اللغة العربية في تسمية المدن والأحياء.. مطرح أنموذجًا
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
أنور الخنجري
تُعد اللغة العربية من أغزر اللغات في العالم من حيث المُفردات والدلالات، وقد شكّلت عبر قرون طويلة مرآةً للثقافة والهوية العربية، ليس في الأدب والشعر فقط، بل في حياة النَّاس اليومية وتفاعلهم مع المكان.
ومن أبرز تجليات هذا التفاعل، ما نراه في تسمية المدن والأحياء والمواضع المختلفة؛ حيث تأخذ الأسماء طابعًا لغويًا غنيًا، يعكس البيئة، أو التاريخ، أو القبيلة، أو حتى الشعور الجمعي تجاه المكان.
اسم مدينة "مَطْرَح" بحد ذاته له جذور عربية قديمة، ومعناه مرتبط بوظيفة المدينة التاريخية والجغرافية والتجارية، ومن حيث المعنى اللغوي فإنَّ كلمة "مَطْرَح" في اللغة العربية مشتقة من الفعل "طَرَحَ"، أي ألقى أو وضع، و"المَطْرَح" هو المكان الذي يُطرح فيه الشيء، أي يُلقى أو يُنزل فيه. وبناءً على موقع المدينة الساحلي، فإنه من المؤكد أن الاسم يُشير إلى أنها كانت مكانًا تُطرح فيه البضائع القادمة من البحر، أي ميناءً أو مرسى للتجارة، حيث يطرح فيها التجار بضائعهم أو حيث تطرح السفن مراسيها، وهذا يتماشى مع تاريخها العريق كميناء تجاري مهم في سلطنة عُمان، وخاصة لكونها كانت جزءًا من الحراك البحري والتجاري في الخليج والمحيط الهندي وأفريقيا. وبذلك، فإنَّ التسمية تنبع من عمق المعنى اللغوي والبيئي والتاريخي للمكان.
والتشبث بالأسماء العربية لا يعني إقصاء اللغات الأخرى؛ بل على العكس، ففي تعدد اللغات المستخدمة في تسمية الأحياء أو المواضع ما يعكس الترابط الثقافي والتاريخي لعُمان مع محيطها الأوسع في آسيا وإفريقيا. فكما نعتز بالأسماء العربية للمدن والأحياء العُمانية، فإننا لا نجد في تسميات سواحيلية أو بلوشية أو أعجمية أو غجراتية أو غيرها من اللغات واللهجات الحية في مدينة مطرح أو غيرها من المدن العُمانية ما يُنقص من الهوية؛ بل نراه ثراءً ثقافيًا وشاهدًا حيًا يؤرخ تواصل عُمان الحضاري مع محيطها الواسع.
اللغة السواحيلية، على سبيل المثال، ليست دخيلة؛ بل هي لغة تحدث بها العُمانيون في زنجبار وبمبا ومُمباسا، وساحل شرق أفريقيا برمته، وتوارثوها في بعض البيوت والمجالس حتى اليوم. وكذلك بالنسبة للبلوشية والزدجالية والغجراتية والأعجمية، وهكذا الحال أيضا مع الشحرية والمهرية في محافظة ظفار، أو الكمزارية في محافظة مسندم، كلها مكونات بشرية أصيلة في نسيج المجتمع العُماني.
إن تنوع اللغات في التسمية ليس ضعفًا، بل دليل قوة وانتشار، وهو يُعبّر عن الامتداد الطبيعي لعُمان عبر البحر، وعن التعايش والتعدد الذي لطالما ميّز شخصيتها الحضارية.
وإعادة الاعتبار لمسميات الأحياء القديمة في مطرح يشكل رد الجميل لمكان ما زال حيًا في وجدان الكثير من الناس وهو شكل من أشكال الوفاء لتاريخ لم يُكتب بعد، لكنه يعيش على ألسنة الناس وقلوبهم. ومن الأمثلة على ذلك، اسم الحي القديم "نازي موُجه"، وهي كلمة سواحيلية أطلقها العُمانيون القادمون من شرق إفريقيا على الحي الذي استقروا فيه عند عودتهم إلى مطرح. وكان الاسم يحمل في نبرته نكهة المغترب، ودلالة على تواصل الجغرافيا والثقافة، لكن الاسم تغيّر لاحقًا إلى "حي الصاغة"، وهو اسم لا يُعبّر عن الذاكرة أو الأصل؛ بل يرتبط بحرفة حديثة نسبيًا في هذا الحي.
