جيوبوليتيك من الجنوب: دعوة لتحرر الوعي وبناء مشروع حضاري جديد
تاريخ النشر: 2nd, July 2025 GMT
في كتابه الجديد "جيوبوليتيك: رؤية من الجنوب"، الصادر في أبريل/نيسان الماضي بالمغرب عن دار "مكتبة سلمى الثقافية"، لا يقدم الدكتور حسين مجدوبي ترفا نظريا أو تمرينا أكاديميا لتحليل خريطة جيوسياسية باتت متحركة ومضطربة، بل هو إعلان في جوهره. إعلان عن ضرورة فكرية، واستنهاض لوعي حضاري، وصياغة لموقف يضع "أمم الجنوب" في قلب المعادلة الدولية، لا في هامشها.
إنها دعوة صريحة إلى فك التبعية الذهنية والسياسية، والتحرر من التصنيفات الجاهزة التي صدرتها مراكز القوى في الشمال بنزعة هيمنة وتفوق واضحين. كما أنها دعوة للاستقلال بالوعي عن صندوق التفكير الذي صاغت مرابعه تصورات مركزية وكولونيالية، لطالما قزمت الجنوب في خانة "التخلف"، و"اللحاق المتأخر"، و"الدونية التاريخية".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف تستخدم الدول الجغرافيا لتعزيز القوة والنفوذ؟ استعراض شامل لمفهوم الجيوبولتكسlist 2 of 2إبراهيم البيومي غانم: كيف نعيد بناء العقل العربي لمواجهة التبعية الثقافية؟end of listلا ينكر الكتاب حجم التحديات، ولا يتجاهل واقع الانقسامات بين شعوب الجنوب، لكنه يؤمن بأن هذا التنوع، إذا ما أدير برؤية براغماتية ناضجة وحس استقلالي واضح ومقاوم، يمكن أن يتحول من عامل تفتيت إلى عامل تكامل وبناء. فما يجمع شعوب الجنوب أكثر مما يفرقها: من ذاكرة استعمارية مشتركة، إلى واقع اقتصادي هش، وطموح نحو الاستقلال والسيادة على القرار والمصير.
وما يميط الكتاب اللثام عنه هو أن ثمة آفة تعيق الاستقلال الحقيقي، وهي آفة الوعي التي تبدأ، خصوصا عند المفكرين، بتحرير المفاهيم والتصورات من التبعية السياسية والفكرية والتداولية، بل حتى الميتافيزيقية.
يصدر هذا العمل عن مفهوم "الجيوبوليتيك" ليس بوصفه أداة تحليل فحسب، بل كأساس لصياغة مشروع نهضوي ينبثق من خصوصيات الجنوب، ويضع مصالحه في الصدارة.
ويستند الكتاب إلى المنظور التاريخي، فيرى أن الجنوب يتكون من أمم ذات تاريخ عريق، ساهمت في تأسيس الحضارة الإنسانية وعمادها، وكانت الأطول زمنا، مثل حضارة بلاد الرافدين، وحضارة الفراعنة، وحضارة اليمن، والحضارة الإسلامية، وحضارات الأزتك والمايا في جنوب القارة الأميركية ووسطها.
وقد انبثقت عن هذه الحضارات أمم يستمر وجودها بصيغة أو بأخرى في حقبتنا الراهنة، وتستوحي من تاريخها القديم الزاهر والمجيد الحافز المعنوي والبوصلة الجيوسياسية لبناء المستقبل.
بهذا المعنى، لا يكتفي الكتاب بتشخيص العلاقة المختلة بين الشمال والجنوب، بل يقترح تصورا حيويا لبناء تكتل إستراتيجي يضم دول الجنوب، تكتل سياسي واقتصادي وثقافي وعلمي وعسكري، قادر على الصمود في وجه الاستغلال الجديد، وعلى التفاوض الندي مع القوى الكبرى.
إعلانوإلى جانب الوعي العميق والمتجذر الذي بات يسود في أوساط شعوب أمم الجنوب، بما يجعلها جديرة بحمل مشاريع الوحدة الكبرى، فإن وجود تكتلات إقليمية في العالم العربي، ومنطقة الساحل الأفريقي، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، يشكل ركيزة صلبة وانطلاقة إستراتيجية لمسار التنسيق، في أفق بلورة تنسيق متكامل وفاعل لأمم الجنوب.
مشروع إستراتيجي موحدويبقى مصطلح "أمم الجنوب"، الذي يصوغه الكاتب بخبرة تحليلية ناضجة تراكمت مع تجربته الصحفية الطويلة، وبوعي منهجي تكرس لديه مع انشغاله الأكاديمي العميق والموازي، ليس مجرد تسمية جغرافية، بل هو مفهوم تحرري ونقدي، يعيد الاعتبار لتاريخ طويل من الإسهامات الحضارية، ويقاوم التصنيفات الغربية من قبيل "العالم الثالث" أو "الجنوب المعولم" أو "الدول المتخلفة".
