في الروحانية السياسية..كيف عايش فوكو الثورة الإيرانية ؟!
تاريخ النشر: 5th, July 2025 GMT
في صباح الأول من فبراير عام 1979م هبطت طائرة «آير فرانس» في مطار مهرآباد الدولي بطهران تقلّ الرجل السبعينيَّ الذي أنهكته المنافي الطويلة لتصطف الجماهير أمامه لا بصفته قائدًا عائدًا، بل نداءً تاريخيًّا خرج من طيّات الذاكرة ليحضر في قلب اللحظة. إنه الرجل الذي قرّر اختراق جدار الصمت وتحويل الانتظار إلى تمثيل حيث بات الآن هناك من ينوب عن الغائب ويجسّد حضور الإمام، لا كوظيفة دينية فحسب بل سلطة زمانية تعيد ترتيب العلاقة بين المجتمع والدولة.
في مقالته «طهران: الإيمان في مواجهة الشاه»، دوّن فوكو انطباعاته عن العاصمة الإيرانية عقب أحداث «الجمعة السوداء» التي قُتل فيها آلاف المتظاهرين برصاص الجيش، قائلاً إن المدينة لم تبدُ خاضعة بل أشبه بجسدٍ متحفّز. وقد كان واضحًا أن هذا الانضباط الظاهري ألهمه القول إن لا نجاة لهذا القمع أمام هذه الإرادة. فالهتافات التي رافقت الحشود لم تكن مجرد تعبيرات احتجاجية، بل كانت تحمل طابعًا شعائريًا أكثر منه أيديولوجيًا: «الإسلام، الإسلام، خميني، سنتبعك»، بل حتى «خميني ملكًا»؛ وهي عبارات لم تمرّ عليه كصدى لحظي، بل قرأ فيها تحوّلًا من منطق التمثيل السياسي إلى منطق الشرعية الرمزية، حيث تُستبدل صورة الحاكم الزمنية بصورة «القدّيس» الذي لا يُحكم باسمه، بل يُستدعى مرجعًا أخلاقيًا جامعًا. لقد كان الرجل مشغولًا بما يتجاوز السياسة، لذلك عندما كتب مقاله الشهير «عمّاذا يحلم الإيرانيون؟» في مجلة لو نوفيل أوبسرفاتور (16-22 أكتوبر 1978م)، لم يكن يفتش عن تفكيك بنية السلطة، بل كان منصرفًا إلى الإنصات لما لم تُفلح أدوات التحليل السياسي في التقاطه، إذ فاجأه أن تكون اللغة المتداولة في الشارع لا تطلب بوضوح ولا ترفع شعارات أيديولوجية، بل تُفصح عن توقٍ جماعي يتجه نحو أفق غير معرّف بعد.
وحين سُئل عن مفهوم «الروحانية السياسية»، أوضح فوكو أنه لا يعني بها تدينًا مؤسسيًا، بل تلك الإرادة التي تنبع من الداخل وتمنح الجماعة قدرة على مواجهة القمع، ولهذا رأى في الثورة الإيرانية إمكانًا لبعث سؤال الحرية خارج ثنائية الليبرالية والاشتراكية، وتجسيدًا لخطاب روحي لا يستدعي الماضي، بل يفتح ثغرة في جدار الحداثة المغلق. لكن انجذاب فوكو لم يرافقه موقف نقدي واضح من مسار الثورة لاحقًا، ما عرّضه لهجوم واسع، إذ اتّهمه ماكسيم رودنسون بالوقوع في أسر افتتان غيبي بكاريزما الشرق، بينما رأت بعض الناشطات الإيرانيات في صمته تواطؤًا مع بنية ذكورية أقصتهن سريعًا من المشهد، وطرحن عليه سؤالًا حادًّا: كيف لفيلسوف أن يحتفي بثورة تُقصي أضعف من فيها؟ وقد جاء رد فوكو هادئًا لكنه كاشف، إذ قال إن ما استوقفه لم يكن المشروع السياسي، وإنما تلك اللحظة التي استطاعت فيها الروح الجماعية أن تستعيد صوتها خارج المؤسسة. لذلك، فإن الثورة في نظره لم تكن إلا تجربة روحية في قلب السياسة.
