لجريدة عمان:
2025-05-22@05:56:19 GMT

موفق محمد .. لسان حال الناس

تاريخ النشر: 21st, May 2025 GMT

فـي أحاديثه الشخصية، وفـي تصريحاته لوسائل الإعلام، اعتاد الشاعر موفق محمد الذي غادر عالمنا عن (77) عاما، أن يطلق الطرائف، راويا الكثير من المفارقات التي تصادفه فـي الحياة بروح ساخرة، هذه الروح كانت طابعا ملازما له، وقد زحفت على شعره، حتّى غطّته، وفـي كل تلك الأحاديث تراه، رغم آلامه وأحزانه، يشيع جوّا من المرح، حين يذكر مفارقات تحمل طابع الكوميديا السوداء، فـيصدق به قول الشاعر:

كالطير يرقص مذبوحا من الألم

وفـي واحد من أحاديثه قال إنه ذهب ذات صباح باكر إلى تمثاله الذي يتوسّط واحدة من ساحات مدينته الحلّة، فوجد عمّال النظافة قد بكّروا قبله لتنظيف الساحة، وحين شاهده أحدهم مستغرقا، فسأله، من دون أن يعرف أن التمثال له، عن صاحب التمثال: هل هو سياسي أم مخترع أم قائد عسكري؟ فأجابه: إنه شاعر، فأصيب عامل النظافة بخيبة أمل، وقال: الله يرحمه!

كان موفق يروي الواقعة وهو يضحك، (هل سيضحك وهو فـي قبره حين يسمع أن هناك من يقف اليوم أمام تمثاله ويترحم له ؟) وجه المفارقة فـي الحكاية أن الناس اعتادوا على تكريم المخترعين، والشهداء، والقادة، بوضع التماثيل لهم، أما الشعراء، فحظهم هو الأقل فـي ذلك، ومن هذا القليل تمثال الشاعر بدر شاكر السياب المتوفى عام 1964 الذي أزيح عنه الستار عام 1971م فـي مدينته البصرة، وكذلك الرصافـي، وعبد المحسن الكاظمي، ومحمد سعيد الحبوبي، وكلهم، جرى تكريمهم، بعد وفاتهم، أما الشاعر موفق محمد، فقد كان استثناء، فقد نصبوا له تمثالا فـي حياته، وكان على نفقة أحد تلامذته الذين أصبحوا من رجال الأعمال، وقد افتتح بحضوره، وهذا دليل على احتفاء المحيط به، وتقديره له، فقد عاش علما من أعلام مدينته الحلة ونجما ساطعا من نجومها، وهذا نادرا ما يحدث فـي زمننا، الذي نشهد به تراجعا ملحوظا لمكانة الشعر ومع تراجعها، تراجعت مكانة الشاعر، إلّا موفق محمد فقد بقيت مكانته عالية، ولكن كيف اكتسب هذه المكانة؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه، وأوّلها أنه كان قريبا من آلام البسطاء، فكان صوت الناس، المعبّر عن آلامهم، وآمالهم، لذا أحبّوه، فحين سئل القاضي الفاضل عن سبب إقبال الناس على شعر المتنبي، أجاب: «إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس» فموفق محمد نطق عن خواطر الناس، فكان لسان حالهم، فأحبّوه:

«طفلةً حافـيةً ترقص تحت وابل من الرصاص

فـي الطريق إلى المدرسة وهي تجر خلفها حقائب من الأسى،

وكان اسمها زيتونةً وقلبها ينبض كالغصن يميل مع الرصاص يمينا وشمالا

ولا يسمع جرس الدرس الأول فـيعود منكسرا إلى قفصه .

.

لقد أحدودبت ظهور أطفالنا

وأعشوشب الضيم فـي صدورهم»

وتنطوي قصيدته على مفارقة، ففـي قصيدة يصور فـيها قسوة الحصار الذي فرضته أمريكا على العراق فـي التسعينيات، فـيقول:

رسم المدرس برتقالة

فوجد الطلاب يقشّرون السبورة

رسم المدرس دجاجة

فوجد الطلاب يلوّحون لها بالسكاكين

ترك المدرس قبره

وأصرّ أن يعطي الذين أحبهم

بعض الدروس

وجد الجميع بلا رؤوس

تميّزت قصيدة بالعفوية، والتلقائيّة، وحرصه على موسيقى الشعر:

شلوا يمينك واستعانوا بالذئاب على يسارك

هذا جزاؤك أن تموت فدى لصوتك واختيارك

وقد اعتاد أن يرسم مشاهد بصريّة يلتقطها من الواقع بعين الشاعر الذي يرى ما لا يراه الآخرون، ويعبّر عن تلك المشاهد القاسية بعذوبة آسرة تجعل القارئ يعيد قراءة النص عدّة مرّات:

فـي براد الموتى

وبعين مرعوبة ميّز وجه أخيه

حدق فـي جبهته المثقوبة

فرأى أما معطوبة وغرابا ينقر فـي عين أبيه

وهو غزير النتاج الشعري، كثير التنوّع، كتب قصيدة الشطرين، والتفعيلة، وقصيدة النثر والشعر الشعبي وزاوج ما بين الفصيح والشعبي فـي قصائده الساخرة المريرة، جاعلا من اللغة أبرز أدواته التعبيرية، معتمدا على اللغة المركزة:

عشرة أيتام

كنا حين ينام النهر ننام

ويعتمد فـي شعره على المفارقة:

أحياء ما زلنا أحياء

نحيا فـي حي الأسرى والمفقودين

وحي الشهداء.

