المشهد الفلسطيني .. قسوة التاريخ ومنطق البطش
تاريخ النشر: 9th, July 2025 GMT
لا يبدو أن القيادة الإسرائيلية الراهنة في عجلة من أمرها حول حرب الإبادة والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين فهي مستمرة بكل صلف وعنجهية وماضية في السقوط بها إلى أحقر مستوياتها انحدارا وفظاعة في التاريخ المعاصر منذ مذابح التطهير العرقي في حرب البوسنة والهرسك ما بين 1992 - 1995 وكذلك حرب الإبادة في رواندا بين قبائل « الهوتو » و « التوتسي » عام 1994 وما فعلته القوات الأمريكية من فظائع في حق الشعب العراقي إبان غزو العراق عام 2003.
ويرتقي يوميا مئات الشهداء الفلسطينيين معظمهم من الأطفال والنساء ويصبح استشهادهم مجرد خبر ثانوي في وسائل الإعلام العالمية، بل إن بعض وسائل الإعلام العربية والخليجية، للأسف، تتناوله بخجل في أواخر الأخبار وقد يأتي أو لا يأتي بعد خبر عن « سخونة الآيفون الجديد » و «انفصال إحدى المشهورات» أو آخر صيحات الموضة في مجموعة المصمم «إيلي صعب الصيفية » ! .
في واقع الأمر، فإن ذلك أمر غير مستغرب، في ظل منطق البطش والقوة الإسرائيلية الذي توفر له واشنطن الغطاء السياسي والعسكري واللوجستي فيما تتولى حكومة الكيان استكمال الفظائع على الأرض وتهيئة المسرح الإقليمي والدولي لتذويب القضية تحت ضربات القصف والاغتيالات والتجويع، وكل تلك السلسلة من الفظائع الدموية التي أصبحت ثقافة وهوية الكيان الإسرائيلي في تعاملها مع الفلسطيني والعربي والإيراني وتحويل الفلسطينيين إلى «دياسبورا» العصر، مشرذمين في المنافي ومخيمات اللاجئين وتفاصيل مشوهة في جداريات المشروع الصهيوني وبعض حلفائهم «العرب» والانتقال إلى الأجزاء اللاحقة لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من خلال التوسع وقضم أجزاء من سوريا ولبنان، فيما يرى بعض المراقبين أن الهدف هو دول مركزية أخرى في العالم العربي حيث لا يراد لهذه الأمة أن تقوم لها قائمة.
وبحسب صحيفة الجارديان بتاريخ 7 من يوليو 2025، فقد دخل على ذات الدائرة المشؤومة مركز الأبحاث التابع لتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ( Tony Blair Institute for Global Change (TBI) ) للمشاركة في مشروع لوضع وتطوير خطط لما بعد الحرب في غزة، تتضمن إنشاء «ريفييرا ترامب» ومنطقة صناعية تحمل اسم إيلون ماسك بالشراكة مع رجال أعمال إسرائيليين، في سياق رؤية دونالد ترامب التي كانت تهدف إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى منتجع سياحي وفق الصحيفة.
في مقابل ذلك، هنالك انقسام فلسطيني كارثي بلغ من السقوط والتردي أن يطالب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية حركة حماس بإلقاء السلاح تمهيدا لتصفية من تبقى منهم حيا لاحقا من جانب آلة القتل الإسرائيلية، وهو أمر مؤسف حيث لم يخرج الفلسطينيون على ما يبدو من ذهنية «الفصيل» والتحول إلى ذهنية المقاومة الشاملة الموحدة إيديولوجيا وفكريا وعسكريا وتبعثرت راياتهم وذهبت ريحهم بين توجهات ومآرب الممولين والرعاة وشذاذ الآفاق والحسابات الإقليمية والدولية بخلاف العديد من حركات المقاومة والتحرر الأجنبية التاريخية.
