كيف نشأت نظريات المؤامرة؟ ما حقيقة دوافعها وكيف نتعامل معها؟
تاريخ النشر: 29th, May 2025 GMT
واستضاف البرنامج أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر الدكتور محمد المختار الشنقيطي، الذي قدّم مقاربة تحليلية دقيقة حول هذا النمط الفكري الذي يسود كثيرا من الخطاب العام.
وانطلقت الحلقة بتوصيف موجز لطبيعة هذا التفكير، حيث وصف الشنقيطي "نظرية المؤامرة" بأنها تفسير للوقائع الجلية بأسباب خفية دون براهين مقنعة، يقوم على افتراض وجود جماعة ذكية وشريرة تدير الأحداث من وراء الستار، وهو ما يضفي على العالم طابعا من الشك والتوجس المفرط.
وأشار إلى أن المؤامرات الواقعية لا تُنكر، بل هي جزء من طبيعة الحياة السياسية والعسكرية، غير أن ما يميّز التفكير التآمري هو اتساعه ليشمل كل ما يمكن تخيّله، إذ يتحول أي احتمال ممكن إلى حقيقة واقعَة، دون تمييز بين الإمكان والوقوع، وهي فجوة معرفية ومنهجية في التفكير.
وتوقف الشنقيطي عند المسألة المتعلقة بالمؤسسات الرسمية، موضحا أن الشك فيها لا يعني نسف الثقة بها كلية، فرفض الروايات الرسمية لا ينبغي أن يتحول إلى حالة عدمية تشكك في جميع مصادر المعرفة، فالثقة المتوازنة، لا السذاجة أو الارتياب، هي ما يضمن بقاء الحياة الاجتماعية قائمة.
كما نبّه إلى أن الإعلام قد يُستعمل أداة لبناء سرديات مقصودة، إلا أن ذلك لا يبرر القفز نحو تأويلات غير عقلانية، لأن الإنسان العاقل يملك قدرات تحليلية تمكّنه من التمييز، مؤكدا ضرورة ربط المعلومة بالدليل، دون الاكتفاء بالشبهات أو التهيّؤات، وأن الخلط بين ما هو ممكن وما هو واقع أحد أبرز علل هذا التفكير.
إعلان البيئات المغلقةوحذر من أن البيئات المغلقة سياسيا واجتماعيا تمثل بيئة مثالية لازدهار نظرية المؤامرة، بسبب غياب الرأي الآخر واحتكار الصوت الرسمي، بينما تنحسر هذه الظاهرة في المجتمعات المفتوحة التي تحتكم إلى تعددية المصادر الإعلامية وتعدد الآراء.
وانتقل الشنقيطي إلى توضيح البعد النفسي، معتبرا أن الحاجة للشعور بالأمان، وتجنّب الاعتراف بالحقائق الصادمة، هما من أبرز دوافع اللجوء إلى التفكير التآمري.
وأضاف أن بعض الناس يجدون صعوبة في قبول فكرة أن جماعات صغيرة أو أفرادا من ثقافتهم قد يكونون وراء أحداث جسيمة، فيلجؤون إلى تفسيرات بديلة تحميهم من صدمة الواقع.
ولفت إلى أن نظرية المؤامرة قد تُبنى أحيانا على مركّب نقص، كأن يعجز المرء عن تصديق أن فئة من بني جلدته استطاعت القيام بعمل معقد كالذي حدث في أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، فينسبه إلى قوى عظمى، نافيا بذلك عن نفسه وعن جماعته القدرة على الفعل، حتى لو كان سلبيا.
ورأى أن الانحيازات النفسية المختلفة، كتحيز تأكيد الرأي أو التحيز العاطفي، تلعب دورا كبيرا في تعزيز هذه النظرية، فالبعض يصدق ما يتماشى مع رؤيته المسبقة للعالم، ويرفض الأدلة المناقضة لها، فيقع في فخ الانتقاء المعرفي بدل الموضوعية.
وفي السياق ذاته، حذّر من خطورة وسائل التواصل الاجتماعي التي عمّقت هذه الظاهرة، نظرا لاعتمادها على الخوارزميات التي تعزّز المواد التي تثير التفاعل العاطفي لا الدقة المنطقية، مما يجعل الفرد يتعرض لمحتوى يعيد إنتاج رؤاه المسبقة، فيتأكد منها بصورة مضللة.
