قصة جبل عرفات لها 4 روايات.. لا يعرفها الكثيرون
تاريخ النشر: 5th, June 2025 GMT
لعل قصة جبل عرفات تعد أحد الأسرار الخفية التي لا يعلمها كثيرون، والتي تفسر سر تسمية يوم عرفة بهذا الاسم، وقد تكشف أيضًا فضل يوم عرفة الذي أقسم الله تعالى به وبالليالي العشر من ذي الحجة، فضلاً عن وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- باغتنام تلك الأيام العشر وخاصة يوم عرفة، والذي لا يقتصر فضله على الحجاج فقط وإنما أيضًا يشمل جميع المسلمين ففيه دعاء عرفة المستجاب، الذي يعد أوسع أبواب الفرج، كل هذا يجعل البحث عن قصة جبل عرفات ؟، وقد جاء فيها أربع روايات .
ورد في مسألة قصة جبل عرفات ، هل ثبتت قصة عن جبل عرفات؟ لم يرد ذكر لجبل عرفات في الكتب التاريخية ولا في المرويات في السنة النبوية المشرفة، وقد أجمع العلماء والفقهاء على أنَّ الجبل خاصَّة لا يمتلك أيَّة فضيلة ولا يتعلَّق به نسكٌ يختصّ به وحده، لذلك لا يوجد لجبل عرفات أية قصة تاريخية مثل التي وردَت في الصفا والمروة مثلًا، ولكن وردَت بعض القصص، ومن آراء العلماء حول قصة جبل عرفات والروايات الواردة في تسمية جبل عرفات، ومنها التقاء آدم وحوّاء عليه وردت في العديد من الكتب التاريخية أنَّ آدم وحواء -عليهما السلام- بعد أن هبطا من الجنة بإذن الله تعالى، هبطَ كلُّ واحدٍ منهما في مكان، فهبط آدم في سرنديب وهبطت حواء في جدة، فجاء آدم قاصدًا حواء حتى اجتمعا في المشعر وازدلفت إليه أي تقرَّبت إليه فسمِّيت المنطقة بالمزدلفة، ثمَّ تعارفا على جبل عرفات ولذلك سمِّي بهذا الاسم.
وفي رواية لها اعتراف الحجاج بذنوبهم عليه وقد أوردَ ياقوت الحموي في كتاب معجم البلدان أنَّ جبل عرفات سمِّي بهذا الاسم بسبب اعتراف الحجاج من البشر بذنوبهم عليه، وقد وعدَ الله تعالى عباده الذين يقفون في عرفات مغفرةً لجميع الذنوب والخطايا ففي الحديث، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا وقَف بعرَفةَ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا فيقولُ: انظُروا إلى عبادي شُعْثًا غُبْرًا اشهَدوا أنِّي قد غفَرْتُ لهم ذُنوبَهم وإنْ كان عدَدَ قَطْرِ السَّماءِ ورَمْلِ عالجٍ".
وفي رواية لها تعارف الناس عليه كما ورد أنَّ جبل عرفات أطلقت عليه تلك التسمية مكان يتعارف فيه الناس يوم يجتمعون لأداء فريضة الحج فسمِّيَ بجبل عرفات أو عرفة، وورد أيضًا أنَّ فيه يتحقَّق معنى التعارف أو معنى التعرُّف، وهو تعارف العباد على بعضهم فيه، ولكن بعض الفقهاء نفى أن يكون هذا هو سبب التسمية، لأنَّ وقت إقامة الحجاج في عرفات قصير، ويكون في منى أطول منه، فيمكن أن يتيسر لهم التعارف في منى أكثر من عرفات .
وفي رواية لها تعليم جبريل إبراهيم عليه وقد وردَت قصة تعليم جبريل -عليه السلام- لنبيِّ الله إبراهيم الخليل -عليه السلام- في جبل عرفة، فقد كان جبريل يعرِّف إبراهيم بمناسك الحج بجميع خطواتها، ولمَّا وصلا إلى موضع عرفة، سأله جبريل عليه السلام: عرفت؟ أي عرفت مناسك الحجِّ، فأجابه إبراهيم عليه السلام: نعم عرفت عرفت، فسمِّيَ عرفات.
