تراود الإنسان بين الفينة والأخرى أفكار مختلفة متشعبة، أراها كالشجرة الباسقة بجذورها الممتدة في باطن الأرض وأغصانها المتموجة يمنة ويسرة، هي كالقيود التي تهيمن على فكره وروحه فتتركها تئن وتصرخ محاولة الهروب والنزوح إلى عالم جميل مغاير للواقع الذي يشعر به.
هذه القيود لن يفكها ولن يخلص براثنها إلا الكتابة؛ فهي المحرر من الأسر، فتحرر الفكر ليتجدد ويعود إلينا كالصفحة البيضاء التي لا تقبل الخطوط العاتمة التي تعكر صفو الحياة وتحد من مصادر النبوغ والعطاء.
فهنيئًا لمن فهم هذه المعادلة وكانت له زاوية يركن إليها كلما أحس بثقل أفكاره وخفقان قلبه وبشهيق رئته الصعب، فامتطى مداده وبدأ يسطّر ما يعتلج في جوفه ويفصح عما يجول في خاطره، ويطلق العنان لأفكاره لتحلق بعيدًا بأجنحتها، كل منها يهرب إلى عالمه الخاص حيث وضعته الحياة.
فما في نفسك أيها الإنسان فوضى تثيرها الأفكار، وتسطرها المواقف، وتتبناها الأحزان، وتراقصها الأحلام. وليس سلاحك في ذلك إلا الكتابة؛ فهي ترجمة لما لم تستطع البوح به لأحد، وليس مهمًا ما يدور في رأسك إن لم يكن مخطوطًا على الصفحات؛ فهي ما سيحوّل فوضوية فكرك إلى نظام واضح القسمات وألمك إلى جمال تتغنى به الروح.
فالكتابة ليست مجرد حروف تنقشها اليد المنهكة أو حكاية ترويها النفس المشحونة بالآلام، إنما هي متنفس الروح حيث تستقر الرؤى الجميلة والغد المشرق والمصير المجهول لتجد طريقها إلى الشفاه فتحيا.
هي متنفس حين لا تجد من ينصت إليك، أو حينما تخجل من الانطلاق بلفظك إلى عالم آخر غير عالمك. هي توأمك الروحي الذي يشاركك تسجيل لحظاتك السعيدة ولن يمل منك، وحده العالم الذي لن يخون ولن يخدع، وحده العالم الذي ستثق به وتفشي جلّ أسرارك إليه بلا مقابل.
الكتابة حياة أخرى يعيشها الفرد مع نفسه عندما يأبى الواقع الذي نعيشه أن يحققها له. بين السطور ستجد آمالك وأحلامك، سترسم واقعًا جميلًا مغايرًا لما أنت فيه. فاجعل من قلمك ملجأ تهرب إليه كلما ضاقت عليك السبل وانتزعتك المآسي ولم تنصفك الليالي. عد إلى قلمك كلما التفت حولك فلم تجد من يشاطرك الألم ويقاسمك الشعور ويوافقك الرأي. ليكن قلمك الصديق والمؤنس لك في التعبير وتحقيق الحلم، في إنصاف الحياة وبلوغ الغايات ولملمة الشتات، في الدفاع عن أفكارك، وفي الهجوم على الواقع المحبط.
فبالكتابة يسمو الفكر ويدخل في متاهات كثيرة يتخير ويجرب دروبها ليصل إلى المخرج الذي يزيح ثقل الأيام عنه. عش لحظاتك متدبرًا كيف بوسعك العيش في عالم جميل والتمتع بملذاته، كيف تعيش شاكرًا حامدًا ربك العزيز الذي ألهمك هذه النعمة العظيمة التي هي مخاض لما يعتمل في عقولنا. هي تهيئة وبداية لولادة جميلة لحياة أجمل قرأناها بقلوبنا قبل عقولنا. هي مأوى للأرواح التائهة، هي هدية الزمان لمن سيقرأها.
بالكتابة ستتعرف على نفسك أكثر. وكما قال ألبير كامو: «الكتابة هي الصمت الذي يحاور العالم»، اكتب لتعرف ذاتك أكثر، لتجد الحقيقة ولو كانت تختفي خلف آلاف الأقنعة. أعط نفسك مجالًا للفسحة حيث الحرية التي لا يمنعها شيء. أطلق العنان لبنات أفكارك، اجعلها تحلق، وترى الواقع، وتستيقظ من سباتها لترتوي من مواقف الحياة، لتصنع التجارب وتنجز ما أراده الله لها بقدم راسخة ويد سخية جادت بالمداد لترسم الرؤى.
لتكن الكتابة عتادك ضد كل المخاوف والمنقذ لك حين تقع في شباك التحديات، لتروي بها قصص الحب المليئة بأكسيد السعادة، وتسرد بها حكايات الوطن والاغتراب. هي البوح العذب الذي لا يفهمه كل البشر. اصنع من عثراتك قصة جميلة سيرويها قلمك لأجيال أخرى.
بها ستخلف موعظة، وستذكر تجربة، وستخوض عقبة، وستنجز حلمًا، وستطرب نفسًا، وستزهر ربيعًا جديدًا في نفوس أسقطها الألم وأوجعها الأنين وأخافها شبح المستقبل.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الروائي أشرف العشماوي: بدأت الكتابة عندما كنت وكيل نيابة ولم أخطط لأكون روائيًا |فيديو
كشف الروائي أشرف العشماوي عن بداياته في عالم الكتابة، مؤكدًا أنه لم يكن يخطط لأن يصبح كاتبًا أو روائيًا في أي مرحلة من حياته، حيث بدأ مشواره الأدبي أثناء عمله في النيابة العامة، وكان في الأصل قارئًا شغوفًا بالكتب والقصص، يجد متعة كبيرة في القراءة دون أن تراوده فكرة النشر أو الكتابة.
وقال “العشماوي”، خلال حواره مع الإعلامية الدكتورة منة فاروق، في برنامج «ستوديو إكسترا»، المذاع على قناة «إكسترا نيوز»، إنه اكتشف موهبته في الحكي والكتابة أثناء تلخيصه لملفات القضايا كوكيل نيابة، مضيفًا: «كنا نكتب ملخصات قانونية للملفات، لكني كنت أميل للسرد والتفاصيل، حتى لاحظ مديري الأمر وقال لي: إحنا بنلخص قضايا مش بنكتب حكايات».
وأشار إلى أن تلك الملاحظة كانت بمثابة إشارة له بأن لديه طاقة تعبيرية مختلفة عن أقرانه، وأنه يمتلك موهبة سرد القصص بأسلوب مميز، موضحًا: «بدأت أنتبه إن في حاجة عندي ممكن أعمل بيها حاجة، ومع الوقت تطورت الموهبة وبقيت أكتب من غير ما أفكر في النشر».
واختتم “العشماوي” حديثه بالتأكيد على إيمانه بأن كل إنسان يمتلك موهبة منحها الله له، لكن الاكتشاف الحقيقي يكمن في التوقيت والظروف التي تتيح للمرء أن يراها بوضوح ويسعى لتطويرها.