وأكّد أن الذكاء الاصطناعي زاد من تعقيد المسألة، حيث أصبح من السهل إنتاج محتوى مزور يصعب على الجمهور العادي تمييزه، مما يتطلب إنشاء ضوابط أخلاقية وتقنية للحد من التلاعب بالمعلومة، دون الوقوع في فخ التعميم التآمري.
التفكير التآمريوربط الشنقيطي بين التفكير التآمري والنرجسية الفكرية، مشيرا إلى أن البعض يدّعي امتلاك معرفة خفية لا يدركها الآخرون، ويبحث عن التميز عبر تبني أفكار خارجة عن المألوف، معتبرا أن هذا الميل يكشف أحيانا عن رغبة في الظهور أكثر من كونه بحثا عن الحقيقة.
إعلانوشدد على أن انتشار هذه النظرية ليس مقتصرا على المجتمعات المتراجعة أو المنهزمة، بل يمتد إلى البيئات المتقدمة أيضا، إذ تتعدد دوافع التبني ما بين التهرب من المسؤولية أو البحث عن تفسير أخلاقي مريح للواقع، وهو ما يسميه بـ"الإزاحة الأخلاقية" التي تنقل اللوم إلى طرف خارجي وهمي.
وأكد أن هذه الطريقة في التفكير تفشل في بناء إستراتيجية عقلانية للتعامل مع الخصوم، فهي إما تضخّم العدو بشكل مبالغ فيه، أو تنفي قدرة الذات، وفي الحالتين تُلغى إمكانية التفاعل الواعي والفعال مع الواقع.
ورأى أن إحدى أبرز مخاطر التفكير التآمري تكمن في استغلاله من قبل الأنظمة الاستبدادية، التي توظفه لنزع المسؤولية عنها وتبرير الإخفاقات، من خلال تصدير صورة العدو الخارجي المتآمر وتخويف الناس به لتبرير القمع وتقييد الحريات.
وقال إن نظرية المؤامرة تُستخدم لتفسير الفشل العسكري والسياسي، فينسب الحاكم الهزيمة إلى مؤامرة كونية بدل أن يتحمل مسؤوليته، مذكّرا بأنه في المجتمعات الديمقراطية تُدرس أسباب الهزيمة وتُحاسب القيادات، عكس ما يحصل في الأنظمة الاستبدادية.
ولفت إلى أن الاستفادة من حدث ما لا تعني بالضرورة اختلاقه، إذ إن بعض السياسيين ينجحون في استثمار الأزمات لتمتين موقفهم، لكن ذلك لا يبرر اتهامهم بافتعالها، وهو ما ينطبق على نظريات طُرحت عقب أحداث كبرى كـ11 سبتمبر أو محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016.
أدبيات مزيِفةوحذر من الأدبيات التي غذّت هذا التفكير في العالم العربي، مثل كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"، مشيرا إلى أنها أرست صورة مزيّفة عن العالم وكأن ثمة جهة واحدة تحكمه وتتحكم بمصيره، وهو اختزال مخل للواقع المعقد.
وأكد أن بعض الخطابات التي تبدو مناهضة للصهيونية تسهم في تعظيمها عن غير قصد، وهو ما نبّه إليه المفكر عبد الوهاب المسيري، الذي رأى في هذا النمط خطابا مضادا غير واع يصب في صالح الدعاية الصهيونية بتصويرها قوة خارقة.
إعلانودعا إلى التمييز بين حقيقة الممارسات الإسرائيلية الموصوفة بالوحشية، وبين اختلاق وثائق مزيفة كـ"بروتوكولات حكماء صهيون" التي ثبت أنها مفبركة، معتبرا أن الاقتصار على الواقع كاف لإدانة الاحتلال من دون الحاجة لتوثيق زائف.
واختتم الشنقيطي بالتحذير من أن التفكير التآمري هو في جوهره عقل كسول يرفض مسؤولية الفهم والتحليل، داعيا إلى بناء تفكير إستراتيجي موضوعي يستند إلى تقييم واقعي لعناصر القوة والضعف عندنا وعند خصومنا.
واعتبر أن التفكير النقدي عنصر مهم في مواجهة هذا النمط، لكنه لا يكفي وحده، بل لا بد من ترسيخ التفكير الإستراتيجي السنَني، الذي يربط بين الأسباب والنتائج، ويسعى لوضع الجهد في موضعه، لبناء وعي قادر على التحليل لا على التبرير.