كذلك هو الحال مع حي "كوهبون" وهي تسمية بلوشية تعني "تحت الجبل"، في إشارة مباشرة إلى موقع الحي الجغرافي الواقع أسفل السفوح الجبلية، وتُجسّد هذه التسمية العلاقة الحميمة بين السكان والبيئة الطبيعية المحيطة، كما تعكس البُعد اللغوي والثقافي الذي حمله البلوش معهم إلى المكان، فاختلط بالهوية المحلية وأصبح جزءًا من الذاكرة العمرانية للمنطقة. كما أن "سور اللواتيا" الذي يحمل رمزية اجتماعية ودلالة على التمايز السكاني، أو على شكل من أشكال التنظيم المجتمعي الذي حافظ على هوية الجماعة. وكذلك حي "جبروه" الذي ربما يكون الاسم منسوبًا إلى شخصية قوية، أو يحمل دلالة على القوة أو السلطة في تاريخ الحي. وحتى تسمية "حارة الشمال" الذي يشير إلى الحي الواقع في الجهة الشمالية لمدينة مطرح العتيقة، تحول مؤخرا الى حي الميناء، وقِس على ذلك أحياء وأسماء عديدة أخرى.
هذه الأسماء تحمل في الغالب دلالات اجتماعية أو جغرافية، أو تاريخية ترتبط بالبيئة العُمانية وهي أسماء ليست خادشة للحياء العام بأي شكل، بل تمثل جزءًا من الهوية اللِّسانية الشعبية للمكان، وتحمل دلالات ثقافية وجغرافية عميقة تعكس التركيبة السكانية والتاريخية للمدن العُمانية، خاصة في مدينتي مسقط ومطرح.
حين نتحدث عن استخدام الأسماء المحلية، فإننا لا نتحدث عن "لفظ" بحد ذاته؛ بل نتحدث عن المعنى، عن الجذور، عن الحكايات التي تختبئ خلف كل اسم. الاسم المحلي ليس مجرد دلالة، بل هو رابط بين الأجيال، وهوية لغوية تعاند الذوبان في ثقافة الاستيراد والتحديث الأجوف.
وأخيرًا.. اللغة- أيًا كانت عربية أو غيرها- ليست قادرة على توصيف الواقع فحسب؛ بل هي أيضًا حافظة للخصوصية، وهي ما يعطي لمطرح (ولغيرها من المدن) ملامحها التي لا تتكرر.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف: خطاب الرئيس عن غزة يجسد الضمير المصري الحي
أشاد الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، بكلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي عن تطورات الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، مؤكدًا أن الخطاب الرئاسي عبّر عن الموقف الثابت والضمير الحي للدولة المصرية، واستند إلى قيم أخلاقية دينية حضارية راسخة، تجسد انحياز مصر الدائم إلى الحق ورفضها المطلق للظلم.
وأكد الأزهري، في تصريحات لوكالة أنباء الشرق الأوسط اليوم، أن كلمة الرئيس جاءت في توقيت دقيق، وبلغة صادقة تعكس حرص القيادة السياسية على أداء واجبها التاريخي الإنساني تجاه الشعب الفلسطيني، مشيرًا إلى أن الرئيس تحدث من منطلق مسئول وواعٍ، مدفوعًا بالثوابت الدينية الوطنية المستقرة في وجدان مصر قيادةً وشعبًا.
وأضاف أن دعوة الرئيس الصريحة لوقف الحرب في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية، تعكس جوهر الشريعة الإسلامية التي تحض على إنقاذ الأرواح ورفع المعاناة، لا سيما في ظل الظروف البالغة القسوة التي يمر بها أهلنا في القطاع، مؤكدًا أن هذه الدعوة تمثل صوتًا للضمير العالمي الذي يجب أن يصحو ويتحرك .
وأشار وزير الأوقاف إلى أن تأكيد الرئيس رفضَ مصر القاطع لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، يجسد موقفًا شرعيًا أخلاقيًا قانونيًا تاريخيًا لا يقبل المساومة، موضحًا أن تفريغ الأرض من أصحابها جريمة تُدينها كل الشرائع السماوية والقوانين الدولية.
وأوضح الأزهري أن جهود الدولة المصرية في إدخال المساعدات عبر معبر رفح تنطلق من قيم دينية صادقة، مستشهدًا بقول الله تعالى: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، مؤكداً أن مصر لم ولن تغلق باب المساعدة أمام الملهوفين والمظلومين. كما أكد أن مصر تتحرك على الأرض بدافع الواجب، وأن القيادة المصرية تقدم نموذجًا راقيًا في الوساطة الأخلاقية القائمة على النصرة والمروءة.
وشدد الأزهري على أن نداء الرئيس عبد الفتاح السيسي الموجّه إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإلى الاتحاد الأوروبي، كان تعبيرًا رفيعًا عن منطق الدولة الرشيدة التي تؤمن بأن العالم لا يُبنى بالصمت، بل بالمواقف الأخلاقية الواضحة، مؤكدًا أن هذا النداء يُحمّل القوى الكبرى مسئولية أخلاقية وتاريخية تجاه فلسطين وشعبها الأبيّ.
وختم الأزهري تصريحه بتأكيده أن ما تقوم به مصر اليوم في ملف غزة هو امتداد طبيعي لدورها التاريخي، الذي لم يتخلّ يومًا عن نصرة القضية الفلسطينية، داعيًا الشعوب العربية والإسلامية والمجتمع الدولي إلى الاقتداء بالموقف المصري الأمين الرشيد، والاصطفاف خلف صوت الحق والعدالة والرحمة في مواجهة آلة الحرب والتدمير.