استعملت الإدارة الأمريكية الفيتو ضد مشروع قرار كان سيصدر عن مجلس الأمن، يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، ويدعو إسرائيل إلى السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى المهددين بالموت جوعا وعطشا. لقد وافق الجميع على نص المشروع بما في ذلك بريطانيا، بحكم الوضع المأساوي القائم في غزة المحاصرة، ومع ذلك اعتبرت هذه الإدارة أن البيان منحاز بحجة أنه لم يحمّل مسؤولية الحرب إلى حركة حماس، ولم يطالبها بالاستسلام والتخلي عن سلاحها، ومغادرة غزة.

. إنه العمى بعينه.

فعلت إدارة ترامب بذلك بوعي وإصرار، غير عابئة بالعالم الغربي الذي تقوده بلاده، والذي بدأ يعدل نظرته لما يجري في غزة والقدس والضفة، بعدما أوغلت حكومة أقصى اليمين الإسرائيلية في دماء الأطفال والنساء والشيوخ والأطباء والصحافيين وكل من هب ودب. لم يهتم ترامب بالظروف المحرجة التي يمر بها زملاؤه من الزعماء الغربيين الذين لم يعد معظمهم بإمكانهم تجاهل أصوات الملايين من ناخبيهم المطالبين بإنهاء هذه المجزرة، بعد أن أصبحت فلسطين الخبر الأول في العالم، وهو ما جعل معظم وسائل الإعلام الغربية تتحرر نسبيا من بعض الضغوط، وبذلك انطلقت الألسن لتنقل فظاعة ما يحصل من تصفيات ودمار.

ولم يتم الاكتفاء بالتأكيد على الأبعاد الإنسانية للمشهد، وإنما تصاعد الهجوم على الحكومة الإسرائيلية حتى اتهمها البعض بكونها تتبع خطوات أدولف هتلر في خطة القضاء على اليهود، حيث بدأ بالاستحواذ على ممتلكاتهم لدفعهم نحو الهجرة من ألمانيا، ثم تبلورت خطة تهجيرهم نحو مدغشقر، قبل أن ينقض عليهم ويخضعهم للمحرقة الشهيرة. هذا الكلام قيل في وسائل إعلام فرنسية، بل إن مجموعات من اليهود من مختلف الجنسيات نظموا صفوفهم، وألف مثقفوهم كتبا جريئة، وشاركوا في مظاهرات احتجاجية ضخمة من أجل التنديد بحرب الإبادة الجارية. ومنهم من شكك في السردية التي قامت عليها الدولة الإسرائيلية، ونسفوا الادعاءات الصهيونية.

لم يهتم الرئيس الأمريكي بكل ذلك، معتبرا الأولوية بالنسبة إليه هي عدم إزعاج نتنياهو وحلفائه، وعدم المساس بإسرائيل وسياساتها التوسعية. ليس هذا اتهاما مجانيا، لأن ترامب لم يكتف بدور المساند، بل أصبح شريكا في الإبادة الجماعية ومحرضا عليها. فهو الذي أعطى السياسة التوسعية للحكومة الإسرائيلية نفسا جديد عندما خرج بفكرة القضاء على الشعب الفلسطيني من خلال تزوير التاريخ وتهجير سكان غزة، واعتبار القدس صهيونية، وتسليم الضفة إلى اليهود حيث أطلق عليها الكونغرس الأمريكي التسمية العبرية "يهودا والسامرة"، وهو ما التزم به المسؤولون الصهاينة وأصبحوا يرددونه في لقاءاتهم الرسمية، مثلما فعل مؤخرا مستشار ترامب لشؤون الشرق الأوسط بولس مسعد.