سبب صعود جبل عرفةورد أنه يقع جبل عرفات في الطريق بين مكة والطائف، حيث يبعد عن مكة حوالي 22 كم تقريبًا، وعلى بُعد 10 كم من مِنًى، و6 كم من مزدلفة، ويُذكر في تسميته بهذا الاسم: أن آدم وحواء عليهما السلام حينما أنزلهما الله من الجنة إلى الأرض، أنزلهما في مكانين مختلفين، فكان موقع جبل عرفات هو المكان الذي التقيا فيه، وتعارفا عليه.
ويعد الوقوف بعرفة أعظم مناسك الحج على الإطلاق، ويبتدأ من بعد صلاة ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة وحتى فجر يوم النحر، وعرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنَة، من أسمائه جبل الرحمة، وجبل القرين، وجبل النابت، وشعيرة الوقوف بعرفة هي شعيرة الحج الوحيدة التي يؤديها الحجيج خارج حدود الحرم
وورد أن صعيد جبل عرفات هو مكان شريف يجتمع إليه الحجيج من كل أرجاء الدنيا في التاسع من ذي الحجة كل عام، رافعين أيديهم بالتضرع والدعاء لله عز وجل، به جبل عرفات المسمى (جبل الرحمة)،وعندما يقف الحجيج ليؤدوا ركن الحج الأكبر على صعيد عرفة يظهر أمامهم مسجد (نمرة)،ونمرة: جبل نزل به النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في خيمة، ثم خطب في وادي عرنة بعد زوال الشمس، وصلى الظهر والعصر قصرًا جمع تقديم، وانصرف منها إلى مزدلفة بعد غروب الشمس.
حكم صعود جبل عرفةورد أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حث على صعود جبل عرفات الذي اشتهر عند الناس باسم: جبل الرحمة، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم صعود هذا الجبل في حجه ولا اتخذه منسكاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «خذوا عني مناسككم»، و الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة ساروا على هذا النهج حكم ومن تبعهم فلم يكونوا يصعدون على هذا الجبل في حجهم ولا اتخذوه منسكاً لهم؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف تحت هذا الجبل عند الصخرات الكبار، وقال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة».
ورد أن صعوده يعد من الأخطاء التي ترتكب يوم عرفة بأن يصعد الحجاج جبل الرحمة ويشقون على أنفسهم، فيما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بالوقوف على عرفة وليس صعوده، وعليه فإن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم الذي يعني تفويته تفويت الحج، فمن تركه فسد حجه.
متى يبدأ الوقوف بعرفةويبدأ الوقوف بعرفة منذ فجر اليوم التاسع من ذي الحجة، وحتى طلوع فجر اليوم الذي يليه؛ والذي يُسمّى بيوم النَّحر، وهو يوم العيد، وينهي فيه الحُجّاج وقوفهم على عرفة، واسم هذا اليوم مُركَّب من كلمتَي: يوم، وعرفة، أما كلمة يوم فتدل على زمان مُخصَّص، بينما تدل كلمة عرفة على مكان مُعيَّن مُحدَّد، ولهذا المكان مكانة عظيمة؛ لتعلُّقه بشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، وهي الوقوف بعرفة في موسم الحَجّ، وورد ذِكره بلفظ عرفات في قوله -تعالى-: «فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ».
يوم عرفةيعد يوم عرفة يوم عظيم، أقسم الله تعالي به؛ قال سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] قَالَ: «الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ». [أخرجه البيهقي في فضائل الأوقات]ويوم عرفة وهو يوم أكمل الله لنا فيه ديننا، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ جُمُعَةٍ. [أخرجه البيهقي في فضائل الأوقات].
ويعد يوم عرفة يوم المغفرة والعتق من النيران، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟». [أخرجه مُسلم]وهو يوم تنزُّل الرحمات؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ» قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ». [أخرجه مالك في موطئه].
فضل يوم عرفةورد ليوم عرفة فضائل كثيرة ليوم منها: أن يوم عرفة أحد أيام الأشهر الحرم قال الله- عز وجل- : «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» [سورة التوبة : 39]. والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب ويوم عرفة من أيام ذي الحجة.
ويعد يوم عرفة أحد أيام أشهر الحج قال الله - عز وجل-: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ» [سورة البقرة: 197] وأشهر الحج هي: شوال، ذو القعدة ذو الحجة، و هو أحد الأيام المعلومات التي أثنى الله عليها في كتابه قال الله - عز وجل-: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ» [سورة الحج:28]، قال ابن عباس –رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، كما أن الله تعالى بيوم أقسم بيوم عرفة لأنه أحد الأيام العشر التي أقسم الله بها منبهًا على عظم فضلها وعلو قدرها قال الله - عز وجل-: «وَلَيَالٍ عَشْرٍ» [سورة الفجر:2]، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: إنها عشر ذي الحجة قال ابن كثير: وهو الصحيح.