ودعا الشنقيطي إلى الحوار الهادئ مع أصحاب هذا التفكير، دون تهكم أو استهزاء، فالسخرية ليست سبيلا للإقناع، بل الحوار المنهجي القائم على الاحترام والعقلانية هو الكفيل بإعادة الاعتبار للعقل في زمن طغت فيه الروايات الزائفة على الحقيقة.
28/5/2025المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات نظریة المؤامرة هذا التفکیر وهو ما إلى أن
إقرأ أيضاً:
ما الفرق بين الخطأ والخطيئة وكيف نتجاوزهما؟.. علي جمعة يجيب
كشف الدكتور علي جمعة، مفتى الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، عن الفرق بين الخطأ والخطيئة فى الشرع.
الفرق بين الخطأ والخطيئة
وقال عبر صفحته الرسمية على فيس بوك إن الشرع الشريف فرَّق بين الخطأ والخطيئة بحسب توفُّر القصد وعدمه؛ فإذا لم يتوفر القصد فهو خطأ، وإذا توفر القصد فهي خطيئة.
وأوضح أن الخطأ معفوٌّ عنه، ولا يترتّب عليه إثمٌ في الغالب، أما الخطيئة فيترتّب عليها إثم، وتحتاج إلى طلب الغفران. وقد رتّب الشرع الشريف برنامجًا متكاملًا لمحاصرة تداعيات الخطأ والخطيئة، من أجل تجاوزهما، والبدء من جديد، ولتستمر الحياة بعيدًا عن آثارهما السلبية.
ونذكر ذلك في حقائق تبين المقصود:
الحقيقة الأولى: أن تأصيل الفرق بين الخطأ والخطيئة يظهر في الحديث الذي وضعه الإمام البخاري أول حديث في صحيحه، باعتباره مفتاحًا من مفاتيح فهم الشرع الشريف، قال رسول الله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...» والنية في اللغة: القصد المؤكد.
وهذا الحديث جعل الإنسان يراعي ربه الذي يعلم ظاهره وباطنه، وعمله ونيّته.
ويؤكّد هذا الفرق قول النبي ﷺ: «إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». ومن هنا، فقد يكون هناك أجرٌ عند بذل الجهد مع الوقوع في الخطأ، كقوله ﷺ: «من اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». فهو لم يقصد الإساءة أو الأذية، بل أراد الصلاح، وإن لم يُوَفَّق إليه.
وفي المقابل، فإن المتعمِّدَ للأذية مأزور، كما في حال إخوة يوسف -عليه السلام- بعد جريمتهم، إذ حكى الله عنهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)، فقد اعترفوا بجريمتهم، والخطأ هنا يشمل الذنب سواء وقع خطأً أو خطيئة.
الحقيقة الثانية : قوله ﷺ : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». وكلمة "خطّاء" صيغة مبالغة من اسم الفاعل "خاطئ"، وتدل على الوقوع المتكرر في الخطأ أو الخطيئة.
ومن هنا، علَّمنا رسول الله ﷺ الإقلاع عن كلٍّ منهما، فكان وهو المعصوم يقول: «إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».
الحقيقة الثالثة : أن الوقوع في الخطأ قد يترتّب عليه ضررٌ يستوجب التعويض والغرامة من جهة، ويستلزم تربية النفس وضبطها من جهة ثانية، ويقتضي الاعتذار وتطييب خاطر المتضرر من جهة ثالثة.
وأحسن مثال لذلك هو القتل الخطأ، الذي يقع على سبيل الحادثة، لا العمد ولا شبه العمد.
وقد رتّب الله سبحانه وتعالى عليه الدية، وهي غرامة مالية تُدفع لأهل القتيل، ورتّب عليه أيضًا صيام شهرين متتابعين ككفارة، وذلك من أعظم صور تهذيب النفس، وإشاعة ثقافة تعظيم النفس البشرية، والحذر من الاستهانة بحرمتها.
وفيه أيضًا معنى الاعتذار العملي لأهل القتيل؛ إذ إنّ حبس النفس عن مألوف طعامها وشرابها يؤكّد عدم العمد، ويعبّر عن الحزن على النتيجة التي ترتّبت على ذلك الفعل. قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
الحقيقة الرابعة: أن رسول الله ﷺ أرشدنا إلى برنامجٍ متكامل في التعامل مع الخطأ والخطيئة، يبدأ بالتوبة والاستغفار، والتي تشمل: الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم العود، وقد يحتاج ذلك إلى كفارة، أو غرامة، أو رد الحقوق إلى أصحابها.