يبدو الوضع في غاية الكارثية الآن في هذه اللحظة العربية المجنونة حيث تتآمر أطراف عربية لتدمير عرب مثلهم ومسلمين مثلهم ويكملون مسيرة الدم والخراب الإسرائيلية في الجغرافيا العربية في مشهد تجاوز معظم سوريالية الحالة العربية، التي لربما لم تنكشف بهذا المستوى الدموي والعبثي منذ استقلالها عن هيمنة الدول الاستعمارية من بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن المفارقات اللافتة في هذا السياق رغم أنه ليس بجديد تاريخيا، أن نجد ردات فعل و«انتفاضات» أخلاقية على المستوى العالمي لاسيما في أوروبا التي بدأت تشهد حراكا سياسيا ضد البربرية الإسرائيلية تحت وطأة الضغط الشعبي والرأي العام الأوروبي (بدأت تنتشر شعارات مثل الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي) وصدور تصريحات ومواقف ضد الحكومة الإسرائيلية لم تعهد سابقا في أوروبا الغربية وحتى في عمق الداخل الأمريكي، ويبدو أن الوعي الأوربي والعالمي بدأ يخرج من حالة التضليل الممنهج واختطاف الرأي العام العالمي فيما يخص فلسطين والسردية الفلسطينية.
ومع ذلك فإن التاريخ ورغم كل هذه الصورة القاتمة والمعطيات المحبطة وحالة الخذلان والانكسار التي تسود العالم العربي، إلا أن التاريخ يعلمنا دروسه بوسائل شتى، فرغم الاحتلال العسكري للضفة وغزة، وفرض واقع الفصل العنصري (الأبارتهايد) من خلال الجدران العازلة والمستوطنات والقوانين التمييزية وسياسة العقاب الجماعي، بما في ذلك الحصار الذي حوّل القطاع إلى أكبر سجن مفتوح في العالم وارتكاب المجازر الجماعية والتهجير القسري الممنهج، والتدمير الشامل للبنية التحتية، وخلق كارثة إنسانية غير مسبوقة ورغم القوة العسكرية الوحشية والتأييد الأمريكي / الغربي الرسمي، فإن إسرائيل تواجه اليوم مآزق وجودية متعددة بما في ذلك تحولها إلى دولة منبوذة عالميا وتزايد عزلتها الدولية إذ بدأت قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، ومنظمات حقوقية بما فيها محكمة جرائم الحرب في وصف سلوكها بأنه إبادة جماعية وجرائم حرب.
وفي السياق ذاته، يلاحظ وجود حالة تآكل داخلي سياسي ومجتمعي وهناك انقسامات داخلية عميقة، وتطرف حكومي غير مسبوق، وتراجع في ثقة مواطنيها بمؤسساتها وقيادتها. في مقابل ذلك، يلاحظ صعود جيل فلسطيني جديد لا يعرف الخوف وليس لديه ما يخسره ولا يقبل بمساومات الاستسلام، بل يطالب بالكرامة والعدالة وحق العودة.
وبالتالي فإن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال استيطاني تعتمد على العنف الممنهج والوحشية والإقصاء القومي والدعم الأمريكي، ليست محصنة من المصير الذي واجه أنظمة أخرى ولعل الشرق الأوسط (بربيعه وثوراته وعواصفه) يحفل بمثل هذه العبر والدروس، فالاستبداد والقمع والتطهير العرقي والفصل العنصري لا يمكن أن يكون مشروعًا مستدامًا لأمة ما، ولا يمكن لأمن دولة واستقرارها ومستقبلها يُبنى على أنقاض شعب بأكمله، أن يُكتب له البقاء والديمومة ولعل الصواريخ الباليستية الإيرانية التي ضربت تل أبيب مجرد تذكير بسيط بتعقيد الشرق الأوسط وتقلباته الخطيرة وعبره المريرة.
يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الحرب على التاريخ أيضا في غزة
الحرب المجنونة فـي غزة ليست فقط على الحجر والبشر، ربما ننسى، فـي جنون القصف والمذابح، ضحايا آخرين لم ينتبه لهم أحد، رغم أن قيمتهم تشبه، أو ربما تتعدى، قيمة البيت والإنسان الفلسطيني هناك. إنها آثار غزة، حضارتها، هويتها، ووجودها التاريخي العميق.