ويتميز يوم عرفة بأنه أحد الأيام العشرة المفضلة في أعمالها على غيرها من أيام السنة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عمل أزكى عند الله - عز وجل- ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى قيل: ولا الجهاد في سبيل الله - عز وجل- ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله - عز وجل- إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
وجاء من فضل يوم عرفة ، الله تعالى أكمل في يوم عرفة الملة، وأتم به النعمة، قال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: إن رجلا من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا» [ سورة المائدة:5]. قال عمر – رضي الله عنه- : قد عرفنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وورد أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين، فقد جاء الفضل في صيام هذا اليوم على أنه أحد أيام تسع ذي الحجة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيامها فعن هنيدة بن خالد-رضي الله عنه- عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر : أول اثنين من الشهر وخميسين»، كما جاء فضل خاص لصيام يوم عرفة دون هذه التسع قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صيام يوم عرفة : يكفر السنة الماضية والسنة القابلة) رواه مسلم في الصحيح وهذا لغير الحاج وأما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف.
يعد عرفة يوم العيد لأهل الموقف -الحجاج- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام» رواه أبو داود"، وقد عظمّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من فضل الدعاء يوم عرفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة»"، كما أن الله تعالى يعتق الكثير من النار في يوم عرفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة» رواه مسلم في الصحيح، فضلاً عن أن الله تعالى يباهي بأهل عرفة أهل السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء» رواه أحمد".
وذكر العلماء أن التكبير ينقسم إلى قسمين: التكبير المقيد الذي يكون عقب الصلوات المفروضة ويبدأ من فجر يوم عرفة قال ابن حجر –رحمه الله-: ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث وأصح ما ورد عن الصحابة قول علي وابن مسعود -رضي الله عنهم- أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى»، وأما التكبير المطلق فهو الذي يكون في عموم الأوقات ويبدأ من أول ذي الحجة حيث كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم يخرجون إلى السوق يكبرون ويكبر الناس بتكبيرهما) والمقصود تذكير الناس ليكبروا فرادى لا جماعة"، ومن فضائل يوم عرفة أن فيه ركن الحج العظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» متفق عليه.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: قصة جبل عرفات جبل عرفات يوم عرفة فضل يوم عرفة قال النبی صلى الله علیه وسلم صیام یوم عرفة الوقوف بعرفة رضی الله عنه فضل یوم عرفة علیه السلام من ذی الحجة الله تعالى بهذا الاسم جبل الرحمة قال الله عرفة یوم قال ابن ال ی و م ورد أن قال ال عز وجل
إقرأ أيضاً:
نص موضوع خطبة الجمعة 12 ديسمبر 2025.. «التطرف ليس في التدين فقط»
كشفت وزارة الأوقاف عن نص موضوع خطبة الجمعة الموافق 12 ديسمبر 2025، 21 جمادى الثانية 1447هـ، وهي بعنوان «التطرف ليس في التدين فقط».
وقالت الأوقاف إن الهدف من موضوع خطبة الجمعة، هو التوعية بخطورة التعصب بجميع أشكاله لا سيما التعصب الرياضي.
نص موضوع خطبة الجمعة القادمةالحمدُ للهِ الذي هدانا للإيمان، وأكرمنا بنور القرآن، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى مكارم الأخلاق، المربّي للنفوس على الحِلم والرحمة، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فليس التطرّف ظاهرةً مرتبطة بالدين وحده، بل هو سلوك إنساني قد يظهر في أي مجال يمارس فيه الإنسان انتماءه أو قناعته، فالتطرّف في جوهره ليس فكرة دينية بقدر ما هو حالة نفسية وفكرية تنشأ حين يختلُّ ميزان الاعتدال، وتختلط الأفكار بين ما ينبغي فعله وما لا ينبغي أن نفعله، سواء كان التطرف دينيًّا أو رياضيًّا أو ثقافيًّا.
