أهتمُّ كثيرًا بأعمالٍ روائية يكتبها فنانون تشكيليون، فهنا ثمّة حساسية خاصة وزاوية رهيفة، تشبه رهافة ريشتهم وهم يرسمون العالم وأنفسهم والحياة.
محمد الجالوس، فنان تشكيلي فلسطيني شهير يعيش في الأردن، وهو عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، يكتب القصة القصيرة، وله مجموعتان قصصيتان: أصابع مليحة وذاكرة رصيف.
في المشهد التشكيلي الأدبي العالمي، ثمة تجارب سابقة مذهلة لأعمال قصصية وروائية كتبها فنانون تشكيليون، منها تجربة الفنان التشكيلي البولندي برونو شولز، الذي كتب رائعته الروائية السانتور، والفنان والكاتب البريطاني وليم موريس، ومارك شاغال في كتاب سيرته الذاتية، الذي يُشبه عملًا روائيًا شاهقًا.
محمد الجالوس، الفلسطيني الذي عاش طفولته في عمّان بعد تهجيرٍ قسري لعائلته من قرية قزازة قضاء الرملة، دخل مملكة الرواية أخيرًا من الباب الأثير نفسه الذي دخله في روائعه التشكيلية: باب الذاكرة.
في معارضه التوثيقية للمدن الفلسطينية والأردنية، يبدو خياره الإبداعي واضحًا؛ ففي معرض ذاكرة عام 2013، وفي معرض بيوت من نابلس – حارة الياسمينة عام 1998، عرض الفنان أربعين لوحة مائية وجدارية.
كان هدف هذا الخيار حماية المكان الفلسطيني من المحو، المحو الذي تتبنّاه الصهيونية كمشروع حياة لها.
في معرضه بيوت السلط – بيوت القدس، واصل محمد مشروعه التوثيقي الجمالي بحرفيّة عالية، وذكاء واضح، وخبرة متراكمة، وثقافة، وانتماء لفكرة مقدسة هي: مقاومة المحو بالفن.
أما معرضه الشهير والمؤثر أبواب 48 عام 2019، فقد ركّز فيه الجالوس على رسم أبواب البيوت الفلسطينية المهجّرة بعد نكبة عام 1948، مذكّرًا بالفاجعة، وداعيًا إلى عدم النسيان.
محمد معروف في الوسط الثقافي الأردني بأنه قارئ نَهِمٌ للروايات، ومنشغل بتحليلها والنقاش حولها.
روايته طفولة منسية صدرت قبل أسابيع عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في الأردن، وجاءت في 230 صفحة من القطع المتوسط.
في الرواية، ثمة عذاب وحب يغرق فيهما الفنان الكاتب في مراهقته المجنونة؛ عذاب التقرب من فئة جذابة، غامضة، وحرّة، معروفة في الفضاء المكاني الأردني العَمّاني، وهي "النّوَر".
في تاريخنا الأدبي، ثمة هوس بفكرة الحياة مع "النور" (أو الغجر كما يُطلق عليهم)، والتقرّب منهم، ومعرفتهم، والرغبة في التحدث إليهم.
نتذكر الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل (عرار) وهو يكتب عن النور كزمان وكنفسيات ونمط حياة، وهناك في العالم أعمال أدبية شهيرة استلهمت حياة الغجر أو صورتها، مثل رواية كارمن للفرنسي الشهير بروسبير ميريميه، وزُرّاع الشمس لرومان غاري، وغيرها من الأعمال التي طبقت شهرتها الآفاق.
في طفولة ناقصة، يموت الطفل محمد الجالوس فضولًا وجنونًا وحبًا في سحر وغربة حياة أولئك المختلفين، الذين أضاءوا ليل عمّان بحياتهم المشعّة بالترحال والسحر والرقص والليل والحرية والأسرار.
الطفل، ابن مخيم الوحدات في عمّان، المقيم في بيت محدد، مع أهل محددين، بأحلام محددة، والذي يعيش حياة رتيبة متوقعة ومكررة، لا تخرج عن مسارها، وهي حياتنا نحن الأطفال الفلسطينيين: الملعب، ومطعم الوكالة، والنوم، والمدرسة ومشاجراتها، والليل الهادئ القصير، وتعب الآباء، وحلمهم المتوهّج ببلادٍ بعيدةٍ كانت لهم.
