قبل بضع سنوات، التقيت بالكاتب العماني سالم البحري، في مكان قريب من مطار الدار البيضاء، وهو المفتون بطبيعة المغرب وآثاره وثقافته وأناسه. تعرفت فيه على الباحث المهتم بالتاريخ. وانتبهت بعد الاطلاع على ما أهدانيه من أعماله إلى أن اهتمامه هذا لا يقتصر على بلاده، كما يفعل المؤرخون عادة، بل يتجاوزه إلى محيطها الجغرافي، وامتدادها العربي والإسلامي (شمال إفريقيا وإيران مثلا).

وعندما زرت مسقط قصد المشاركة في معرضها الدولي للكتاب السنة الماضية، أخبرني أنه منكب على تأليف عمل روائي، سيكون باكورة أعماله الأدبية. وبعد شهور قليلة، أطلعني على نص مخطوطته، التي قرأتها أكثر من مرة، قبل أن تصدر مطلع السنة الجارية، بعنوان ‹أحلام في حدائق الموت›، ضمن منشورات ‹حدائق الفكر› العمانية.

بعد هذه التوطئة المختزلة، لا بد من القول إن رواية ‹أحلام في حدائق الموت› تمثل نصا روائيا مكثفا ينغمس في قضايا متنوعة، ويقتحم عوالم جغرافية ونفسية متعددة، ليرسم صورة بانورامية لتحديات الإنسان العربي المعاصر في سياقات ثقافية مشحونة ومتباينة. لكن أكثر ما أثار انتباهي فيها هو بعدها الثقافي، الذي يجعل منها محاولة لاستكشاف تقاطع الذاتي بالجمعي، وتأثير البنى الثقافية والاجتماعية في تشكيل الوعي والسلوك، مع تسليط الضوء على صراع القيم والتطلعات من جهة، وعلى تحولات مجتمعية متسارعة موسومة بالتوتر من جهة ثانية.

سليمان: الذات المتمزقة في فضاء الهويات المتصارعة

يمثل سليمان، بطل الرواية، المثال المحوري الذي تتكثف حوله معظم ثيمات الرواية. تمثل شخصيته، التي تتنقل بين مدن متعددة (القاهرة، مراكش، فاس، مسقط، تونس، جربة، الخ.) وتعيش حالات نفسية متقلبة (تتراوح بين اليتم والعشق والفقد والوحدة والطموح والانتقام)، مرآة تعكس هشاشة هوية الإنسان العربي الحالي، إن لم نقل أزمتها. يبدأ سليمان، منذ لقائه بنوال في مكتبة الجامعة بالقاهرة، بما هي مرفأ المعنى والمعرفة، رحلة بحث عن الاستقرار العاطفي والاستكشاف الفكري. غير أن هذا الاستقرار يتهاوى أمام قسوة القدر، متمثلا في فقدانه زوجته- حبيبته نوال وابنه، ليغوص في ‹وحدة قاتلة› تكشف هشاشة الوجود الإنساني في غياب الروابط الاجتماعية والأسرية، برمزيتها التقليدية التي ظل سليمان يترجمها في حياته اليومية.

ولا يمثل انتقاله بين الجغرافيات، بين عمان ومصر وتونس والمغرب، مجرد تنقل مكاني، بل هو تنقل بين ثقافات فرعية ومفاهيم حياتية مختلفة. تمثل عمان فضاء الطفولة والذاكرة؛ ومن ثمة، فهي تذكره بالجذور والتاريخ العماني العريق. وتجسد مصر فضاء الانفتاح والتعارف والعلم والحب. أما المغرب، فيرمز للجمال الساحر والرومانسية التقليدية. هكذا، تبرز الرواية كيف أن هذه المدن تطبع شخصية سليمان وتؤثر في تشكيل وعيه، وتجعله أسير ذكريات الماضي في ظل عجزه عن التكيف مع الحاضر المؤلم.

كما تبرز الرواية توترا مستمرا بين القيم التقليدية والمعاصرة. ثمة زفاف بالطريقة التقليدية يقرن حياة العشيقين سليمان ونوال. وهو يحمل في طياته طابع الاحتفالية والجماعية، مع إشارات إلى عادات مثل غسل الأقدام وتلاوة آيات من سورة النور، مما يعكس تمسك المجتمع بتقاليده الدينية والاجتماعية في لحظات فارقة. ومع ذلك، لا تحمي هذه التقاليد سليمان من الفقد أو الوحدة، بل قد تثقل وطأة أحزانه عندما لا يجد فيها السند الكافي للتعامل مع وفاة زوجته وابنه في مصر، إثر زلزال مدمر.