ومن يتأمل الواقع يدرك أن أنماط التطرّف تتشابه في جذورها، مهما اختلفت مظاهرها، فالتعصّب لفريقٍ رياضي قد يحمِل السماتِ نفسَها التي يظهر بها التشنُّج لمذهب أو حزب أو رأي أو جماعة، وما ذاك إلا لأن المشكلة ليست في الميادين ذاتها، بل في الذهنيّة المتشدّدة التي تحوّل الاختلاف إلى تهديد، والرأي المخالف إلى خصم يجب إسقاطه.
ولم تُغْفِل تعاليم الإسلام بما حملته من أخلاق رفيعة وآداب سامية، التحذيرَ من خطورة الانزلاق خلف مسارات التطرّف بأشكاله المختلفة، إذ جاءت نصوصه واضحة في الدعوة إلى الوسطية، وصيانة المجتمع من كل غلوّ يفسد العقول، أو تعصّب يهدّد وحدة الصف، أو اندفاع يجرف الإنسان بعيدًا عن جادّة الاعتدال، فالإسلام في مبادئه المقاصدية وأحكامه التربوية يرسّخ ميزانًا دقيقًا يحفظ للإنسان توازنه، ويجنِّبه مغبَّة الانجرار وراء الغلو الذي يبدِّد الطاقات ويُضعف بناء المجتمع.
وإليك طرفًا من هذه التعاليم:
إياكم والغلو
يضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة تشريعية وأخلاقية واسعة تُحذِّر من كل تجاوز للحدِّ، أيًّا كان مجالُه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ». [رواه البخاري].
وإذا وضعنا في الاعتبار المفهوم الحقيقي للدين، وأنه: “وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات” [تحفة المريد على جوهرة التوحيد للباجوري]، أدركنا أن كل غلو يندرج تحت التحذير النبوي، فإذا كان النهي في مفهومه الأوليِّ عن مجال العبادات، فإنه يشمل كذلك كل غلو من شأنه أن يُخِلَّ بالدين، ومنه كل تعصُّب رياضيٍّ أو انفعال كُرويٍّ يخرج بالإنسان عن حد الاعتدال، ويحوّل التنافس الشريف إلى خصومة، أو التشجيع إلى إيذاء، أو الانتماء إلى تعصّب، فالغلوُّ سبب هلاك الأمم، ومن هنا كان التحذير منه ضرورة لحفظ الأخلاق، وصون المجتمع، وجعل الرياضة مجالًا للارتقاء لا للانقسام.
خيرُ الأمور أوساطُها
التوسط في كل شيء أمر محمود، وبهذا جاء الشرع الشريف ونطق الكتاب القويم، وكأنه يَلفِتُ أنظارنا إلى التزام هذا النهج، قيل للحسين بن الفضل: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله “خير الأمور أوساطها”؟ قال: نعم في أربعة مواضع: قوله تعالى: ﴿لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: ٦٧]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ١١٠]. [الأمثال الكامنة في القرآن الكريم].
وهذا الأثر “خيرُ الأمورِ أوساطُها” [رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد مرفوعا، ورواه البيهقي من كلام مُطَرِّفِ بن عَبدِ اللَّهِ وَيَزِيدَ بن مُرَّةَ الْجُعفِيِّ] دليل على هذا.
يقول الإمام المجد ابن الأثير: “كل خصلة محمودة، فإن لها طرفين مذمومين، مثل أن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم”. [جامع الأصول]
ويقول العلامة أبو علي اليُوسي: “وهذا الكلام “خيرُ الأمورِ أوساطُها” يُروى حديثًا، وهو من جوامع كلمه التي أُعطيها صلى الله عليه وسلم، وهو متناول لأمور من الديانات والأخلاق والآداب والسياسات والمعاشرات والمعاملات، تعجز عقول الخلق عن إحصائها، وقد صنَّف ذوو البصائر من أهل العلم في تفاصيل ذلك دواوين، وهو بحر لا ساحل له، جُمع له صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة، كما قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا”. [زهر الأكم في الأمثال والحكم]
الفارق بين الانتماء والتعصب الأعمى
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحبّون أوطانهم، ويأنسون لقبائلهم، ولا يجدون حرجًا في الانتساب إليها، فهذا أوسيٌّ، وذاك خزرجيٌّ، وثالث قرشيٌّ، ورابعٌ تغلبيٌّ … وهكذا، ثم شاء الله أن يجتمعوا في دار الهجرة، فانتسب هؤلاء إلى الهجرة، وهؤلاء إلى النُّصرة، فهذا مهاجري، وذاك أنصاري، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من ذلك، ولم يعب عليهم ما كان من محبة الانتماء أو الاعتزاز به، بل كان صلى الله عليه وسلم يخاطبهم بأسمائهم الجماعية قائلًا: «يا معشر الأنصار»، و«يا معشر المهاجرين» في إقرارٍ واضح بأن الانتماء الطبيعي لا يُذَمّ، وأن الاعتزاز بالمجموعة أو الأرض أو القبيلة لا يضر طالما أن الرابط الأكبر هو الدين، وطالما أن هذا الانتماء لا يجر إلى مفسدة.
لكنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب أشدَّ الغضب إذا رأى هذا الانتماء يتحوَّل إلى عصبية تُثير الفرقة، أو تُورِث الضغينة، أو تدعو إلى التنازع، فعن جُبيرِ بنِ مُطعِمِ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليسِ منَّا من دَعا إلى عصبيّةٍ، وليس مِنا من قاتل على عَصبيّةٍ، وليس منا من مات على عصبيّة» [رواه أبو داود]، لأن العصبية عكس ما أراده الله من خلقه، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣].
ويسجل لنا جَابِر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هذا الموقف النبوي الجليل الذي يحذر فيه أمته من دعوى الجاهلية “العصبية”، فيقول: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» [رواه البخاري ومسلم]. فكسع: أي ضربه من الخلف.
قال الإمام النووي: “وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك “دعوى الجاهلية”، فهو كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا، ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما، وألزمه مقتضى عدوانه كما تقرر من قواعد الإسلام”. [شرح النووي على صحيح مسلم].
وعن الزُّبَيْر بْن العَوَّامِ رضي الله عنه، قال: قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» [رواه الترمذي، وأحمد].
وقال تعالى: ﴿إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: ٢٦].
بين سبحانه ما كان عليه المشركون من جهالات وحماقات استولت على نفوسهم، فقال: ﴿إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، والحمية: الأنفة والتكبر والغرور والتعالي بغير حق، يقال: حمي أنفه من الشيء -كرضي- إذا غضب منه، وأعرض عنه. [التفسير الوسيط].
فأجدر بنا أن نلتزم الهدي المحمدي إذا شعرنا أننا ننجرف إلى هذا التعصب الممقوت، وأن نستعين بالله في أن يبدل أخلاقنا وطباعنا إلى ما يحبه ويرضاه.
التعصب الرياضي والإيذاء
لا يخلو هذا التطرف الرياضي من أن يحمل صاحبه على ارتكاب أفعال هو منهي عن ارتكابها شرعًا، كالسخرية، والتنابز بالألقاب، وإطلاق عبارات السبِّ والشتم، والاحتقار، بالإضافة إلى أن هذه الأمور ربما تدفعه إلى ارتكاب ما هو أشد من ذلك، من اشتباك بالأيدي واعتداء على الآخر، فتتحول الرياضة من كونها وسيلة للتنافس الشريف إلى خصومة وصراع.
ولا يخفى على مسلم يؤمن بالله حقا، ما أودعه الله تعالى في كتابه من تحذير من ارتكاب مثل هذه الأفعال، ولا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية المطهرة، وإليك طرفًا منها، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: ١١].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا … بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» [رواه مسلم].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ» [رواه الترمذي، وأحمد].
وعن أنس رضي الله عنه، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه» [رواه أحمد].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» [رواه الترمذي].
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
شأنُ الإسلام دائمًا أن يرغِّب في كل ما يجمع القلوب ولا يفرّقها، ويُقيم الروابط ولا يهدمها، ويغرس في النفوس معاني الألفة والوئام بدل البغضاء والخصام، فالشريعة في جوهرها دعوة إلى البناء، بناء الإنسان، وبناء العلاقات، وبناء المجتمع، وما كان من شأنه أن يثير العداوة أو يقطع الأرحام أو يزرع الضغينة، فإن الإسلام يقف منه موقف التحذير والرفض، قال تعالى:﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣].
قال قتادة عند قوله تعالى: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾: “إن الله قد كره لكم الفرقة، وقدَّم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله”. [جامع البيان].
وقد حذرت الشريعة الغراء من عواقب الفرقة والتنازع، لما يترتب عليه من تبدد الطاقات، وانتزاع البركات، فقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦].
