بدر بن خميس الظفري

 

تعرفتُ لأول مرة على مصطلح (Near Death Experience) وتعني "تجربة الاقتراب من الموت" وتختصر ( (NDE، من الزميل سليمان البُحري، محرر ومذيع الأخبار الإنجليزية في الإذاعة، حين أرسل لي رابطًا لمقطع على منصة يوتيوب ترجمة عنوانه: "ملحدة ماتت ووجدت حياة بعد الموت".

كان العنوان مثيرا جدا، وشغل بالي منذ ذلك الحين، فشاهدت المقطع، الذي كان بمثابة باب انفتح على عالم غريب، يقف على تخوم الحياة والموت، ويتأرجح بين العلم والروح، وبين المعلوم والمجهول.

تسرد نانسي راينز، بطلة هذا المقطع، كيف غادرت روحها جسدها إثر حادث سير مروّع، لترى المشهد من مكان عالٍ، قبل أن تنجذب، كما تصفُ، إلى فضاء مشرق بالنور والطمأنينة، وتستقبلها كائنات من نور، تُشع حبًا وسكينة. هناك، عُرضَ شريط حياتها أمام عينيها لحظة بلحظة، وكأنها على موعد مع حساب ذاتي صامت. نانسي كانت ملحدة لم تؤمن بأي معتقد، لكنها عادت من تلك التجربة تحمل في روحها نورًا جديدًا، ويقينًا لم تألفه من قبل.

في البداية، قد تبدو هذه التجربة استثناءً غريبًا، أو حكاية عابرة من حكايات ما وراء الطبيعة، لكنّ التأمل في آلاف الحالات الموثقة التي تشبه هذه التجربة، يكشف عن بنية مكرّرة وعناصر تتكرر بتشابه مدهش، فهناك شعور بالخروج من الجسد، والمرور عبر نفق مظلم، ورؤية ضوء ساطع، ولقاء كائنات نورانية، ومراجعة للحياة الماضية، وشعور بالسلام والطمأنينة، ثم العودة إلى الجسد. وتتكرر هذه التجربة لدى أشخاص من خلفيات دينية وثقافية وعرقية متباينة، بل حتى لدى الأطفال أو أشخاص لا يؤمنون بأي معتقد روحي. فهل هي مجرد هلوسة عصبية؟ أم أننا أمام ظاهرة تتحدى الفهم التقليدي للوعي والموت؟

من أبرز من درسوا هذه الظاهرة العالم الأمريكي الدكتور ريموند مودي، الذي صاغ مصطلح "تجربة الاقتراب من الموت" (NDE) في سبعينيات القرن العشرين. في كتابه الشهير "الحياة بعد الحياة" الصادر عام 1975، جمع مودي شهادات لأشخاص مرّوا بتجربة الموت السريري، ورصد نمطًا متكررًا من التجارب، دون أن يحاول تأطيرها ضمن منظومة دينية أو علمية قاطعة، وكانت ملاحظاته الأولى دعوة للعلماء إلى أخذ هذه التجارب على محمل الجد، بوصفها ظواهر نفسية وروحية متكررة تستحق التأمل، وليست خرافات أو هلوسات.

لاحقًا، جاء الباحث الأمريكي الدكتور بروس غرايسون، أستاذ الطب النفسي في جامعة فيرجينيا، ليمنح هذا المجال بعدًا علميًا أكثر دقة، فوضع عام 1983 ما يُعرف بـ"مقياس غرايسون لتجربة الاقتراب من الموت"، لقياس عمق وخصائص هذه التجارب. وقد لاحظ أن كثيرًا من الحالات التي درسها حدثت أثناء توقف النشاط الكهربائي للدماغ، ما يعني أن الدماغ كان في حالة عجز تام عن توليد الوعي حسب الفهم الطبي التقليدي. ورغم ذلك، تحدث المرضى، بعد نجاتهم من الموت، عن تجارب واعية واضحة، بل غنية بالمشاعر والمعاني، وأحيانًا تزامنت أقوالهم مع وقائع حدثت أثناء غيبوبتهم.

حاولت بعض النظريات العصبية تفسير هذه الظاهرة بفرضيات كنقص الأوكسجين، أو إفرازات غير طبيعية من الغدة الصنوبرية التي تفرز مركب (ثنائي ميثيل تريبتامين)، وهو مركب مهلوس يُعتقد أنه مسؤول عن رؤى مشابهة. لكن كثيرًا من التجارب حصلت في ظروف لم تشهد نقصًا في الأوكسجين، أو في حالات خضع أصحابها لمراقبة صارمة لم تُظهر مؤشرات فيزيولوجية تؤيد هذه التفسيرات.