وتتجلى التقاليد أيضا في النظرة إلى المرأة ودورها. يصور السارد نوال ‹جوهرة ثمينة› و‹ظبية›، مما يعكس تصورا رومانسيا ومثاليا للمرأة. وفي سياقات لاحقة من الرواية، تكشف شخصية الصحفية التونسية ‹سهام›، التي تنقلب من كونها ‹حبيبة› إلى ‹منتقمة›، وجها آخر للوعي الثقافي الذي يمكن أن يتبنى الانتقام كحل لألم الخذلان، وكسر صورة المرأة الوديعة، لتقدم نموذجا للمرأة الثائرة على التقاليد التي أضحت تخدم مصالح طرف واحد.

من جانب، يوظف السرد في هذه الرواية خلفيات تاريخية متعددة. تتداخل سرديات الشخصيات الروائية بسرديات تاريخية وثقافية أوسع، خصوصا عند الإشارة إلى تاريخ عمان والبرتغاليين، أو ذكر شخصيات تاريخية مثل عقبة بن نافع الفهري. لا يخدم هذا التضمين فحسب وظيفة إثراء النص، بل يعكس وعيا ثقافيا بالماضي بوصفه جزءا لا يتجزأ من الحاضر، أو مؤثرا فيه على الأقل. فهو يذكرنا أن الهوية الفردية تتشكل أيضا بفعل التاريخ الجماعي، وأن الصراعات الماضية (مثل الفتوحات الإسلامية ومقاومة الكولونيالية) تترك بصماتها على الوعي الجمعي، وتؤثر في كيفية فهم الذات في سياق الأمة.

ويكشف هذا الطرح المفترض حول أسئلة التاريخ والوطن («وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي،» كما يقتبس السارد من شعر أحمد شوقي) عن حنين عميق للجذور والهوية الأصلية في مواجهة عزلة الذات واغترابها. تمثل العودة إلى ‹قرية الياسمين› محاولة للبحث عن الأصالة والسكينة المفقودة، لكنها تصطدم بواقع التغيير (هدم المنزل القديم)، مما يؤكد أن الماضي لا يعود كما هو، وأن الحنين غالبا ما يكون مثقلا بخيبة الأمل.

أضف إلى هذا أن الرواية تقوم على تكثيف الرموز لتعميق دلالاتها الثقافية. ترمز عبارة ‹حدائق الموت› نفسها، الواردة في العنوان، إلى المفارقة بين الجمال والفناء، بين الحياة والموت، وتشي بالهشاشة الكامنة في كل ما هو جميل. أما ‹الكوابيس› التي تلاحق سليمان و‹أم السعف والليف›، فهي تعكس خفايا الوعي الشعبي والمعتقدات المتوارثة التي تؤثر في التصورات الشخصية للخوف والفقد. فضلا عن ذلك، تعزز اللغة الشعرية التي يستخدمها الكاتب، مع اقتباسات من الشعر (أحمد الشهاوي، أحمد شوقي، أحمد بن حمدون، بالإضافة إلى أبيات شعرية أخرى تعبر عن اليأس)، البعد الثقافي للنص. فالشعر في الثقافة العربية ليس مجرد زينة، بل هو وسيلة للتعبير عن الوجدان الجمعي والفردي، وللتأريخ، ولإضفاء معنى على التجربة الإنسانية. كما يعكس استخدام الأمثال الشعبية والأبيات المعبّرة عن الشجن («إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه...») تجذر النص في بيئة ثقافية غنية بالتعبيرات التي تختزل تجارب الحياة بكلمات بسيطة وواضحة أحيانا.

أما ما يلفت الانتباه، فهو الجزء الأخير من الرواية، الذي يتمحور حول انتقام سهام. يمثل هذا الجزء تحولا جذريا في ديناميكيات القوة والقيم. ذلك أن سهاما، التي كانت حبيبة الهادي، تتخذ من الانتقام من سليمان هدفا، وهو ما يعكس موقفا شخصيا يتعلق بالعدالة الشخصية في مواجهة خذلان عاطفي. ليس هذا الانتقام مجرد فعل فردي، بل يطرح تساؤلات حول كيفية تعامل المجتمع مع الألم والظلم، ويدفعنا إلى التساؤل: هل الانتقام هو السبيل الوحيد لاستعادة التوازن، خصوصا عندما تفشل الأطر التقليدية في تحقيق ‹العدالة›؟ في هذا السياق، يرمز ‹نثر الذكريات› في الصحراء إلى محو الماضي المؤلم ورفض استعباد الذاكرة، وهو فعل يتجاوز التوقعات التقليدية لسلوك المرأة.

