لجريدة عمان:
2025-07-12@06:01:48 GMT

الموالح إسكوير

تاريخ النشر: 8th, July 2025 GMT

عتبتان...

"كلما اقتنيت شيئًا، شيءٌ ماديّ كبيت أو أرض، يصبح عبئًا عليك، يُقيدك. الحرية هي ألا تملك شيئًا". - نيكوس كازانتزاكيس.

"لِلْبَيْتِ رائحةُ البُكَاءِ وطَعْمُ الزَّنجَبِيلِ...

هو مَأوَاي ومَلجَئِي من ثَلْجِ العُمْرِ،

وتَراكُمِ الذِّكْرَى كَالزَّيتِ على جدرانِهِ المُشَقَّقَة". ميسون صقر القاسمي

___

إلى العزيزتين: عزيزة الحبسي ومنى حبراس.

.

لم يكن انتقالي للسكن في الموالح قرارًا حرًا، فرضت عليّ الظروف العائلية ذلك، بعد أن كنت قد تدرجت في السكن ما بين مدينة السلطان قابوس والخوير، خلال سنوات عملي في مسقط. ثم جاء التحول، أو لنقل "الإكراه الجميل"، بأن يكون للمرء بيت يُقيم فيه لا كعابر سبيل، بل كغارس وتدٍ في الأرض.

الموالح الجنوبية، حين استقررتُ فيها، بدت حيًّا هادئًا مليئًا بالبيوت ذات الطابقين. ومع الزمن، بدأت أتعرف على تفاصيلها، خاصة حين أنشأت البلدية حديقة صغيرة، تتوسطها شجرة كبيرة، يستظل بظلها الناس والحيوانات والمركبات الصغيرة. يلعب الأطفال هناك، يضحكون، ويتأرجحون بعد عودتهم من المدارس. أكثر ما كان يُبهجني مساءً، هو مشهد الفتيات الصغيرات، برفقة عاملات المنازل؛ يركضن تارة، ويتبادلن الضحك والقصص تارة أخرى. مشهد بسيط، لكنه كان يمنحني شعورًا بالطمأنينة.

غير أن هذا المشهد نفسه، ذات مساء، تحول إلى غصة.

كنت عائدة من الممشى البعيد، حين لمحت رجلاً غريبًا، ضخم الجسد، يدور حول الحديقة. فتاة صغيرة، لم تتجاوز الثامنة، تلعب بدراجتها، ضفائرها تتطاير وهي تغني وتضحك، تارة تنزل لالتقاط شيء من الأرض، وتارة ترفع رجليها لتدع الدراجة تنطلق وحدها.

وقفت أراقب المشهد، أين أهل الفتاة؟ أين العاملة التي ترافقها عادة؟ لماذا تلعب وحدها؟ القلق جفف الدم في عروقي. الرجل لاحظ وجودي، فابتعد في صمت، اقتربتُ من الفتاة، وسألتها عن بيتها، أشارت بإصبعها نحو جهة معينة، قلت لها بهدوء: لا تلعبي وحدك، عودي إلى بيتكم.

وحين بدأت تتحرك، خرجت العاملة من أحد البيوت وهي تناديها، ثم أسرعت إليها، وسحبتها مع دراجتها إلى الداخل. ظلّ هذا المشهد يلاحقني، لا بوصفه خطرًا تُفُودِيا، بل كعلامة من علامات القلق الذي صار يسكن المدن والأحياء.

كنت دائمًا أميل إلى حياة الشقق، أحب قربها من العمل، وسهولة الوصول إلى البحر، إلى المجمعات التجارية، إلى الأنشطة الثقافية. التنقل بين مدينة السلطان قابوس والخوير منحني امتيازات عديدة، وجعلني جزءًا من نبض المدينة. ما لم أحبّه كان شيئًا بسيطًا: لا مكان أظلل فيه سيارتي "إيزيس" من شمس الصيف.

لكن البيت... البيت سردية أخرى.

البيت فكرة مدهشة في ظاهرها، أن يكون لك جدارك، وحديقتك، وسقفك المستقل. بدا الأمر مغريًا حتى في اختيار نوع أضواء بيتك الخارجية. الاستقرار في بيت له طابع أصيل، وله نوافذه وشرفته وأبوابه وأقفالها الخاصة، كما له مطبخه وطاولة الطعام التي يرتاح إليها قلبك وذوقك، كلها بدت فكرة تلامس الحلم، أو كما قال الشاعر محمود درويش: -

"البيتُ هو المكانُ الذي نُحبُّهُ وَيُحبُّنا،

حين لا نكونُ فيه، يشتاقُ إلينا، وحين نعودُ، يحتضنُنا كأنّه كان يتنفّسُ بنا".