قال الطاهر بن عاشور: “ومن المقاصد المعلن عنها في الكتاب، التمسك بالوحدة، ومحاربة التفرُّق والانقسام، ومما يدل على هذا المقصد الجليل ورود آيات وأحاديث تدعو إلى “الاتحاد”، ليصبح لهم عنوانًا ومكرمة، منها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦]، وقوله: ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾[الأنفال: ١]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يحرِّض معاذَ بنَ جبل وأبا موسى الأشعري على الوفاء: «وتطاوعا ولا تختلفا» [رواه البخاري]، والأمثلة على هذا المقصد وما يتفرَّع عنه متوافرة في الشريعة، لحرصها على حماية كل المصالح الأساسية الضرورية والحاجية والتحسينية” [مقاصد الشريعة الإسلامية].
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» [رواه أبو داود والترمذي].
قال الإمام الطيبي: “هذا من الخطاب العام الذي لا يختص بسامع دون آخر تفخيماً للأمر، شبه من فارق الجماعة التي يد الله عليهم، ثم هلاكه في أودية الضلال المؤدية إلى النار بسبب تسويل الشيطان، بشاة منفردة عن القطيع، بعيدة عن النظر، ثم سلط الذئب عليها، وجعلها فريسة له” [شرح مِشْكاة المصابيح].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالجماعةِ وإيَّاكم والفرقة» [رواه الترمذي].
ولا تتبع الهوى
يحذّرنا الشرع الشريف من الميل مع الأهواء على حساب الأوامر والنواهي، ويوجّهنا إلى ضبط ميول النفس مهما كانت محبَّبة، فإن كانت الرياضة تسليةً مباحة واهتمامًا مشروعًا، فإن محبتنا لها لا ينبغي أن تُخرجنا عن حدود الشريعة، ولا أن تُسقط عنّا واجبات الأخلاق وضوابط السلوك التي جاء بها الإسلام، قال تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٣٥]، وقال أيضًا ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “ما ذكر الله عز وجل الهوى في كتابه إلا ذمَّه، وكذلك في السُّنَّة لم يجئ إلا مذمومًا، إلا ما جاء منه مُقيَّدًا، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤْمِن أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبعًا لما جئتُ به»” [رواه البيهقي في السنن الكبرى].
الشريعة الإسلامية وممارسة الرياضة
ممارسة الرياضة من الأمور المباحة شرعًا إذا كانت في ظل الضوابط المسموح بها، ولم تخرج عن المقصد الذى أنشئت من أجله، مثلها فى ذلك مثل “الرمي” الذى شجع عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ» قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟، قَالَ: «ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» [رواه البخاري].
الرياضة تُسهم في تنمية العقول، وصقل مهارات التفكير، كما تحفظ للأبدان قوّتها وسلامتها، وهي كذلك بابٌ من أبواب الترويح المشروع، تُذهب عن النفوس ما يعتريها من مللٍ وكسل، وتعيد إليها نشاطها وهمَّتها، وهذا كله مما ندب إليه الشارع الحكيم، إذ وجَّه إلى كل ما يقوِّي الجسد، ويشرح الصدر، ويعين على أداء الواجبات الدينية والدنيوية على أكمل وجه، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بِسَاعَةٍ» [رواه الشهاب القضاعي في “مسنده”].
الرياضة من كواشف الأخلاق
إنَّ الرياضةَ - ممارسةً كانت أو تشجيعاً - كاشفٌ دقيقٌ من كواشفِ الخُلُقِ الحقيقي للإنسان، فهي تُظهر ما تُخفيه النفوس، وتكشف عن معدِنِ صاحبها عند الفرح والغضب، وعند الفوز والخسارة، فمن الناس من تُهذّبه الرياضة فتزيده حلمًا ورجولة، ومنهم من تُظهر الرياضةُ ما فيه من طيشٍ واندفاع، فإذا اهتزّ المدرج أو ارتفع الـهُتاف، سقطت الأقنعة وبان الجوهر.
وهي في أصلها المفترض أنها تهذب الأخلاق وتدعو إلى التسامح، وهو ما حث عليه الإسلام من حسن الخلق وعدم التعصب، وجعل الفيصل بين الناس الأخلاق والتقوى، فقال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣].
وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» [رواه أحمد].
أما التعصب الكروي: فمذموم شرعاً وعرفاً، لأنه يؤدي إلى إثارة الفُرقة والبغضاء بين الناس، ويحيد بالرياضة عن مقصدها السامي من المنافسة الشريفة، والتقارب، وإسعاد الخلق، فالتعصب خلق شيطاني بغيض حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» [رواه مسلم]، “التحريش”: الإغراء على الشيء بنوع من الخِداع، أي: إيقاع الفتنة، والعداوة، والخصومة.
