سائقو الشاحنات العالقون بمعبر رفح يروون حكاية الانتظار والصبر
تاريخ النشر: 6th, June 2025 GMT
شمال سيناءـ تحت شمس قاسية تلفح الأجساد وتكاد تذيب الصبر، وعلى امتداد الطريق الحدودي شرقي مدينة رفح المصرية، تصطف مئات الشاحنات المحملة بمواد إغاثية خفيفة الوزن عظيمة الأثر، تنتظر السماح بالعبور نحو قطاع غزة، حيث ملايين الأرواح تتوق للحياة وتتشبث بالأمل.
ورغم صمت الشاحنات المركونة، فإن تفاصيلها تنطق بحكايات إنسانية لسائقيها الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين واجب إنساني جسيم ومحنة انتظار مرهق بلا نهاية واضحة، فلا فنادق ولا مرافق تليق بالبشر، فقط مقاعد الشاحنات وأغطية خفيفة وبعض الظلال المؤقتة، ومشاعر مرهفة تتشبث بالأمل رغم الجفاف القاسي.
من بين هؤلاء، يجلس محمد سيد عبد الصبور (32 عامًا) على طرف درج شاحنته، يروي للجزيرة نت أنه لم يبرح مكانه منذ أكثر من 120 يوما، بعد انطلاقه من مدينة السادس من أكتوبر غرب القاهرة، محمَّلا بالتمر والبسكويت والحليب المجفف لصالح قوافل أهلية.
يقول محمد "هذه الشاحنة لم تعد مجرد وسيلة نقل، بل صارت بيتي وسقفي ووسادتي، نحمل الخير في قلوبنا قبل الشاحنات، وننتظر إذن عبور قد لا يأتي سريعًا".
إعلانويضيف -وهو يمسح عرقه بقطعة قماش مبللة- "نطهو طعامنا على أنابيب غاز صغيرة ونقتسم الماء والدعاء، لا كهرباء ولا حمامات، فقط ظل الصبر، ولكننا لا نفكر في العودة لأننا نؤمن بأن ما نحمله حياة لناس خلف الجدار".
وبصوت تغلب عليه العزيمة رغم الانكسار، يقول أبو خالد (45 عامًا) "لسنا مجرد سائقين، نحن نحمل رسالة إنسانية، نصحو مع أول خيوط الشمس، نغسل وجوهنا بمياه قليلة احتفظنا بها من الليلة الماضية، ونبدأ يوما جديدا من الانتظار والترقب".
ويتابع "وجباتنا بسيطة؛ أرز، علب تونة، خبز وزيتون، نتبادلها ونتعاون على طهيها على نار بدائية، لا مطابخ مجهزة هنا، فقط أدوات متنقلة، لكن قلوبنا معلقة بمن ينتظرونها بفارغ الصبر".
بانتظار إذنويعيش محمد عبد العزيز (46 عاما) وضعا لا يختلف كثيرا عن زملائه، ويقول للجزيرة نت "نبحث عن أماكن نائية للاستحمام بمياه قليلة أو نستخدم خزانات الشاحنات، والحمامات المؤقتة غير كافية ولا تصلح للاستخدام إلا في أضيق الظروف. لكننا نبقى، لأن العودة معناها أن نترك إخواننا بلا أمل".
أما حسن سيد أحمد (33 عامًا) فيقول إن ساعات الانتظار تُستهلك في الصلاة، قراءة القرآن، صيانة الشاحنات، أو حتى لعب الورق لتخفيف الضغط النفسي، ويضيف "الاتصال بالأهل صعب، الشبكة ضعيفة، نترقب الأخبار، لعلها تحمل خبرا عن عبور قريب".
ويتابع "المحنة ليست فقط في قلة الطعام أو شح المياه، بل في العجز.. حين تعلم أن ما تحمله قد ينقذ حياة، وتُمنع من الوصول، لا لسبب إلا تأخر الإذن أو تعقيدات إدارية".
محاولات الإسنادأحمد عبد العزيز علي (52 عامًا)، القادم من محافظة المنوفية، يتحدث بنبرة يغلبها التعب "منذ فبراير/شباط وأنا هنا، قطعت المسافات محمّلًا بالمعلبات والمساعدات، أشتري ما أحتاجه من مدينة الشيخ زويد، عبر سيارات خاصة، ونتدبر أمورنا بما نستطيع، لكننا نعيش على أمل إفراغ الحمولة والعودة لتحميل أخرى.. بإذن الله".