ويرى الكاتب أن هذه المصطلحات، وإن بدت محايدة ظاهريا، فإنها مشبعة بمنطق الهيمنة، وتستبطن نزعة استعلائية صاغها الغرب لتبرير سيطرته، وتحديد مواقع القوة والضعف في العالم على هواه.
وإمعانا في بث الوعي بأهمية هذه العملية الفكرية والسياسية وإستراتيجيتها داخل أي تصور تحرري، يناقش الكتاب جذور هذه التصنيفات، ويبين كيف أن بعضها -مثل "الجنوب المعولم" أو "الدول المتخلفة"- ليس إلا امتدادا لفكر ما بعد كولونيالي غير مكتمل التحرر، حيث ما زال الجنوب ينظر إليه بوصفه مساحة للتدخل، لا فاعلا مستقلا.
ويبدو أن الكتاب ينبه القارئ إلى أن ثمة حاجة ملحة إلى فعل معرفي وعملي يسد الفراغ المفهومي الذي نشأ في حيز تشكل في الفراغ الممتد ما بعد الكولونيالية.
وكأنه يلمح إلى تلك الحاجة إلى تصور وممارستين، فكرية وسياسية معا، تتموقع "ما بعد ما بعد الكولونيالية"، لتبدأ من هناك عملية تحرر تسودها مصطلحات تحررية متأصلة في تربة الجنوب، فبنظره، هذه مفاهيم ستقود إلى انعطافة متأصلة بخصوص مرحلة ما بعد الاستعمار، ويتعين أن تكون بمفاهيم مولدة من رحم المجال التداولي للجنوب.
ولعل ما يلفت الانتباه كثيرا أيضا أن نرى الكتاب يقف عند مفارقة مثيرة، يقلب النظر فيها ويفحصها، ليُنتج في أعقابها وعيا بأن إدماج بعض القوى الكبرى، كروسيا والصين، ضمن "الجنوب" في بعض الأطروحات، يظل فعلا يطوي حقائق لا ترى للكثيرين.
وهنا، يعيد الكاتب تموضع المفاهيم وترتيبها وفق ذلك الوعي الخفي، ليؤكد أن "الجنوب" ليس مجرد موقع على خريطة، بل هو موقع ضمن ميزان القوى العالمي. فالصين وروسيا، رغم قربهما النسبي من قضايا الجنوب، تبقيان قوتين فاعلتين ومستقلتين عنه، تتحركان بمنطق مصالحهما، لا بمنطق تكتل جنوبي تحرري.
إن من أهم دعوات الكتاب تلك التي توجه إلى الجامعات والمؤسسات الفكرية في دول الجنوب للنهوض بدورها في إنتاج المعرفة الجيوسياسية. فما دام بقي الجنوب يستهلك ما ينتجه المركز الغربي من نظريات وتصورات، فلن يستطيع أن يبني تصوره الخاص عن ذاته وعن العالم.
وهو بذلك يلقي حبل المسؤولية على الجامعات في مشروع التحرر، وينبه إلى دورها العظيم في عملية التحرر هذه، ويستنهض هممها لتحرير نفسها من العطالة الإنتاجية التي تغرق فيها. إذ لا يمكن تحقيق قفزة حضارية من دون امتلاك رؤية جيوسياسية مستقلة ترسخها مثل هذه المؤسسات، وتأخذ بعين الاعتبار التاريخ والهوية، كما الحاضر والمستقبل.
إعلانولا يدعو الكتاب إلى قطيعة ثقافية، بل يحث على الاستفادة من الثقافة الغربية وثقافات الصين، ولكن دون التحول إلى رهينة للتصورات التي لا تناسب الجنوب، والتي تكون أحيانا ذات حمولة سلبية لأمم الجنوب عند تبنيها وتطبيقها في شتى المجالات.
ومن هنا، يقول الكتاب، تبرز أهمية عناصر مثل الإعلام، والذاكرة التاريخية، والسيادة الصناعية، والطاقات النووية السلمية، والذكاء الاصطناعي، فجميعها أدوات أساسية ضمن مشروع الاستقلال الجيوسياسي الذي يدعو إليه.
ويستحضر تجارب دول متعددة، مثل الصناعة الحربية في تركيا، والإنتاج الإعلامي لقطر ممثلا في الجزيرة، والمشروع النووي لباكستان وإيران، والتوجه الأفريقي للمغرب بدل الرهان الدائم على علاقاته الغربية، وبالأساس أوروبا، وبلورة الجزائر لمفهوم الذاكرة التاريخية لمحاسبة فرنسا عن حقبة الاستعمار.