بل إن هذه التجارب، في بعض وجوهها، تتجاوز ما يمكن أن تسببه مادة كيميائية. كيف نفسّر أن شخصًا أميًّا يرى نفسه يقرأ كتابًا؟ أو أن طفلًا في الخامسة يصف مشهد غرفة العمليات بدقة لا يمكن أن يعرفها؟ بل الأهم من كل هذا، لماذا تؤدي هذه التجارب إلى تغييرات جذرية طويلة المدى في سلوك الأفراد وقيمهم ونظرتهم للحياة والموت؟

هنا تبرز الأسئلة الفلسفية الكبرى. هل الوعي مجرّد إفراز من الدماغ، كما يرى الماديون؟ أم أن العقل كيان مستقل، يتصل بالجسد حينًا وينفصل عنه حينًا، كما ذهب الفيلسوف رينيه ديكارت في نظريته الثنائية؟ في ضوء هذه التجارب، باتت نظرية ديكارت تستعيد شيئًا من بريقها. ويذهب بعض الفلاسفة المعاصرين إلى ما هو أبعد من ذلك، مقترحين أن الدماغ ليس منتِجًا للوعي، بل مُرسِلًا أو مستقبلًا له، كما تستقبل الإذاعة البث من الخارج دون أن تنتجه.

أما على الصعيد الروحي، فتتقاطع هذه التجارب بشكل مدهش مع ما ورد في الأدبيات الصوفية. تحدّث ابن عربي، الفيلسوف والمتصوف الأندلسي المعروف بـ"الشيخ الأكبر"، عن "الفناء في النور"، حيث يفقد الإنسان شعوره بالذات ويندمج في نور الحق. وكتب السهروردي، مؤسس فلسفة الإشراق وصاحب الرؤى الرمزية حول عوالم النور، عن "العروج إلى العوالم النورانية"، وهي حالات تأملية يشهد فيها السالك مشاهد غير مادية تُكشف له بالبصيرة. وذكر الجنيد البغدادي، أحد أوائل منظّري التصوف في بغداد، حالات من الانفصال عن الجسد والعودة إليه، كأنها سفرات روحية مؤقتة يعيشها القلب في غيبته عن الدنيا. ورغم اختلاف اللغة والتأويل، إلا أن الجوهر يبدو مشتركًا، وهو أن الإنسان، في لحظة صفاء أو موت أو غياب، يعبر حدود الحس ويتصل بعالم أرحب، يتجاوز المادة، ويوقظ فيه معنى أسمى للوجود.

ومن اللافت أن هذه التجارب لا تقتصر على مؤمنين أو متدينين، بل يخوضها كثير من الملحدين أو اللادينيين، ويعودون منها وقد تبدلت نظرتهم للحياة والوجود والمصير. إنها تجارب شخصية شديدة الخصوصية، لكنها تتقاطع على نحو مدهش مع تجارب الآخرين، وكأنها لغة كونية عابرة للأديان والثقافات.

ورغم أن العلم لم يقدّم حتى الآن تفسيرًا حاسمًا لهذه الظاهرة، فإن حجم الشهادات، واتساقها، وتأثيرها العميق في الأفراد، يجعل من الصعب تجاهلها أو تسفيهها. هي دعوة لإعادة التفكير في حدود العلم، وفي طبيعة الوعي، وفي معنى الموت، وربما أيضًا في سرّ الحياة.

إن العودة من عتبة الموت هي شهادة وجودية على أن الإنسان كيان أعمق مما نظن، وأن لحظة "النهاية" قد تكون بداية نوع آخر من الإدراك، لا ندرك كنهه تمامًا، لكنه يوقظ فينا السؤال الكبير: هل نموت حقًّا؟ أم نولد من جديد على نحو لا نتصوره؟

 

 

 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: هذه التجارب من الموت

إقرأ أيضاً:

شاومي تفتح باب التجربة المبكرة لنظاراتها الذكية.. اكتشف ما لا تعرفه

أعلنت شركة شاومي عن فتح باب التسجيل لاختبار النسخة التجريبية الجديدة من نظاراتها الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وذلك ضمن برنامجها التجريبي الجديد "تجربة الرواد" الذي سيبدأ في 11 ديسمبر. 