وتختتم رواية ‹أحلام في حدائق الموت› بخسارة سليمان سهاما، ليكتمل بذلك مسار الفقد والعزلة الذي بدأ بفقدان زوجته وابنه. لا ينبغي أن تقرأ هذه النهاية، التي تتوج سلسلة من خيبات سليمان وخسائره، أنها مجرد مصير فردي مأساوي، بل هي بمثابة تعليق مكثف على طبيعة الوجود الإنساني في سياق ثقافي معاصر يمزقه التناقض بين الأصالة والحداثة، بين الذات والجماعة. يرسم الفقد المتتالي الذي يعيشه سليمان، من فقدان الحب الكبير والأسرة، إلى ضياع الأمل في الارتباط الجديد، وصولا إلى رمزية المنزل القديم المتهدم في ‹قرية الياسمين›، صورة لحالة عامة تعيشها الذات في عالم عربي منكوب سياسيا واقتصاديا، وممزق اجتماعيا وثقافيا وهوياتيا. تتحول هذه ‹الحدائق›، من كونها مأوى أحلام إلى مقبرة لها، لا بفعل القدر المحض فحسب، بل بفعل عوامل ثقافية واجتماعية متراكمة.

كما يمكن فهم عجز سليمان عن التمسك بأحلامه، وعن بناء علاقات مستقرة، بوصفه دلالة على هشاشة البنى الاجتماعية التقليدية التي كانت توفر السند والدعم، دون أن تتشكل بدائل حديثة قادرة على سد الفراغ. تظهر الرواية كيف أن الفرد، حتى لو كان متعلما ومطلعا ومتحركا بين المدن، يظل أسير ذاكرته وجروحه، ولا يجد في هذه الجغرافيات المتنوعة، أو في العلاقات العابرة، ما يعيد له توازنه. كما تبرز الخاتمة تفكك السرديات الكبرى (سردية الحب الخالد، سردية الأسرة المستقرة، سردية الوطن بما هو ملاذ آمن). (يتهدم منزل الطفولة) ويتغير الوطن ويتآكل، رغم الحنين العميق إليه، ويتحول الحب إلى انتقام، وتذوب الروابط. ليس هذا التفكك مجرد نهاية فردية، بل هو انعكاس لأزمة ثقافية أوسع تتجلى في صعوبة إيجاد معنى أو استقرار في عالم يفتقر إلى مركزية قيمية جامعة.

كما أن فعل سهام الانتقامي، وتحديها الصورة النمطية للمرأة، ليس مجرد حدث درامي، بل هو تمرد ثقافي على بنى أبوية تقليدية قد لا توفر ‹العدالة› للمرأة المخذولة. يشير هذا التمرد، وإن كان قاسيا، إلى تحول في الوعي، حيث تسعى بعض الشخصيات إلى استعادة كرامتها وحقها بوسائل قد تبدو خارجة عن المواثيق الاجتماعية المألوفة، في غياب آليات ثقافية أخرى لإنصافها. يمثل ‹نثر الذكريات في الصحراء› فعلا رمزيا لإلغاء سلطة الماضي المؤلم، وتأسيس ذات جديدة لا ترزح تحت وطأة الذاكرة القاسية، وهو ما يشير إلى بحث فردي عن التحرر، حتى لو كان ثمنه هو العزلة.

في الختام، لا تطرح ‹أحلام في حدائق الموت› حلا جاهزا، بل تترك القارئ أمام حقيقة أن الأحلام قد تدفن في حدائق اليباس، لا الموات، وأن الإنسان، مهما بلغت قوته أو ضعفه، يظل يخوض صراعا وجوديا مع ذاته، ومع محيطه الثقافي والاجتماعي. هكذا، تصير الرواية دعوة للتأمل في ثمن التقدم، وكلفة الحداثة، وأثر التفكك الأسري والمجتمعي على الروح الإنسانية. كما تتحول إلى مرثية لكل تلك الأحلام التي ما فتئ الإنسان يبنيها، ليجدها في نهاية المطاف مجرد أطياف تتلاشى في ‹حدائق› تتجلى فيها العواقب القاسية للتحولات الثقافية والأزمات الوجودية. هكذا، لا تسرد الرواية، بهذا المعنى، قصة سليمان المأساوية فحسب، بل تمثل سردية ثقافية عن زمن هشاشة الإنسانية وتمزق الهوية وصراع القيم في متاهة الحداثة والتقاليد.