وارتباطا بالنقطة الأخيرة، يعمد الكاتب إلى ربط الماضي بالحاضر، ويعتبر في الفصل المعنون بـ"حرب الذاكرة التاريخية" أنه مقابل افتخار الغرب بحمل رسالة حضارية للشعوب عبر عملية الاستعمار، وهو تزيين للاستعمار، على الجنوب بلورة خطاب موحد يطالب بالتعويض المادي عن العقود الطويلة من نهب ثروات أمم الجنوب وقتل شعوبها.
ويربط هذا بضرورة أن يكون استخلاص هذا التعويض عبر وقف سداد جزء كبير من الديون التي يعاني منها الجنوب، والتي تحولت إلى استعمار جديد غير مباشر.
ومن ضمن الفصول الثاقبة في الكتاب، يبرز فصلا "الطاقة النووية" و"صناعة السلاح". ويوضح في الأول كيف أن للغرب عقيدة جيوسياسية تتمثل في منع أمم الجنوب من امتلاك مشاريع نووية، حتى لو كانت سلمية أو موجهة نحو تحلية المياه. ويرى المؤلف أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تمثل أداة في يد الغرب شبيهة بـ"سيف ديموقليس"، لا تهدف إلى تنظيم الاستخدام السلمي للطاقة النووية بقدر ما تسخر لمنع دول الجنوب، خصوصا تلك المنتمية إلى ثقافات مغايرة كالدول العربية والإسلامية، من امتلاك هذه التكنولوجيا.
ويبرز وجود قلق غربي واضح إزاء تطور صناعات حربية متقدمة في بعض دول الجنوب مثل تركيا وإيران وباكستان. وفي هذا السياق، يشير إلى أن الحرب الروسية-الأوكرانية أصبحت حقل اختبار لهذا النوع من الأسلحة، إذ تستخدم روسيا مسيرات إيرانية، بينما تعتمد أوكرانيا على الطائرات المسيرة والقنابل التركية.
ويؤكد أن الغرب يسعى إلى فرض نوع من "الفيتو" على أي محاولة من الجنوب لتطوير صناعات عسكرية أو امتلاك الطاقة النووية، معتبرا هذه الممارسات تعبيرا صارخا عن صراع حضاري يريد من خلاله الغرب الحفاظ على تفوقه الدائم، لا سيما تجاه العالم الإسلامي.
ويمضي الكتاب موضحا كيف أن الغرب مستعد لشن الحروب ضد الجنوب إذا تطلبت الضرورة ذلك، حيث يعتبر ذلك خطا أحمر لا يتعين تجاوزه. ويقرر الكتاب في خضم معالجاته أن الغرب لن يسمح بتكرار حالة باكستان وقنبلتها النووية التي شكلت الاستثناء في زمن "الغفلة الجيوسياسية".
وما طرحه الدكتور حسين مجدوبي من معاقبة الغرب لكل دولة من الجنوب تريد امتلاك المشروع النووي، نعيش فصله الآن من خلال الحرب التي أعلنها الغرب وإسرائيل ضد المشروع النووي الإيراني، ويمتد إلى محاولة التحكم في صناعة الصواريخ حتى لا تكون هناك دولة قادرة على المشاركة في صنع الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
بعد كتابه "المغرب في الفكر الإسباني"، الصادر منذ سنتين، الذي حلل فيه العلاقة بين بلدين ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين وكيف يشكلان ويبلوران التصورات المتبادلة إلى مستوى الصدام التاريخي، يصير كتاب المؤلف الجديد "جيوبوليتيك: رؤية من الجنوب" ليس مجرد تحليل، بل هو خارطة تفكير جديدة، ومحاولة جادة لرسم معالم مشروع حضاري يعيد الاعتبار إلى الجنوب كقوة كامنة، لا كفضاء مهمل. هو صوت من داخل الجنوب، يخاطب أهله أولا، ويقول: لا نطلب الاعتراف، بل نبني أنفسنا. لا ننتظر التزكية، بل نقرر مصيرنا.
إعلان أكاديمي وباحث بجامعتي إشبيلية وقادشالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فكر دول الجنوب أمم الجنوب من الجنوب أن الغرب ما بعد
إقرأ أيضاً:
في دورته العشرين.. مكتبة الإسكندرية تعلن عن انطلاق معرض الكتاب الدولي
موعد انطلاق معرض الكتاب
تستعد مكتبة الإسكندرية لإطلاق الدورة العشرين من معرضها الدولي للكتاب، في الفترة من الإثنين 7 يوليو الجاري، وحتى الإثنين 21 يوليو، وتقام الدورة العشرين بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، واتحاد الناشرين المصريين والعرب، ويأتي المعرض هذا العام تحت رعاية QNB bebasata.