لكن البيت أيضًا مصيدة فاخرة، يُغري بالاستقرار والهدوء والانعزال والثبات، ثم يُغرقك ويُحاصرك في رتابة الروتين الثقيل، وفي مشاعر اغتراب غير متوقعة، كأنك تدخل فخًّا يُغلق عليك أسئلتك الصغيرة والكبيرة بلطف كبير.

صحيح أن وجود بيت عزز من انتظامي، من قراءاتي، من كتابتي، وربما أنضج رؤيتي للأيام. لكنه في الوقت نفسه قَسّم داخلي إلى نصفين:

نصف ما زال يشتاق إلى حياة الشقة وزحمة المدينة، ونصف يتمسك بقيمة البيت كمرساة، كمساحة أمان وهدوء.

لكن ما يُخدش في جمال هذه الفكرة هو واقع المربع التجاري القريب.

ما بدأ كحيّ سكني بسيط ظاهرهُ السكينة، تحوّل إلى كتلة متشابكة من المحلات والمرافق والضوضاء. تلطمك عناوين الشوارع البرّاقة، المعطاءة المزدهرة، وتخنق أنفاسك ازدحام المركبات الصغيرة مع الكبيرة، وأنتَ تحاول التوجّه إلى المربع التجاري.

محلات حلاقة، مساجد، دكاكين كهرباء وسباكة وتصليح دراجات وثلاجات وغسالات ومكيفات، تنور يدوي يتبادل العجن فيه عاملان، مخبز آلي ينظر العامل فيه بصلف إلى الزبائن الذين يُصرون على طلب مخبوزاتهم من داخل سياراتهم، مطاعم تقدم "الكيما والدال والباروتا"، ومكتبات قرطاسية، ومكاتب للسفريات وبيع الهواتف، وسكك داخلية لبيع الدخان المهرّب، وثم مقهى حديث يعلن عن "الشاي البارد والقهوة الضبابية"! في العصرية من كل يوم، ينتشر العمال الوافدون على الأرصفة، يتأملون أن تقف أي سيارة تحتاج إلى عامل لإصلاح عُطل ما في البيت.

ليس هذا تخطيطًا مدروسًا، بل هو خليط عشوائي يعكس غياب أي تخطيط حقيقي. ما المنطق البيئي في هذا التوسع؟ ما الرؤية في هذا التنظيم؟ كل شيء يُضاف بلا خريطة، وكأن الحيّ يرسم نفسه في عتمة.

ازدادت هذه الفوضى بعد أزمة كورونا، حين بدأ السكان يؤجرون بيوتهم، فتوسعت دائرة الأيدي العاملة الوافدة، لا في التجارة فقط، بل في تفاصيل الحياة اليومية، وظهرت أشكال جديدة من التجارة والسلوك. كان المشهد يقتصر سابقًا على الأيدي العاملة الآسيوية، لكنه الآن أكثر تنوعًا، وأقل انسجامًا. تتغير الوجوه، تتداخل اللغات، وتختلط الأصوات، بدأت الموالح تفقد هُويتها السكنية لصالح صورة مزدوجة: نصفها بيوت كبيرة يُعلق عليها أصحابها إعلانا للبيع أو للإيجار، ونصفها فنادق وشقق فندقية، أو مستودعات، أو نُزل للعمال. وكأن المكان يعيد تعريف نفسه باستمرار، دون أن يسأل أحد عن رأي سكانه.

الموالح إسكوير، ليست مجرد موقع جغرافي، هي مفارقة.

مكان ظاهره السكينة، لكن في قلبه أسئلة حادة عن العيش، والانتماء، والتخطيط، وحق الإنسان في بيت لا يُحاصَر بالفوضى، ولا يُطارد بالقلق. البيت يعطينا الشعور بالأمان، لكنه لا يَحمينا دائمًا من قلق التفاصيل: من رجل غريب في الحديقة، أو من ضجيج السوق العشوائي، أو من تحولات الحي التي لا نتحكم بها.

أنا بين بيت أحببته، وشقة ما زلت أحنّ إليها.

بين مشهد الطفلة بدراجتها، والناس الغرباء القادمين من الخارج أو الهاربين من المحافظات، أو الباحثين عن العمل. بين نخلة زرعتها باسم جدتي "عروس" -رحمها الله وغفر لها وأسكنها فسيح جناته- وشجرة "أناناس" أهداني إياها المُنذر ابن أخي، ومخبز آلي صغير أخذت أذرعه تتمدد إلى مساحات أخرى، أغرقت الموالح الجنوبية في عناوين لافتات مُربكة.