إعلانويضيف للجزيرة نت "نحتاج على الأقل كرفانات أو كبائن مكيفة تحفظ الحد الأدنى من الكرامة، نحن نعيش في حرارة قاسية لا تطاق، ولا نطلب رفاهية، فقط مقومات حياة آدمية أثناء الانتظار".
ويقول أسامة بلاسي (40 عامًا)، وهو سائق شاحنة أخرى، إن المتطوعين والجمعيات الأهلية كانوا يقدمون وجبات يومية في بداية الأزمة، لكن الإمدادات تراجعت مع الوقت بسبب ضعف الموارد.
ويتابع موضحا أن "أهل شمال سيناء كرماء، يفتحون بيوتهم لنستخدم دورات المياه، ويعطوننا ما لديهم من خضار وماء، رغم أن الموارد شحيحة أصلًا، لكننا بحاجة لحلول جذرية، فالانتظار طال، والاستجابة من الجهات المعنية بطيئة".
رد رسميفي المقابل، أكد اللواء عاصم سعدون، نائب محافظ شمال سيناء، أن المحافظة تبذل ما بوسعها لتأمين احتياجات السائقين العالقين، من خلال جولات ميدانية تنفذها إدارة الأزمات لتقديم الغذاء والماء والرعاية الطبية.
وشدد سعدون على أن الأجهزة المحلية تعمل لضمان كرامة السائقين الذين وصفهم بـ"خط الدفاع الأول" في المعركة من أجل الحياة، مؤكدا أن المحافظة تدرك حجم التحدي وتواصل التنسيق لتذليل العقبات أمام مهامهم الإنسانية.
في ظل تلك الظروف، تتجلى قصة نادرة من التضحية والواجب الإنساني، فهؤلاء السائقون، العالقون منذ أشهر، لا يطالبون بأكثر من ظروف تحفظ كرامتهم وتُيسّر أداء دورهم. وبينما تمضي الأيام في حرارة رفح ولهيب الانتظار، تظل عيونهم معلقة ببوابة معبر يأملون أن تفتح في أي لحظة، لتنطلق شاحناتهم من صمت الحدود إلى صخب الحياة في غزة.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الدكتور أحمد علوش مدخلي.. حكاية تروى
عبدالعزيز التميمي
كيف يقيس الإنسان عمره، وكيف يحسب أيام حياته على الأرض؟ هل نحسبها بتلك الوريقات الصغيرة التي نتزعها من التقويم مطلع كل يوم، ثم نطويها ونلقيها في سلة المهملات يوما بعد يوم؟
إنها عند البعض أيام مرت من أعمارنا ولن تعود، وهي عند البعض الآخر، ساعات مضت كما يمضي كل شيء حولهم دون أن يستوقفهم، أو يشغل بالهم في قليل أو كثير. فهم يعيشون حياتهم في عبث ولهو، دون أن يحسبوا للزمن حسابًا، أو للوقت قيمة. وهناك من يغتنم وقته في عمل شيء مفيد لحاضره ومستقبله، ولحياته ومماته، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. فهو يعيش لحظات حياة مليئة بالنشاط والحركة، (وفي الحركة بركة)، يومه في غده، وعمله في إنتاجه، الوقت عنده عبادة، والحياة عمل.
طافت بمخيلتي هذه الخواطر، وأنا أشاهد تسجيلا قصيرا لحفل التكريم الذي نظمته مؤسسة “قدوات عطاء ووفاء للوطن”، في أبها تقديرا لنخبة من رواد التأثير والأسوة الحسنة على مستوى المملكة 1446هـ – 2025م، برعاية سمو الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز أمير منطقة عسير، بحضور جمع غفير من المدعوين..وكان من بين المكرمين الدكتور أحمد علوش مدخلي، الذي أتى إلى الحفل بصحبة والدته الكريمة، وكأنه يعلن للعالم أن هذه المرأة هي من صنعت نجاحه بعد الله سبحانه وتعالى.
وفي كلمة له ثمّن رئيس مجلس إدارة مؤسسة “قدوات” ناصر بن عبدالله العواد، رعاية سمو أمير منطقة عسير للحفل، مبينًا أن هذه الليلة تشهد تكريمًا لأصحاب الأسوة الحسنة ورواد التأثير، الذين قدّموا الكثير في خدمة أبناء الوطن، مثل: قضاء الحاجات، رعاية الأيتام، علاج المرضى، التطوع، نشر الوعي والتأثير في العديد من قضايا المجتمع.
