابق إلا لأنه التزم هذه الخيارات مختارا أو مكرها؟!

السياسة وبما هي إدراك لموازين القوى، لا تبدو موازين القوى فيها مُدركة بما هي موازين قوى لبعض هؤلاء الإسلاميين، الذين لديهم جنوح مفزع للدفاع عن خيارات جهات محددة
وعلى أية حال، فإنّ السياسة وبما هي إدراك لموازين القوى، لا تبدو موازين القوى فيها مُدركة بما هي موازين قوى لبعض هؤلاء الإسلاميين، الذين لديهم جنوح مفزع للدفاع عن خيارات جهات محددة، أردوغان مثلا أو الإدارة السورية الجديدة، وإدراكهم لموازين القوى لا يتجاوز محو حدود المناورة، بدعوى الاضطرار أو الاحتياج أو انعدام البديل، دون النظر إن كان هذا كافيا للوصول إلى شيء، فمجرد الخضوع لموازين القوى ليس شرطا موضوعيا لأيّ إنجاز، ومن ثمّ تجري إعادة توهّم لموازين القوى منفصلة عن الواقع تماما. فموازين القوى لا بدّ من مراعاتها، ولكن مراعاتها لا تعني بالضرورة الخضوع، بل هي قد تفيد بأنّ الخضوع لها غير مجد، وحتى لو كان هذا الخضوع مفيدا من حيثية ما، فاعتبار موازين القوى لا يكون من زاوية إحسان الظن بالفعل أو إساءة الظن به!

تتضح هذه الفكرة بالمثال، فقد بدأ إسلاميون، بعضهم من مصر، محاولة إعادة تقديم أوراقهم للإقليم، مستدلين بالتحول الذي حصل في سوريا، حينما قبلت دول الإقليم والعالم جهاديّا سابقا، فتوهموا أنّ الأمر مهارة في المناورة، وجدية في إثبات القدرة على التفاهم، وهذا هو الإسقاط الفادح لمعنى موازين القوى، فهل مصر كسوريا؟! وهل السياق الذي جاء فيه هذا الجهادي هو نفسه الذي صعد فيه الإخوان المسلمون إلى حكم مصر؟! وهل مشكلة الإسلاميين في العالم كله في التفاهم؟!

وقّع سعد الدين العثماني من موقعه رئيسا للحكومة المغربية اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، فلم يفد ذلك حزبه "العدالة والتنمية" إلا تقليص حضوره في الحالة السياسية المغربية، وانحازت "حمس" في الجزائر في العشرية السوداء للدولة، والتحالف مع الدولة صراحة وضمنا؛ كان خيار العديد من الحركات الإسلامية، التي لم تكفّر حاكما ولم تطلق رصاصة على غربيّ، ومع ذلك لم تستفد شيئا! وهذا علاوة على ما يمكن قوله بشأن الإخوان المسلمين في العراق ومشاركتهم في مجلس الحكم الانتقالي بعد غزو أمريكا للعراق، أو في أفغانستان إبان الغزو الأمريكي ومشاركتهم في تحالف الشمال.

النقاش هنا ليس في صواب ذلك كله من حيث نفس الأمر، ولا يقصد مطالبتهم بالعمل في هوامش غير متاحة، أو دعوتهم لبطولة مستحيلة، ولكن للقول إنّ المشكلة لم تكن أبدا في موضوع التفاهم هذا، وأنّ إحسان الظنّ من عدمه ليس أداة تحليل، وهذا التوضيح كذلك لا يتضمن تزكية لتلك المحاولات المشار إليها أعلاه، بل يتجاوز تقييمها إلى تفكيك منطقها المؤسس.

أخيرا هذه حماس، كانت أقلّ الاتهامات التي تنالها من الفصيل نفسه الذي انحدر منه أحمد الشرع، هي الميوعة العقدية والسياسية، إن لم يصعد الاتهام إلى تكفيرها، وهي -أي حماس- لم تُكفّر مسلما، ولم تقاتل أحدا رفع علما وطنيّا، علم فلسطين أو غيره، بدعوى أنه راية جاهلية عَمِية، بل هي ترفعه وتُضمِّنه شعارها، وأعلنت منذ تأسيسها أنّ جسورها ممدودة إلى أيّ أحد في العالم طالما أنّه قبل منها ذلك، ولم تطلق رصاصة واحدة على أحد خارج فلسطين، وبالرغم من ذلك، ظلّت القطيعة، أو العلاقة الخجولة، هي الغالب على صلات العرب بها، علاوة على العالم. وهذا يعني أنّ القضية ليست في مدى قدرتك على إثبات جديتك في التفاهم مع العالم، ولكن لهذا العالم أسبابه الكثيرة لرفضك!

x.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه سوريا خيارات سوريا اسلاميين خيارات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة موازین القوى طالما أن فی سوریا إن کان

إقرأ أيضاً:

عالم يُقسَّم.. والشرق الأوسط يدفع الثمن

فـي الوقت الذي يتطلع فيه العالم إلى إنهاء الحروب، وبناء نظام دولي أكثر عدلا، تقود إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية تحولا مقلقا في السياسة العالمية يتمثل في الانتقال من منافسة القوى العظمى إلى التفاهم معها، حتى وإن جاء ذلك على حساب الحلفاء والدول الصغيرة. هذه ليست مجرد إعادة ضبط للعلاقات الدولية، بل هي بداية خريطة جديدة للعالم تُرسم بين الكبار، بينما يُطلب من الآخرين أن يتقبلوا ما يُفرض عليهم.