بناء عليه، يعتبر ترامب ليس محايدا سياسيا وعسكريا ودينيا، ولا يمكن الوثوق في أن يكون وسيطا نزيها، فهو يلتقي مع يهود إسرائيل الأكثر تطرفا حول خطة ابتلاع فلسطين وتهويدها بالكامل. لهذا السبب لم يراع مشاعر حكام دول الخليج التي زارها مؤخرا، وأغدقت عليه المليارات، وأحسنت وفادته بكرم نادر، وطلبت منه أن يكون عادلا، وأن يتخلى عن فكرة تحويل غزة إلى مشروع سياحي، وأن يقنع حليفه نتنياهو بضرورة وقف الحرب. وبدل أن يفعل ذلك أو جزءا منه، صرح وزير خارجيته ماركو روبيو بما يدل على أن الإدارة الأمريكية لا ترى ولا تسمع، إذ قام بتمجيد إسرائيل، واعتبارها أشبه بالحمل الوديع المجروح، وطالب الدول المحيطة بهذا الكيان بالتخلي عن الكراهية وتجنب الاعتداء على هذا "الشعب اليهودي المسالم"! بمعنى آخر، جعل الظالم مظلوما، وحوّل الضحية إلى وحش كاسر، في حين كان بإمكان البيت الأبيض الاستماع إلى ما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود أولمرت؛ حول السياسة العبثية والشريرة التي تعتمدها حكومة تل أبيب في إدارة حرب الإبادة.

وحتى نصل إلى أعلى درجات استحمار الآخرين، طالبت ممثلة أمريكا داخل مجلس الأمن بدعم ما سمي بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، هذه الشركة الأمريكية التي استولت على المليارات، وطوعها الجيش الإسرائيلي لتحقيق أهدافه الإجرامية، والتي نصبت فخا رهيبا لإذلال الغزاويين وقتل العشرات منهم، وهي الشركة التي رفضت الأمم المتحدة الاعتراف بها والتعامل معها. فالسيدة السفيرة قالتها بوضوح "لن ندعم أي إجراء لا يدين حماس ولا يدعوها إلى نزع سلاحها ومغادرة غزة"!! غرور ما بعده غرور.. هذا يعني أنه حتى لو استجابت المقاومة لكل الشروط التعجيزية التي وضعها ويتكوف سابقا وحاليا لن يترتب عنها تغيير في الموقف الأمريكي؛ ليس فقط تجاه حماس بل تجاه مستقبل فلسطين والفلسطينيين. الخدعة مفضوحة والخطة واضحة، لقد صدق الشهيد أبو إياد حين قال: "مين الحمار اللي بوقف الانتفاضة ويرمى سلاحه من يده وبروح يفاوض إلا اللي بدو يخدم أعداءه؟". فالتاريخ يؤكد ذلك، والأيام القادمة لا تزال حبلى بالمفاجئات.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة إسرائيل ترامب إسرائيل غزة ابادة ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

غارديان: الكلمات وحدها لا تكفي لوقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية بغزة

رحبت "غارديان" بالإدانات المتزايدة بين حلفائها الغربيين لأفعال إسرائيل لكنها نبهت إلى أن هؤلاء الحلفاء سيظلون متواطئين معها في جرائمها المروعة في قطاع غزة، ما لم يتخذوا إجراءات ملموسة لوقف ذلك.

وذكرت الصحيفة البريطانية في افتتاحيتها بأن يوليو/تموز الجاري من أكثر الشهور دموية في حرب غزة، إذ تقتل إسرائيل شخصا كل 12 دقيقة، إضافة إلى أكثر من ألف فلسطيني قتلوا أثناء محاولتهم الحصول على الطعام، حسب الأمم المتحدة.

ووراء حالات الموت الظاهرة يكمن رعب المجاعة الممنهجة، التي يقول عنها الخبير في الأزمات الإنسانية أليكس دي وال إنها "مهندسة بدقة، وخاضعة للمراقبة الدقيقة، ومصممة بعناية" وهي تنتشر بسرعة كما نبهت أكثر من 100 منظمة إغاثة.

10 أشخاص ماتوا في غزة بسبب الجوع وسوء التغذية خلال يوم واحد فقط (الجزيرة)

وأوردت غارديان تأكيد وزارة الصحة في غزة بأن 10 أشخاص ماتوا بسبب الجوع وسوء التغذية يوم الثلاثاء وحده، في وقت يشاهد فيه الآباء أطفالهم وهم يذوون، وينهار الكبار في الشوارع، ناهيك عن الاحتياجات الأساسية الأخرى كالماء والإمدادات الطبية والمأوى.