وستقوم الشركة بتوظيف 200 مستخدم لاختبار الميزات الجديدة والتحديثات البرمجية قبل إصدار النسخة العامة من Xiaomi AI Glasses، وفقا لما ذكره موقع “gizmochina”.

شاومي تطور مساعد ذكاء اصطناعي جديد باسم Mi Chatصورة مسربة تكشف عن تصميم كاميرا مذهل.. عملاق شاومي Xiaomi 17 Ultra يقلب الموازينأبرز الميزات في النسخة التجريبية

تتضمن النسخة التجريبية الجديدة ميزة دفع رسوم مواقف السيارات عبر الأوامر الصوتية، بعد تفعيل الميزة وربط رقم لوحة السيارة، يمكن للمستخدمين قول "شياو آي، دفع رسوم الموقف" لتنفيذ الدفع مباشرة. 

تتيح هذه الميزة للسائقين دفع الرسوم قبل الوصول إلى بوابة الخروج، مما يسرع من عملية المغادرة.

كما أضافت شاومي خيارا لتعطيل ضوء المؤشر الداخلي أثناء الشحن، بالإضافة إلى تحسينات في الاستقرار العام للنظام.

نظارات شاومي الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعيمواصفات نظارات شاومي الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي

تم تقديم نظارات شاومي الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي لأول مرة في يونيو بسعر يبدأ من 1999 يوان.

وتزن النظارات 40 جراما وتدعم العدسات الطبية، كما تأتي بتصاميم متعددة للإطارات. 

تشمل النظارات كاميرا بدقة 12 ميجابكسل للتصوير والتسجيل الفيديوي، مع دعم للمكالمات الفيديو والبث المباشر عبر التطبيقات الخارجية. 

كما تحتوي على مكبرات صوتية مفتوحة الأذن ونظام ميكروفونات مكون من خمسة ميكروفونات لالتقاط الصوت.

تم تصميم المنتج ليكون جهازا محمولا ذكيا مع مساعد ذكي في الوقت الفعلي، يدعم الترجمة عبر 10 لغات، والوصول إلى الموسوعة على الجهاز، والتحكم الذكي في هواتف شاومي وأجهزة المنزل الذكي. 

كما يمكن للمستخدمين تفعيل الأوامر الصوتية، تعيين التذكيرات، أو التحكم في الأجهزة دون الحاجة إلى استخدام الهاتف.

المزيد من الميزات

- تسجيل فيديو بدقة 2K مع تثبيت EIS بمعدل 30 إطارا في الثانية.

- التحكم السريع: التقاط الصور بسرعة 0.8 ثانية.

- الاندماج مع هواتف شاومي: التبديل السلس بين الكاميرات أثناء المكالمات أو البث المباشر.

- دعم 14 تطبيقا رئيسيا.

- العدسات الإلكتروكرومية التي تغير درجة التظليل في 0.2 ثانية مع أربعة مراحل قابلة للتعديل.

الأداء والبطارية

تستخدم النظارات شريحة Qualcomm AR1 مع معالج صوت منخفض الطاقة، مما يوفر وقت انتظار يصل إلى 21 ساعة واستخداما عاديا لمدة 8.6 ساعة، كما تدعم النظارات الشحن عبر منفذ Type-C وتتضمن تحكمات مخصصة بالكاميرا والشاشة.

طباعة شارك شاومي نظارات شاومي الذكية مواصفات نظارات شاومي Xiaomi AI Glasses

مقالات مشابهة

  • شاومي تفتح باب التجربة المبكرة لنظاراتها الذكية.. اكتشف ما لا تعرفه
  • ﻏﺰة.. ﺗﻮاﺟﻪ الموت ﺑﺮداً
  • الصعيد وطرق الموت
  • منتخب مصر مواليد 2009 يتعادل مع إنبي 2007 في ثاني التجارب الودية
  • رسالة إلى العالم الآخر
  • الجامعة الأمريكية تكرم مي حجي لحصولها على دبلومة الإعلام الرقمي
  • دور الأوقاف في تمكين ريادة الأعمال
  • صحة غزة: 100 ألف طفل دون الخامسة يواجهون خطر الموت بردا
  • مقارنة بالنماذج الصينية.. شات جي بي تي يفشل في بناء المواقع
  • اتفاقية حظر التجارب النووية والشرق الأوسط