فجأة، يفتح الطفل الفلسطيني العَمّاني اللاجئ عينيه على بشرٍ من ضوء، أصوات وأسماء غريبة، جمال أنثوي فخور بذاته لا يُصدّق، كلمات شجاعة تقولها غجرية، حريةُ بوحٍ ورقص مع النار، وخروجٌ من البيوت التي ليست بيوتًا، وعودةٌ بعد أيام، أو لا عودة، ضحك، وتنجيم، وقراءة مستقبل، وجرأة نظرة.
أسماء عديدة لرجال ونساء محفورة في ذاكرة الطفل، يكتب عنها الجالوس بمتعة وحنين: مرشد، فريدة، لَعْوَج، جواهر، أمينة، زوبار، رادا، روجينا، بلاس، مطاوع، وغيرهم... لكلٍّ منهم طريقته الغريبة في التفكير، وتقاطعاته غير المفهومة مع الآخرين، لكنهم يظلون في دائرة "البشر الممتعين الغرباء".
وعلى غلاف الرواية الأخير، يكتب الشاعر زهير أبو شايب:
"إن النّور هنا ليسوا مجموعة مَوْصُومة كما تخيّلها المتن الاجتماعي، بل هم هامش ملتبس، لكنه عصيٌّ على التدجين، ومحصَّن ضد السقوط الأخلاقي، إنهم طفولة ناقصة لا تكتمل، ولا تتنازل لسلطة المجتمع، وانحيازها للعب واللذة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بیوت ا
إقرأ أيضاً:
رحلة جمالية في مدونة شعرية
قبل سنوات بعيدة كنت أتابع صفحة مخصّصة للشعر المترجم المكتوب باللغة الإنجليزيّة، في مجلة (دبي الثقافية)، وللشعر الإنجليزي مكانته الرفيعة بين الآداب العالمية لغناه وتنوّعه، وتأثيره في شعراء الحداثة العربية كالسيّاب، وميزة تلك النصوص المترجمة أنها منتقاة بعناية، ويقوم بترجمتها شاعر له تجربة طويلة وقد تُرجم شعره إلى عشرين لغة هو الدكتور شهاب غانم، وإلى جانب ذلك، له باع طويل في الترجمة وحاصل على أكثر من 30 جائزة وتكريما في مجال الشعر والترجمة والبحث العلمي، منها جائزة طاغور للسلام من الهند عام 2012م، وجائزة جمعية الشعر العالمية عبر القارات للثقافة والإنسانية من الهند 2013م وجائزة شخصية العام الثقافية ضمن جائزة العويس للإبداع من الإمارات 2013م، وجائزة أفضل مترجم لعام 2014م من المركز الدولي لترجمة الشعر والبحوث من الصين.
فكنت أحرص على متابعة تلك الصفحة، وأحيانا أنقل النصوص في دفتر خصّصته لنصوص مختارة، وبعد أن توقّفت مجلّة (دبي الثقافية) عن الصدور، فقدتُ تلك المساحة الجميلة، ولكنّ الدكتور شهاب غانم لم يتوقّف عن ترجمة تلك القصائد للشعراء الإنجليز، وقام أخيرا بجمع النصوص التي ترجمها، وأصدرها في كتاب حمل عنوان (اذهب وتلقَّف نجمةً تسقط) نشرته دارة الشعر العربي بالفجيرة، وضمّ مُختارات شعرية لمائة شاعر وشاعرة يكتبون بالإنجليزية، معظمهم من الذين حصلوا على جوائز عالميّة مثل نوبل أو عُيّنوا برتبة شاعر البلاط وبعضهم من المعاصرين الذين عرفهم المترجم شخصيا «وكثير من القصائد المختارة تحمل طابعا إنسانيا خاصا» كما يقول الدكتور شهاب غانم، وبذلك يضع المعيار الذي جعله يختار النصوص دون سواها، وهكذا اختار لمارجريت كافندش (١٦٢٣ - ١٦٧٣م) قصيدة (لم أُولد أو أنشأ شاعرة) ولجون درایدن (١٦٣٠ - ١٧٠٠م) أغنية من (الإمبراطور الهندي) ولإليزابيث توماس (١٦٧٥ - ١٧٥١م) (الزوجة المهجورة)، وللإسكندر بوب - (١٦٨٨ - ١٧٤٤م) قصيدة عن العزلة، ولوليم بليك (١٧٥٧ - ١٨٢٧م) سر الحب وشجرة السم، ولروبرت برنس (١٧٥٩ - ١٧٩٦م) (وردة حمراء.. حمراء) ولويليام وردزورث (١٧٧٠ -١٨٥٠م) (النرجس الأصفر) و(إن قلبي يثب) ولصامويل تیلر ولردج (١٧۷۲- ١٨٣٤م) مقطعا من قصيدة (أنشودة الملاح العجوز) وللورد بایرون (١٧٨۸ - ١٨٢٤م) قصيدة (عندما افترقنا) ولبرسي بسشي شيلي (۱۷۹۲-۱۸۲۲) قصيدة (فلسفة الحب) ولجون كيتس (١٧٩٥-١٨٢١م) (عندما تنتابني المخاوف) ولهنري وادسورث لونجفيلو (۱۸۰۷-۱۸۸۲م) (مزمور الحياة) ولإدوارد فتز جرالد (۱۸۰۹ - ۱۸۸۳م) من ترجمات رباعيات الخيام واختار الرباعية 51 والرباعية 14 والرباعية 36، ولم يكتفِ بترجمة نصّ واحد لكلّ شاعر، فقد ترجم لوليم شكسبير (١٥٦٤ - ١٦١٦م) عدّة نصوص من بينها: السوناتا 18، والسوناتا 116 ومقطع من مسرحيّة (هاملت) هو مقطع (أن تكون، أو لا تكون) ومن مسرحيّة (يوليوس قيصر) ترجم مقطع (لقد جئت لدفن قيصر لا للثناء عليه) ومن مسرحيّة (كما تحب) ترجم مقطعا اختاره من الفصل الثاني والمشهد السابع (هذا العالم مجرد مسرح)، واختتم ترجماته لشكسبير بنص (غداً.. وغداً.. وغداً) وهو مقطع من المشهد الخامس في الفصل الخامس من مسرحية (ماكبث) عندما يصل خبر موت الملكة لماكبث فيقول:
كان ينبغي أن تموت في وقت لاحق
كان سيأتي زمن مناسب لمثل هذه الكلمة
غداً.. وغداً.. وغداً
تزحف هذه الوتيرة التافهة يوما بعد يوم
حتى آخر مقطع في سجل الزمان
انطفئي، انطفئي، أيتها الشمعة الوجيزة
ليست الحياة سوى ظل يمشي
حكاية يرويها أحمق ملأى بالصخب والعنف
فيما اختار لإليزابيث براوننج (١٨٠٦ - ١٨٦١م) ثلاث قصائد هي: (اقرأ بوجهي) و(إن كان لا بد من حب...) و(كيف أحبك؟ دعني أعدد الطرق) وللشاعر جون دون (١٥۷۲-١٦٣١م) قصيدتان هما: (اذهب وتلقّف نجمة تسقط) التي حمل الكتاب عنوانها وقصيدة (لا يوجد إنسان جزيرة)، إلى جانب نصوص أخرى عديدة مترجمة لشعراء آخرين كبار اختارها المترجم ووضعها بين دفّتي كتاب من (384) صفحة من القطع المتوسط.
وفي بعض النصوص التي قام بترجمتها يمدّ الشاعر المخبوء داخله عنقه فيقوم بترجمتها بشكل موزون، كما رأينا في ترجمته لقصيدة الملكة إليزابيث الأولى (١٥٣٣ - ١٦٠٣م) الموسومة (عندما كنت في الصبا ذاتَ حُسن) إذ ترجمها على شكل رباعيّات:
عندما كنت في الصبا ذاتَ حُسن
وحفيّا كان الزمان بشأني
كم أتتني الرجال تخطب ودّي!
إنّما الازدراء قد كان ردّي
كم عيون فيّاضةٍ بالدموع
وقلوب مسعورة بالولوع
فجاء الكتاب ليكون «رحلة جمالية وجسرا وجدانيا يربط الإنسان بأخيه الإنسان متجاوزا حواجز الجغرافيا والتاريخ واللغة»، كما جاء في كلمة الغلاف الأخير من الكتاب الذي قدّم أنطولوجيا في الشعر المكتوب باللغة الإنجليزية، فما أمتعها وما أجملها من رحلة ربّانها شاعر!