وقصة أحمد علوش مدخلي، تستحق أن تذكر. فهو كان يعمل(حارس أمن) بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ورغم ذلك لم يدع للمصاعب مجالًا، ولم يترك للعمل تأثيرًا على طموحه، ولم يلتفت لشيء سوى تحقيق الأمل الذي رسمه لنفسه، في خطوات ثابتة، وباستمرارية لا تلين.
وبعد أن أكمل تعليمه الابتدائي ثم المتوسط والثانوي، وبعزيمة الرجال، دخل الجامعة، وبعد تخرجه فيها، سعى به طموحه، بعد توفيق الله له، للحصول على الماجستير ثم الدكتوراه التي حصل عليها في عام 1442هجرية، مستعينًا بالله سبحانه وتعالى، ثم تشجيع من حوله وفي مقدمتهم والدته وتحّفيزها له وشددّ أزره، ووقوف أسرته إلى جانبه.
وفي كلمات موجزة تعبر عن الكثيرمن المشاعر الصادقة قال أحمد علوش مدخلي: “إن كان في هذا التكريم فضلٌ يُذكر، فهو لأمي أولاً وآخراً؛ فهي التي غرست فيّ ما يُكرَّم، وربّتني على الصبر والعزم والعطاء. وكل مجدٍ نبلغه إنما هو ظلّ من ظلال تضحيات الأمهات، اللواتي نتقازم أمام سنا عطائهن، ونرتقي بما غرسن فينا من نور”.
وقصة نجاح الدكتور أحمد علوش، تستحق الوقوف عندها، لا لأنه نجح في الوصول إلى مدرجات الجامعة، وأصبح أستاذًا مساعدًا في جامعة جازان، ولكن لأن قصته رسالة للجميع: بأن الأهداف والطموحات لايمكن إيقافها إذا اقترنت بالتوكل على الله، ثم بالإرادة الصادقة والعزيمة، وإن طرق تحقيق الأهداف واضحة سهلة.أدواتها الجدّ والمثابرة، وسلاحها إيمان بالذات بعد الاعتماد على الله والتوكل عليه.
وفي مشوار حياته البسيطة، يقدم أحمد علوش مدخلي، مثالًا رائعًا لأولئك الذين يترددون كثيرًا عن تحقيق آمالهم وأمانيهم وأحلامهم عند مواجهتهم لأول عقبة صغيرة أو كبيرة صادفتهم أثناء سيرهم. إنه يقول لهم ولنا: إن الاستمرار في أي عمل تبدأه، هو الركيزة الأولى التي تحقق النجاح بعد توفيق الله سبحانه. إننا كثيرًا مانواجه في حياتنا بعشرات الحواجز، وما أكثر ماتمتلئ دروب حياتنا بالحجارة الصلدة من كل شكل ولون، ولو أن الإنسان منا أصابه الوهن والتعب من السير على هذه الأحجار، أو محاولة تكسيرها وتفتيتها، لما استقامت حياة أمة أو جماعة. إن كل شيء في بدايته صعب، ولكن مع الإصرار والاستمرار، تهون المصاعب، ويتحقق المستحيل، وتلين الحجارة. المهم ألا يتوقف الإنسان عند المحاولة. ويجلس أمام أول مشكلة يواجهها يلوم نفسه ويؤنبها، بل عليه أن يواصل الطريق فالخطوة الأولى والتي تليها رصيد يُضاف إلى خطوات سبقتها حتى نصل إلى نهاية الطريق محققين الهدف الذي نريد .
فيا عزيزي، لا تتوقف، ولاتبكي من حرقة الأحزان التي تلهب وجدانك، ولكن استمر ولاتتوقف تحت وهم أنك تبذل جهدًا ضائعًا؛ فقد تأتي لحظة النجاح في الوقت الضائع، أو الإضافي كمايقول المعلقون الرياضيون.
ولعلنا نختم بالأثر الشريف: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل”، وهذا الحديث الشريف يحثّ على بذل الجهد حتى آخر لحظة من حياة الإنسان لإعمار الكون في كل مجالات الحياة في العلم والعمل، وبذل الخير والعمل الصالح، وفق الله الجميع.