محمد جليد كاتب من المغرب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما یعکس

إقرأ أيضاً:

ابن سائق محمد صبحي يقلب الرواية المتداولة رأسًا على عقب .. تفاصيل

خلال الساعات الماضية تصدر الفنان محمد صبحي محركات البحث، وذلك بعد انتشار فيديو يظهر فيه وهو ينفعل على سائقه عقب انتهاء تكريمه بمهرجان "آفاق" بمسرح الهناجر في دار الأوبرا، وهو ما أحدث موجة واسعة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي.

أبويا عنده 65 سنة.. نجل سائق محمد صبحي يفجر مفاجأة غير متوقعة عن واقعة الانفعال مهرجان البحر الأحمر السينمائي يعلن عن شراكة استراتيجية للارتقاء بصناعة الرسوم المتحركة .. تفاصيل حفلات عالمية في قلب المتحف المصري الكبير بمشاركة العازف العالمي هاوزر.. تفاصيل هاري ستايلز يخوض معركة قانونية بملايين الدولارات لوقف استغلال اسمه تجاريًا إصابة تجبر يسرا اللوزي على الانسحاب من عرض المورستان.. الليلة عرض فيلم "محفوظ وهي" اليوم على شاشة الوثائقية العاشرة مساءً دور غامض يجعل كريم قاسم يعيد حساباته قبل الانضمام لـ فيلم "القصص" مهرجان البحر الأحمر يختتم دورته الخامسة.. الليلة عملية تجميل واحدة تغير نظرة جينيفر لوبيز لنفسها وتدفعها نحو إجراء سلسلة عمليات في عام 2026 ابتعاد المخرج جمال عبد الحميد عن العمل 13 عامًا يدخل حياته في أزمة نفسية.. زوجته تكشف التفاصيل


وعلق نجل سائق الفنان محمد صبحي على الفيديو المتداول الذي أثار جدلًا على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي انفعل فيه صبحي على والده بعد تكريمه على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، فبعد مغادرة الفنان للمسرح التف الجمهور والمصورون حوله فانزعج لتأخر السائق عليه.

قال نجل السائق: "الراجل اللي بيجري وراه ده هو أبويا، واللي حصل أن أبويا راح الحمام، وللعلم هو عنده 65 سنة يعني مش صغير لما طلع هو مكلموش لأنه مش بيطلع معاه كثير أصلاً، هو سواق أخته مدام سلوى عشان كده هو كان بيكلمها لما خرج، وأبويا غلط آه معترضتش".

وأوضح أيضًا:"بس اللي حصل ده عيب جداً ولاقيت ناس عمالة تقول السواق مهمل والسواق مش عارف إيه ولازم يقف جنب العربية موقف طبيعي جداً، ووالدي طول عمره سواق وبيحصل مع كل الناس نفس الموقف ده وعادي بيعدي هو ما أجرمش".

واختتم حديثه:"أنا طالب لو هتنزلي توضيح عشان الراجل ميبقاش متهان قدام العالم كله وكمان ألاقي كلام وحش من ناس لا عارفة ولا فاهمة اللي حصل، على فكرة أنا أبويا كان شغال مع واحد ومشي بسبب إنه قاله اغسل العربيات وده مش شغله، يعني أبويا مش بيذل نفسه ولا هو اللي عمل كده في نفسه زي ما الناس بتقول".

وكان قد علق الفنان الكبير محمد صبحي على الواقعة، حيث  كتب عبر صفحته على فيسبوك: "رغم كل الماء العذب الذي تصبه السماء في البحر إلا أنه يبقى مالحاً، فلا ترهق نفسك، البعض لا يتغيرون مهما حاولت!".

مقالات مشابهة

  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة
  • حماس: تقرير العفو الدولية مغلوط ويتبنى الرواية الإسرائيلية
  • "صحح مفاهيمك".. ثقافة القاهرة تنظم لقاءات توعوية متنوعة
  • ابن سائق محمد صبحي يقلب الرواية المتداولة رأسًا على عقب .. تفاصيل
  • مغامرة «فلسطين» تصطدم بـ أحلام «السعودية» في كأس العرب.. من يعبر للمربع الذهبي؟
  • «سبع قمم» رحلة تقود لاكتشاف الذات
  • شريف سليمان يكتب: الكرة المصرية في سكرات الموت
  • نقابة الصحفيين تنظم حفل تأبين للكاتب الراحل حازم عبد الرحمن
  • أحلام تنقلب كوابيس.. شباب العراق في فخ التداول والرهانات الإلكترونية