وقد يؤدي التعصب الكروي إلى الاحتقان، وتوظيف حماسة الجماهير مما ينتج عنه أعمال شغب قد يستغلها البعض في تهديد أمن وسلامة الوطن.
إجراءات عملية لتهذيب الانفعال الرياضي:
- أن نعلم أن الغرضَ من الرياضة الترويحُ عن النفس، فهي (لهو مباح)، هذا إطارها الذي لا بدّ أن توضع فيه، ومِن ثَم فلا يصح: الموالاةُ والمعاداة عليها، أو انتشارُ الأحقاد والضغائن بسببها، أو تعطيلُ المصالح والضروريات من أجلها، أو جريانُ السباب والشتائم وفواحش الألفاظ والتنابز بالألقاب على اللسان في شأنها.
- لا تجعلها سببًا في تعاستك ونكدك، ومصدرًا من مصادر غمك وهمك، ومجلبةً للحزن والغضب، فمن أهم أسباب سعادة الإنسان في حياته أن يضع الأمور في نصابها، وأن يزنها بميزانها الذي لا يتجاوزها.
- عند مشاهدتها أو ممارستها يجب عليك اجتناب تلك المحاذير الناشئة عنها، حتى تكون بابا للسرور والانبساط، والترويح عن النفس.
- لا حرج من الممازحة (القفشات) مع مشجعي الفريق المنافس، ما دمنا محافظين على أواصر الأخوة، منضبطين بثوابت الشرع والخلُق الكريم، وأن نعلم أن الأمر في النهاية (ترويح عن النفس).
- تحويل الرياضة من صراع إلى أخلاق، الرياضة محبّبة بطبعها، والإسلام يرى فيها قوة ومتعة، لكن يربطها بالأدب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» [رواه مسلم]، والقوة هنا تشمل البدن والروح والخلق.
- احترام المنافس، فقد جعلت الشريعة الإسلامية العدل والاحترام ركيزتين في التعامل حتى مع الخصوم، فكيف بمن ينافسك في لعبة! قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة: ٨]، أي: لا يحملكم بغض أو منافسة على تجاوز الحقّ، وهذا يشمل الخصومة الرياضية اليوم.
- صون اللسان … أهم علاج للتعصّب الرياضي، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» [رواه البخاري]، واللسان في مدرَّجات الرياضة هو أول ما ينفلت، فيكون الصمت أحيانًا عبادة.
- تعميق الوعي بمقاصد الرياضة، وذلك بربط الممارسة الرياضية بأهدافها الأصيلة، كتنمية الجسد، وتربية الروح على الانضباط، وتنمية روح الفريق، لا مجرد الفوز أو التشفي أو الغلبة، فكلما اتسعت دائرة المقاصد ضاق مجال الانفعال المذموم.
- نشر ثقافة الروح الرياضية، وأن نتعلم أن الفوز نعمة نشكر الله عليها، وأن الخسارة درسٌ نتعلّم منه، وأن الاحترام فوق كل نتيجة.
- وعيُ الآباء والمربين، بتوجيه الأبناء، وتعليمهم أن الرياضة وُجدت لتهذيب البدن والنفس، لا لزرع الكراهية.
- دور الإعلام، بأن يكون موجّهاً للتهدئة، لا شريكًا في تأجيج الفتن، فالكلمة مسئولية.
- ضبط التفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي، كعدم التعليق فور الانفعال، والامتناع عن إعادة نشر الإساءات، وإلغاء متابعة الحسابات التي تبث السخرية أو تثير روح التعصب.
اللهم أصلح قلوبنا، واجعلها خالصةً لك، واطرد عنها التعصّب والجهل والفرقة، اللهم ألف بين قلوبنا، ووحّد صفوفنا، واجعلنا من الذين إن غضبوا حلموا، وإن خاصموا عدلوا، وإن رأوا الحق اتّبعوه، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
اقرأ أيضاًالأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة.. «التطرف ليس في التدين فقط»
نص موضوع خطبة الجمعة 5 ديسمبر 2025.. «العقول المحمدية»
موضوع خطبة الجمعة 28 نوفمبر 2025.. «توقير كبار السن وإكرامهم»