الموالح، مثل كثير من الأحياء في مدننا، ليست مجرد حيّ، بل مرآة لعلاقاتنا: متشابكة، متداخلة، معقدة، متعبة، لكنها رغم كل شيء... حياتنا، ومربع سوقها التجاري، ليست مجرد مكان، إنه صورة مُصغّرة من مفارقات حداثة غير حديثة تماما، حيث تُعرض بضائع لذوي الدخل المحدود، بقيمة ريال أو مائتي بيسة، إلى سيارات نقل لعمانيين يبيعون التمور والسمك حسب المواسم، أو مول كبير يتحول إلى سؤال مفتوح نحو الحاضر.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

هل تبدأ شراكة جديدة؟ قراءة في رسالة البيت الأبيض إلى العراق

بقلم : الحقوقية انوار داود الخفاجي ..

في خطوة لافتة، وجّه البيت الأبيض رسالة رسمية إلى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بتاريخ ٩تموز ٢٠٢٥، عبّر فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رغبة الولايات المتحدة بإعادة ترتيب العلاقة التجارية مع العراق، ولكن وفق شروط جديدة أكثر توازناً وإنصافاً. تحمل هذه الرسالة أبعاداً اقتصادية وسياسية قد تكون حاسمة لمستقبل العلاقة بين البلدين، كما تفتح آفاقاً جديدة للعراق في حال تم استثمار محتواها بحكمة ودبلوماسية.
تشير الرسالة إلى نية الولايات المتحدة فرض تعرفة جمركية بنسبة ٣٠% على جميع الصادرات العراقية ابتداءً من الأول من آب ٢٠٢٥ ، بسبب ما وصفه ترامب بـعجز تجاري كبير ناجم عن سياسات ورسوم العراق الكمركية وغير الكمركية. إلا أن الرسالة تحمل في طياتها فرصة، إذ تعِد بإعفاء كامل من الرسوم في حال قررت الشركات العراقية الإنتاج داخل الأراضي الأمريكية، وهو ما قد يفتح باباً أمام الاستثمارات العراقية في الولايات المتحدة ويمنح المنتجات العراقية وصولاً مباشراً إلى أكبر سوق في العالم.
كما أن الرسالة تشير إلى استعداد واشنطن لتسهيل عمليات الموافقات والتراخيص للشركات العراقية، الأمر الذي قد يسهم في تسريع النشاط التجاري وتحسين بيئة الأعمال بين البلدين.
كذلك تأتي الرسالة في توقيت حساس تمر به المنطقة، وتُعد مؤشراً على رغبة أمريكية في الحفاظ على العلاقة مع العراق، ولكن بشروط تعكس مصالحها الاقتصادية أولاً. هذه الرسالة تحمل ضغطاً سياسياً على الحكومة العراقية، وتضعها أمام مسؤولية إعادة النظر في سياساتها التجارية والكمركية، بما يتماشى مع متطلبات السوق الدولية، من دون المساس بالسيادة الوطنية أو الاقتصاد الداخلي إذا ما تم استثمار الرسالة بحكمة، فقد تُسهم في خلق فرص عمل جديدة من خلال مشاريع مشتركة، أو عبر فتح خطوط إنتاج عراقية في الولايات المتحدة. كما أن تحسين الميزان التجاري قد ينعكس إيجاباً على سعر الدينار العراقي، ويخفف من الضغوط التضخمية لكن في المقابل، فإن عدم التعامل بمرونة مع الطرح الأمريكي قد يؤدي إلى تراجع الصادرات العراقية وارتفاع الأسعار محلياً، ما سيؤثر سلباً على الطبقات الفقيرة ومتوسطة الدخل.

ختاما الرسالة ليست مجرد تحذير، بل هي عرض لفرصة شراكة جديدة بشروط اقتصادية، تتطلب من العراق توازناً دقيقاً بين مصالحه الوطنية ومصالح شركائه الدوليين. فهل تنجح الحكومة في إدارة هذه اللحظة بحكمة؟ أم أننا أمام أزمة تجارية تلوح في الأفق

انوار داود الخفاجي

مقالات مشابهة

  • استخراج جواز سفر مستعجل 2025 من البيت .. الشروط والأوراق المطلوبة وخطوات التقديم
  • كم راتب الرئيس؟: كشف الرواتب الكاملة داخل البيت الأبيض في عهد ترامب
  • "الموالح والبطاطس في الصدارة".. وزير الزراعة: 5.8 مليون طن صادرات مصرية حتى الآن
  • سوبرمان بوجه ترمب.. البيت الأبيض ينشر صورة مثيرة على “إكس”
  • البيت الأبيض ينشر صورة لـترامب السوبرمان.. ويعلق عليها
  • هل تبدأ شراكة جديدة؟ قراءة في رسالة البيت الأبيض إلى العراق
  • التجارة العالمية في مرمى نيران البيت الأبيض
  • كشف تفاصيل اجتماع سري في البيت الأبيض بشأن غزة
  • مظاهرات أمام البيت الأبيض رفضًا لزيارة نتنياهو ومطالبات باعتقاله
  • لقاء مرتقب بين الشرع ونتنياهو في البيت الأبيض