يقول بورخيس «لا أظنّ أنّ البشر يتعبون أبدا من سماع وحكاية القصص»، تلك سمة في الإنسان تُميّزه وتُفرده من بقيّة الكائنات أنّه كائن حكّاء، يميل بطبعه إلى رواية الوقائع وإعادة إخراجها وقصّها، لا يمكن له أن يحيا خارج حكايات يُعيدها أو ينتجها. البشر لا يتعبون من سماع الحكايات ومن قصّها، علاقاتهم حكاية، مغامراتهم حكاية، صلتهم بالطبيعة من حولهم حكاية، علمهم حكاية، تفاعلهم مع الكون وتجانسهم حكاية.
لقد قاوم الإنسان جهله بالوجود بابتداع حكايات تروي البدايات، وحكايات تفسّر ظواهر الطبيعة، من زلازل وبراكين وعواصف وأعاصير، ابتكر حكايات للنهايات ولانتهاء الإنسان، أقام قصصا عن الموت ومصائره، وعمّا بعد الوجود، ثراء تكوّن بالحكاية الشعبيّة والعالمة لدى كلّ شعوب الأرض، صنع إرثًا دالاًّ على صلة الإنسان بكونه، وصلته باللّغة التي أقام بها هذه الحكايات، لا ريب أنّ وجود الإنسان متحقّق بوجود الحكاية، يقول غاستون باشلار «ماذا نقرأ حينما نقرأ الحكاية الشعبيّة؟ الجواب عن هذا السؤال لا يحتاج للكثير من العناء، إذ الإحساس الأوّليّ المباشر يدفع بالجواب كبداهة في ثنايا السؤال نفسه» إنّنا نقرأ ذواتنا، نلتفت إلى ما هو حميميّ ولصيق بمكوِّناتها النفسيّة العميقة»، يروي الإنسانُ ذاته والكوْن من حوله، يُعبِّر عمَّا يعيشه من جهةٍ، وعمّا يتخيّله ويُحْدثُه من عوالم يتمثُّلها من جهةٍ ثانية، ولا ينقطعُ صوْتُ الحكاية أبدًا، ولذلك، فإنّ التاريخ البشريّ هو حكاياتٌ تُقَصُّ وتُروَى، منها نُدرِك الحضارات والأمم والممالك، ومنها نُشكِّلُ تمثُّلا عن شخصيّات التاريخ وحوادثه.
لقد رافقت الحكايةُ الإنسان منذ بناء آدم وتكوينه والنفخ فيه، الخلْق ولّد قصَّة روتْها كلّ الأديان وفقًا لاعتقادها وتصوّرها، تكوّن البشريَّة قصّة تختلف من حضارة إلى أخرى ومن اعتقاد إلى آخر، غير أنّا لا نجد حضارة بدون قصّة، ولذلك كتب ويل ديوارنت كتابه الجميل قصّة الحضارة راصِدا تكوّن الحضارة البشريّة تنقُّلا من الصيد إلى الفعل في الأرض واستخراج مكنونها، إلى الحرث والزرع بلوغًا إلى الصناعة، وتكوين الحكّام وسنّ القوانين وتشكيل الروابط، ومنه تشكُّل الحضارات المختلفة وظهور الأنبياء والرسل، كلّ هذا العبء التراكميّ هو مادّة حكائيّة تشكّلت في قصّة الحضارة البشريّة التي نطَّلعُ عليها اليوم من حيث هي حكاية لتاريخ طويلٍ، وقد أفاض الفيلسوف التاريخي بول ريكور في كتابه الزمان والسرد في الحديث عن التماسّ الحاصل بين التاريخ والسّرد، باعتبار أنّ التاريخ في أصله هو قصص، وقد ذكر من قبل ذلك العلاّمة العربيّ ابن خلدون أنّ التاريخ «في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق»، وهو «خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنّس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال»، وعلى ذلك اعتبر بول ريكور أنّ لحظة ظهور السّرد هي لحظة فارقة في تاريخ البشريّة، إذ أصبح الإنسانُ قادرًا على تحويل الأحداث إلى روايةٍ وقصّة، إلى حكايةٍ يضطلع بها حاكٍ تختلف مهاراته وقدراته على تجميلها وتعقيدها وترغيب السّامعين فيها.
لم تكن قصّة الإنسان دومًا محكيّة بوساطة اللّغة، فهنالك علامات أخرى دوّنت قصّة الحضارة، وهي سرود أيضًا، هي حكاياتٌ تقوم على الأشكال أو على العمران أو على النحت ومختلف التصاوير، ولعلّ الإنسان الأوّل قبل أن يضلع في اللغة واختراع قدراتها بالتراكم قد لجأ إلى النحت والرسم على الجدران وفي تجاويف المغاور والكهوف، حيث نقرأ اليوم قصّة الإنسان الأوَّل في صيده وملبسه ومأكله ومعاشه، أو قصّة الحضارات الكبرى في أهراماتها وجنانها وأسوارها وقلاعها.