إننا حين نستعيد فوكو اليوم فإن دافعنا هو مساءلة انفعاله الفلسفي أمام حدث لم يكتمل في عينيه. فقد قرأ الثورة الإيرانية من موقع مَن افتُتن لكنه لم يذهب بعيدًا بما يكفي في نقد البنية التي حملت هذا المعنى ولم يسمح لنفسه بمساءلة حدود اللحظة التي رآها استثنائية، ونحن إذ نعيد قراءة «فوكو في طهران» اليوم في ظل احتدام الصراع السياسي الراهن لا نستدعيه كشاهد على زمن مضى، بل نراه كشافًا فلسفيًا يرى أن الطقوس حين تُفعّل قد تعيد تنظيم العلاقة بين الجماعة والسيادة. وهكذا فإن الطقوس التي رآها محرّكات للسيادة قد تصبح في غياب النقد والمساءلة أدوات لإدامة الانقياد. لذا فإن العودة إلى فوكو لا تعني الاصطفاف خلف رؤيته، بل اختبارها حيث يتشابك العزاء بالسياسة والطقس بالسلطة والحقيقة بما لم يُقَل، وأيضا مسعانا لربط التحليل بالبنى الاجتماعية من أجل بلوغ رؤية أعمق تتجاوز السطح، وهذا ما يعلمنا محمد عابد الجابري حين يشدد على ضرورة قراءة الحدث داخل شبكة العلاقات، ودون التأثر بالرغبات وذلك لاستخلاص المعرفة من المعرفة ذاتها.
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثورة الإیرانیة لم تکن
إقرأ أيضاً:
«عودة الأسطورة: عبد الباسط حمودة يشعل الموسم بأغنية جديدة ويستعيد ذكريات نقلة حياته»
يعود صوت الشارع المصري وأحد أبرز رموز الغناء الشعبي، الفنان عبد الباسط حمودة، إلى الساحة بعمل جديد يستعد لطرحه خلال الأسبوع المقبل، ليضيف حلقة جديدة إلى سلسلة أغنياته التي حجزت له مكانًا ثابتًا في قلوب الجمهور. ويحمل العمل المرتقب عنوان «مش عاوز حاجة يا دنيا»، وهو اسم يعكس روح عبد الباسط وميله الدائم للتعبير عن البساطة والرضا في أغانيه.
ولم تكن هذه هي الإطلالة الوحيدة لعبد الباسط حمودة في الفترة الأخيرة؛ إذ استعاد المطرب الشعبي عددًا من أبرز محطات مشواره الفني خلال لقاء تليفزيوني سابق، حيث تحدّث بشفافية عن بداياته، وعلاقته بعدد من النجوم الذين أثّروا في رحلته الفنية.
ومن القصص التي لا يزال الجمهور يرددها، تلك التي جمعته بالنجم نور الشريف، والذي كان له دور محوري في منحه فرصة حقيقية للظهور أمام الكاميرا. وروى عبد الباسط تفاصيل تلك اللحظة قائلًا إنه كان يشارك في أحد الإعلانات عندما لفت نظر نور الشريف، الذي أشار إليه قائلًا: «أنا عاوز الولد ده». كانت تلك الجملة، كما يصفها عبد الباسط، المفتاح الأول لباب الشهرة.
ويحكي أيضًا أنه ظهر في فيلم «أرزاق يا دنيا» عندما أُسند إليه مشهد طريف يتطلب منه سرقة جهاز تسجيل من داخل سيارة، تنفيذًا لتوجيهات نور الشريف الذي كان يشرف على العمل في تلك اللحظة. وبعد نجاحه في أداء الدور، أبلغه نور الشريف بأن دوره لن يتوقف عند هذا الحد، وأنه سيستمر معهم في الفيلم، ليظهر لاحقًا في عمل ضمّ نجمات بحجم يسرا وشويكار، وهي اللحظة التي يعتبرها عبد الباسط «النقلة الحقيقية» في مسيرته الفنية.