جمعني به مهرجان المربد الشعري الذي أقيم فـي البصرة عام 2010، وتكررت لقاءاتنا فـي مهرجان بابل 2022 م ورأيته كما هو فـي شعره، عفويا، متوحّدا مع كلماته، فهو لا ينفصل عنها، بسيطا، حاملا أوجاعه التي يغطي عليها بسخرية مريرة، وخصوصا وجعه الكبير بتغييب ولده عام 1991 الذي خلّف جرحا لا يندمل عبّر عنه بالكثير من القصائد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: موفق محمد

إقرأ أيضاً:

الكوميديا الشعرية.. كيف سخر ألكسندر بوب من مجتمعه؟

في عصر كانت فيه الأرستقراطية تحاط بهالة من التقديس والهيبة، جاء الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب ليكسر هذا الصمت بقصيدته الشهيرة “The Rape of the Lock”، مستخدماً أدواته الشعرية في رسم صورة ساخرة للمجتمع البريطاني الراقي، لا تخلو من الفكهة ولا من النقد اللاذع.

خلفية القصيدة: عندما يتحول “خصلة شعر” إلى ملحمة!

قصة القصيدة تبدأ من حادثة حقيقية صغيرة أثارت خلافًا بين عائلتين من الطبقة الأرستقراطية في لندن، بعدما أقدم شاب على قص خصلة من شعر فتاة شابة جميلة في إحدى الحفلات، دون إذنها. 

وبدلًا من اعتبار الحادثة “مزحة ثقيلة”، تطورت إلى أزمة اجتماعية وأحاديث لا تنتهي.

تدخل بوب، بناءً على طلب من صديق مشترك، ليؤلف قصيدة ساخرة تهدف إلى تهدئة الموقف، فتحولت الواقعة التافهة إلى ملحمة شعرية بطولية صور فيها الخصلة وكأنها “كنز سماوي”، والفتاة كأنها “حورية من عالم الآلهة”.

سخرية ناعمة… لكنها موجعة

بوب لم يكتف بالسخرية من الحادثة فقط، بل استغلها كمنصة لانتقاد السطحية الفارغة التي سيطرت على الطبقات الثرية في عصره.

نراه في القصيدة يسخر من الهوس بالمظاهر والزينة
حيث يصف طقوس تجميل الفتاة وكأنها “مراسم مقدسة”، تقام فيها القرابين (من مساحيق وألوان) للآلهة، والتفاهة المغلّفة بالرقي
فبينما يتحدث الأسلوب الشعري عن “معارك”، و”بطولات”، و”آلهة”، نجد أن كل هذا موجه فقط لأجل خصلة شعر، أو نظرة إعجاب، أو لعبة ورق.

بإلإضافة الى انشغال المجتمع بما لا قيمة له في تجاهل تام لقضايا حقيقية كانت تموج بها إنجلترا في تلك الحقبة، مثل الفقر، والطبقية، والفساد السياسي.

ما وراء السخرية

رغم الطابع الكوميدي، فإن “The Rape of the Lock” ليست مجرد نكتة شعرية.

بوب كان يعكس من خلالها فلسفة أخلاقية وأدبية تؤمن بأن الأدب يجب أن يُظهر الحقيقة، حتى لو من خلال السخرية، وأن الشاعر عليه أن يكون “مرآة المجتمع” لا مجرد كاتب لمدح النخبة.

تأثير القصيدة

حققت القصيدة نجاحًا هائلًا، ولا تزال تدرس حتى اليوم كأحد أفضل نماذج الشعر الهزلي (Satirical Poetry)، إلى جانب أعمال مثل “Gulliver’s Travels” لجوناثان سويفت.

وقد اعتبرت نموذجًا مثاليًا لمزج البلاغة الكلاسيكية بالذكاء الاجتماعي.


 

طباعة شارك ألكسندر بوب الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب المجتمع البريطاني الشعر ثقافة

مقالات مشابهة

  • كيف كلفت زلة لسان عن الأرز وزيرا يابانيا منصبه؟
  • الكوميديا الشعرية.. كيف سخر ألكسندر بوب من مجتمعه؟
  • محمد أنور عشري.. فارس الطب الذي نزل عن صهوة جواده
  • بعد إلغاء متابعة زوجته له .. عصام صاصا يتصدّر مواقع التواصل الاجتماعي
  • مالك حداد.. الشاعر والروائي الجزائري الذي عاش حالة اغتراب لغوي
  • تحيةً للشيخ المعمم الذي نعى الشاعر موفق محمد عبر المنبر الحسيني الشريف ..
  • محمد عبد الرحمن عن بريستيج: الاختلاف في الآراء معناه إن العمل كويس وعمل حالة
  • تشيع شهيد الواجب عبده قاسم الذي ارتقى جراء العدوان الإسرائيلي على ميناء الصليف بالحديدة
  • استقبال حافل للعرض التقديمي لفيلم "عين حارة" الذي يمثل "القاهرة السينمائي" في مبادرة "فانتاستيك 7"