لم يكن الإنسان أبدًا خلوًا من حكايةٍ يرويها، وهو مظهرٌ من مظاهر تناغم البشر مع الكون وانسجامه مع فضائه المتحقّق والمتصوَّر، وهذا مدار كتابٍ دقيق لمحمد حجّو تعرّض فيه إلى «الإنسان وانسجام الكون». اليوم الحكاياتُ ما زالت وفيرة ثريّة غنيَّة، والرّواةُ كُثْرٌ، منهم مَن ما زال مُحافِظًا على إجراء اللّغة سبيلا ووسيطًا لعرْض الحكايات، ولبيان بقاء الإنسان، ومنهم مَن استبدل اللّغة بمدٍّ وسيلٍ لا ينقطع من مختلف أدوات التواصل الاجتماعي، حيث تُعْرَض الحكاية كلّ جزء من الثانية، بصورة بارقةٍ برقيّة، ولا نعلم ما مصير هذا المدّ وأين منتهاه!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
حكايات الشجرة المغروسة 2.. إكليل الشهداء في اجتماع الأربعاء
ألقى قداسة البابا تواضروس الثاني عظته الأسبوعية في اجتماع الأربعاء مساء اليوم من كنيسة السيدة العذراء والقديس يوسف النجار بسموحة بالإسكندرية، وبُثت العظة عبر القنوات الفضائية المسيحية وقناة C.O.C التابعة للمركز الإعلامي للكنيسة على شبكة الإنترنت.
وصلى قداسته صلوات العشية، بمشاركة صاحبا النيافة الأنبا باڤلي الأسقف العام لكنائس قطاع المنتزه، والأنبا هرمينا الأسقف العام لكنائس قطاع شرق الإسكندرية، والقمص أبرآم إميل وكيل عام البطريركية بالإسكندرية والاباء كهنة الكنيسة وعدد من مجمع كهنة الإسكندرية، وخورس شمامسة الكنيسة وأعداد كبيرة من شباب الإسكندرية الذين امتلأت بهم الكنيسة.
وقبل العظة رحب القمص يؤانس تادرس كاهن الكنيسة بقداسة البابا مثمنًا اهتمامه بكافة فئات شباب الكنيسة القبطية في مصر والخارج، وعرض القس كيرلس رشدي منسق منتدي شباب الإسكندرية فكرة المنتدى ونشأته، ثم رحب القمص أبرآم إميل بقداسته، شاكرًا حرصه على المشاركة في منتدي الشباب لافتًا إلى دور الكنيسة الهام في خدمة الوطن مستشهدًا بعدد من النماذج القبطية المشرفة التي خدمت الوطن والعالم.
حكايات الشجرة المغروسةوقبل بدء العظة عبّر قداسة البابا عن سعادته بمجيئه للكنيسة، ومشاركته في منتدي شباب الإسكندرية المقام بالكنيسة من خلال اجتماع الأربعاء.
واستكمل قداسته سلسلة "حكايات الشجرة المغروسة"، وتناول اليوم موضوع "إكليل الشهداء"، وقرأ جزءًا من الأصحاح الخامس في رسالة القديس يوحنا الرسول الأولى والأعداد (١ - ٤)، وأشار إلى عبارة "المجد لك يا سيدنا وملكنا المسيح، فخر الرسل، إكليل الشهداء، تهليل الصديقين، ثبات الكنائس، غفران الخطايا" في بدء قانون الإيمان.
وتحدث قداسة البابا عن عصر الاستشهاد في زمن الإمبراطورية الرومانية وخاصة في حكم دقلديانوس في عام ٢٨٤م.، وكان أكثر بلديْن قدمتا شهداء للمسيحية هما مصر وفلسطين، بداية من أطفال بيت لحم مع ميلاد السيد المسيح.
وأضاف قداسته أن المسيحية عاشت بالعرق والتعب (كرازة الرسل) وبسفك الدم (الاستشهاد).
وتابع قداسة البابا حديثه عن شهداء الإيمان مثال: القديس بوليكاربوس، والقديس البابا بطرس الأول البطريرك السابع عشر والذي تولى العرش المرقسي في عام ٣٠١م.، وشهداء ليبيا، وكذلك شهداء العفاف مثال: القديسة دميانة والأربعين عذراء، "كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ" (رؤ ٢: ١٠).
وأشار إلى ثلاثة أكاليل، وهي:
- إكليل البر (الفضيلة).
- إكليل الحياة (الأمانة).
- إكليل المجد (الكرامة السماوية).
وأوضح قداسة البابا: كيف ننال تلك الأكاليل؟
١- احفظ إيمانك قويًّا.
٢- اخدم وتاجر بوزناتك، "كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ" (مت ٢٥: ٢١).
٣- احفظ مبادئك سليمة.
٤- اشهد بحياتك، وكُن شاهدًا بالإيمان.