وذكرت الصحيفة أن الجوع يلحق أضرارا دائمة بالصحة البدنية والنفسية، وربما بصحة الأجيال القادمة، ويدمر المجتمعات كما يدمر الأرواح، لأنه يجبر الناس على اتخاذ خيارات مستحيلة، كاختيار أي أطفالهم يحتاج إلى الطعام أكثر، والقيام بتصرفات يائسة، وانتزاع الطعام من الآخرين، مما يترك ندوبا دائمة.

وفي الوقت الذي استنفدت فيه العديد من منظمات الإغاثة كل شيء، تلقي إسرائيل باللوم على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتتهمها بنهب المساعدات، علما بأن الحكومة الإسرائيلية سلحت عصابة إجرامية متهمة بالاستيلاء على المساعدات.

ونبهت غارديان إلى أن اتفاقية الإبادة الجماعية تحظر "فرض ظروف معيشية متعمدة على الجماعة بهدف تدميرها المادي كليا أو جزئيا" مشيرة إلى أن الحرمان قادر على تدمير الفلسطينيين في غزة كمجموعة، حتى لو أبقت المساعدات الشحيحة معظمهم على قيد الحياة.

جثث فلسطينيين قتلوا بالرصاص عند نقطة توزيع طعام قرب زيكيم شمال القطاع (أسوشيتد برس)

ومع أن الإدانة تتزايد، حيث أصدرت المملكة المتحدة و27 دولة أخرى بيانا شديد اللهجة هاجمت فيه إسرائيل لحرمانها الفلسطينيين من "الكرامة الإنسانية" فإن المهم ليس ما يقولونه، بل ما يجب أن يفعلوه من فرض عقوبات وحظر شامل على الأسلحة، وتعليق شروط التجارة التفضيلية.

إعلان

وذكرت الصحيفة بأن الاعتراف بدولة فلسطينية جزء من رد ضروري، ولكنه ليس القضية الوحيدة ولا الأهم، مشيرة إلى أن كايا كالاس (مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي) -أكبر شريك تجاري لإسرائيل- قالت إن "جميع الخيارات مطروحة" ولكن الاتحاد لم يتفق بعد على أي إجراء.

ونوهت "غارديان" بفرض بريطانيا عقوبات على وزراء اليمين المتطرف، وإعادة تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وتعليق العديد من صادرات الأسلحة، مع أن هذه الإجراءات جاءت متأخرة جدا، ولا تزال ضئيلة للغاية.

وخلصت الصحيفة إلى أن على الدول الأخرى أن تتعاون لمواجهة التدمير الممنهج لحياة الفلسطينيين في غزة، لتقديم رد منهجي وشامل وملموس وبشكل فوري، محذرة من أن السماح بتمزيق القانون الإنساني الدولي، ستطال تداعياته الكثيرين حول العالم في السنوات القادمة.

مقالات مشابهة

  • مسيرة بإسطنبول ضد الإبادة الإسرائيلية والتجويع بغزة
  • اللغة التي تفشل
  • مقرب من ويتكوف: “حماس” لم تطلب الكثير ونتنياهو لا يريد إنهاء الحرب
  • ارتفاع ضحايا الإبادة الإسرائيلية في غزة إلى 59,733 شهيدًا
  • انتفاضة أخلاقية عالمية ضد الإبادة الإسرائيلية لقطاع غزة
  • حماس ترد على ترامب وويتكوف: نحن ملتزمون بالسلام ونتنياهو هو المعرقل
  • المغرب.. مظاهرة بمراكش تنديدا بسياسات التجويع الإسرائيلية في غزة
  • مؤسسات دولية وإعلامية تطلق نداء لوقف الإبادة الإسرائيلية في غزة
  • خطة ترامب ونتنياهو في سوريا والسيطرة على قلب العالم
  • غارديان: الكلمات وحدها لا تكفي لوقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية بغزة