قبل سنوات فقط، تبنّت واشنطن استراتيجية واضحة: التنافس مع الصين وروسيا لحماية التفوق الأمريكي والدفاع عن الديمقراطية. كانت هذه الاستراتيجية -رغم صراحتها- تقوم على فكرة أن الولايات المتحدة تواجه خصمين يسعيان إلى تغيير النظام العالمي. ولهذا ركزت الإدارتان السابقتان -إدارة ترامب الأولى ثم إدارة بايدن- على صدّ النفوذ الروسي في أوكرانيا، ومنع توسّع الصين في آسيا، وبناء تحالفات أوسع حول العالم.

لكن الآن، يبدو أن الرئيس ترامب قد غير رأيه. هو لا يريد مواجهة الصين وروسيا، بل يريد الاتفاق معهما على إدارة العالم معا، كل في منطقته، وكل بما يراه مناسبا. وفقا لهذا المنطق الجديد، يمكن لروسيا أن تحتفظ بأراض من أوكرانيا، ويمكن للصين أن توسّع نفوذها في بحر الصين الجنوبي، بل وربما في تايوان لاحقا. مقابل ذلك، تتوقع واشنطن أن تظل هذه القوى على الحياد عندما تمارس الولايات المتحدة نفوذها في مناطق أخرى، بما فيها الشرق الأوسط.

هنا، تصبح المسألة خطيرة؛ لأن الشرق الأوسط هو المنطقة التي تأثرت أكثر من غيرها بقرارات القوى العظمى، وغالبا من دون أن يُؤخذ رأي سكانه بعين الاعتبار. واليوم، في ظل هذا التوجه الجديد، تصبح حروب مثل الحرب في غزة، أو الأزمة السورية، أو الملف النووي الإيراني، ملفات لا تُحل بمنطق القيم أو القانون الدولي، بل بمنطق «ما يناسب الكبار». وإذا اتفقت واشنطن مع موسكو أو بكين على تسوية ما، فالجميع مطالب بالقبول بها.

لكن هل هذا هو الطريق إلى السلام؟ وهل يمكن بناء استقرار عالمي من خلال تجاهل إرادة الشعوب والتفاهم مع الأنظمة القوية فقط؟ التجربة تقول لا. لقد جُرب هذا النموذج من قبل في أوروبا في القرن التاسع عشر، فيما عُرف بـ«نظام الوفاق»، حيث اتفقت القوى الكبرى على إدارة القارة وتجنب الحروب.

لكن النظام لم يصمد، وانتهى إلى صراعات أكبر؛ لأنه تجاهل التغيرات الحقيقية على الأرض.

في الشرق الأوسط، الناس لا يبحثون عن وفاق بين زعماء العالم، بل عن عدالة، وحرية، ومستقبل لا تُقرره القوى الكبرى خلف الأبواب المغلقة. التحديات التي تواجه المنطقة - من الاحتلال والنزاعات المسلحة، إلى الفقر والبطالة والتغير المناخي - لا يمكن حلها من خلال «صفقات جيوسياسية» لا تراعي مصالح الشعوب.

ما يحدث اليوم هو أن السياسة الدولية تعود إلى لعبة «تقاسم النفوذ»، بينما تُهمّش المؤسسات الدولية، وتُضعف التحالفات، ويُعاد تعريف المصالح بناء على من يملك القوة لا من يملك الحق.

وهذا يجب أن يقلق الجميع.

في نظام دولي عادل، لا ينبغي أن يكون مصير أوكرانيا أو فلسطين أو أي دولة أخرى موضوع تفاهم بين واشنطن وموسكو وبكين فقط؛ لأن العالم - ببساطة - لم يعد يتحمل نظاما يُدار كما لو أنَّ الآخرين غير موجودين.

مقالات مشابهة

  • النقيب الحسن لوزير العدل: للإسراع في محاكمة الموقوفين الإسلاميين
  • صراعات القوى وصعود البدائل.. رؤى متنافسة لمستقبل النظام الدولي
  • الانتخابات البلدية في لبنان.. انتصار القوى التقليدية وتراجع للقوى المدنية
  • عالم يُقسَّم.. والشرق الأوسط يدفع الثمن
  • 2026 قد تحمل الفرج.. ولكن 2025 اقتصاد تركيا في وضع حرج
  • طريق الحُوار والتفاوض مع أصحاب قرار الحرب وإستمرارها من الإسلاميين لصالح البلد
  • صيام الماء .. تجربة مذهلة ولكن ليست للجميع
  • أمين دار الإفتاء: يجوز للمرأة الحج بدون محرم ولكن بشرط
  • انتهاء الموجة الحارة ولكن.. الأرصاد توضح التفاصيل