وأعلن الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، أن شخصية المعرض لهذا العام وزير الخارجية المغربي السابق والمفكر الكبير محمد بن عيسى، أحد أعضاء مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية السابقين، والذي رحل عن دنيانا في مارس 2025.
كما صرَّح أن المكتبة تحرص عند تنظيم المعرض على تواجد أقوى دور النشر في مصر والوطن العربي، كما تحرص كذلك على توفر أحدث الإصدارات داخل أروقة المعرض.
المشاركين بالمعرض في دورته الـ 20
وأضاف أن معرض هذا العام يشارك فيه نحو 78 دار نشر مصرية وعربية، وقد تم تخصيص جناحًا للطفل يضم أكتر من 15 دور نشر متخصصة في طبع ونشر كتب الأطفال، كما تم تخصيص جناح للكتب القديمة والنادرة والخاص بسور الأزبكية.
ويُقام على هامش المعرض برنامج ثقافي يقدم وجبة ثقافية مميزة للجمهور، والذي يشتمل على مجموعة كبيرة من الفعاليات تتجاوز 215 فعالية ثقافية يتحدث فيها ما يقارب من 800 متحدث ومحاضر، ويُشارك فيه بالتوازي مع مقر المكتبة الرئيسي بالإسكندرية كل من: بيت السناري بحي السيدة زينب، وقصر خديجة بحلوان.
ويتضمن برنامج هذا العام على عدد من المؤتمرات والندوات وورش العمل، كما تتنوع محاوره وتشمل محاور اجتماعية لدعم الشباب والمرأة والطفل، ومحاور ثقافية تتناول موضوعات تراثية وشعرية وأدبية وتكنولوجية ونفسية ورياضية.
هذا وقد أكد أحمد زايد أن المكتبة حريصة على تواجد مبدعي الإسكندرية في برنامجها الثقافي بشكل مكثف، بما لهم من تواجد رائع على الساحة الإبداعية المصرية والعربية. ويقدم البرنامج الثقافي ورش عمل للتدريب على فنون السرد بمختلف أنواعه، ويقدم كذلك عروضًا علمية وترفيهية وفلكلورية على ساحة بلازا مكتبة الإسكندرية.
جوائز معرض الكتاب
وجدير بالذكر أن المعرض يشهد هذا العام توزيع جوائز مسابقة القراءة الكبرى التي أطلقتها مكتبة الإسكندرية، وتقام احتفالية توزيع الجوائز عصر يوم الخميس 17 يوليو بالقاعة الكبرى بمركز مؤتمرات المكتبة وسط حضور عدد من الكتاب والمفكرين والمثقفين.
أصدارات المكتبة هذا العاموتشارك المكتبة هذا العام بمجموعة من الإصدارات المتنوعة والتي يبلغ عددها 33 عنوانًا جديدًا من الكتب، والكتالوجات، والدوريات، والمجلات، والكراسات، وكتيبات سلسلة «تراث الإنسانية للنشء والشباب» التي وصل عددها حتى الآن إلى 80 كتيبًا، بالإضافة إلى رصيد إصداراتها من الـ 1109 عناوين.
أبرز الكتب
ومن أبرز العناوين الجديدة، كتاب "الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة: دراسة سوسيولوجية للتقاطعات الراهنة" الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية، وكتاب "حجر رشيد.. استعادة لغة قدماء المصريين" الصادر عن مركز دراسات الخطوط، والعدد السابع من دورية "علوم المخطوط" الصادرة عن مركز ومتحف المخطوطات، والعدد الثالث من دورية "قبطيات سكندرية" الصادرة عن مركز الدراسات القبطية، وكراسة "السرد المصري في العقد الأول من الألفية الثالثة" الصادرة عن مختبر السرديات، ومجلة "ذاكرة مصر (العدد 56)" الصادرة عن المكتب الفني بمكتب مدير المكتبة.
كما تشارك المكتبة بكتالوج "أحمد عبد الوهاب.. في حرم السكون" الصادر عن إدارة المعارض والمقتنيات الفنية، وكتاب "أعمال ندوة زكي نجيب محمود.. الفيلسوف الأديب" الصادر عن قطاع التواصل الثقافي، وبكتيبا: "حسن فتحي.. مهندس الهوية المعمارية المصرية"، و"رسالة في التسامح.. فولتير" من سلسلة تراث الإنسانية للنشء والشباب.