فـي كتابه الذي جاء فـي وقته تمامًا، آثار غزة وحرب التاريخ، للكاتب والمؤرخ الغزي حسام أبو النصر، يصوّر أبو النصر حجم الجحيم الذي تعرضت له آثار غزة، وهو جحيم مقصود تمامًا. الأعداء يعرفون أن تحطيم شعب ومقدرات غزة لن يكون ممكنًا دون تحطيم هويتها وتاريخها واسمها الحضاري. فغزة جزء من فلسطين التاريخية، وقد عاش الإنسان فـيها منذ آلاف السنين. صدر الكتاب عن دار الفـينيق برام الله العام الماضي، وأحدث نشره اهتمامًا بالغًا، ولفت الانتباه إلى مأساة غزة بشكلها الكلي.
يقدّم وزير الثقافة الفلسطينية، عماد حمدان، الكتاب بقوله: «لأول مرة أشعر بصعوبة بالغة فـي كتابة مقدمة لكتاب عن الآثار، وهذه الصعوبة تأتي من الضغط النفسي الذي أعيشه منذ أحداث زلزال السابع من أكتوبر».
الكتاب مصنف إلى عدة فصول، فـي الفصل الأول، يتحدث أبو النصر عن الواقع التاريخي والجغرافـي لغزة، ساردًا مراحل مهمة فـي تاريخها، بدءًا من الهكسوس، والآشوريين، والبابليين، واليونانيين، وحكم الرومان والأنباط، وعبادة الأوثان، ثم غزة البيزنطية، فالفتح الإسلامي، ونهاية الرومان، ومعركة بيت لاهيا، ومعقل المذهب الشافعي، فالمماليك، فالعثمانيين، فالحملة الفرنسية، فالاحتلال البريطاني، فالحكم المصري، ثم الاحتلال عام 1967، ثم غزة فـي كتابات الرحالة والمستشرقين.
يشرح أبو النصر بالتفصيل الحضارات التي مرت على غزة، مبتدئًا بالفراعنة، حيث اعتبر الفراعنة غزة عاصمة لهم فـي أرض كنعان، وسمّوها «هازاتي» و«غازاتو» كما ورد فـي لوحات تل العمارنة. ويعتبر المؤلف أن الجزء الجنوبي من فلسطين كان تحت الحكم الفرعوني نظرًا للصلات التجارية والعلاقات الكبيرة بينهما. وعن العبرانيين، يكتب: «هم من الأقوام السامية التي نزحت إلى العراق من الجزيرة العربية، حيث كانوا يعيشون حياة التنقل والرعي». ويواصل الحديث عن الهكسوس، والآشوريين، والبابليين، والفرس، واليونانيين، والرومان، والأنباط، والمسيحية، والبيزنطية، والفتح الإسلامي، وغيرها.
فـي فصل «الاعتداءات الإسرائيلية على الآثار فـي غزة»، يقول أبو النصر:
«أصبحت معالم الآثار واضحة تمامًا مع نهاية عام 1948، حيث وقعت النكبة، وكانت الحركة الصهيونية قد أنشأت ذراعها فـي مجال التنقيب الجائر عن الآثار فـي أرض فلسطين منذ عام 1914 تحت اسم «جمعية بحث أرض إسرائيل».
يتحدث الكاتب عن تاريخ نهب وتدمير آثار فلسطين فـي كافة مراحل الاحتلال، ذاكِرًا أسماء الآثار وتواريخ تدميرها، مثل: قصر الحاكم المصري الذي دُمّر عام 2009، وكنيسة القديس برفوريوس التي لجأ إليها المئات من سكان الشجاعية، فباغتتها طائرات الـ F-16، وأتت على 23 قبرًا، وتضرر بيت المطران وسقف الكنيسة بشظايا متفرقة.
وهناك آثار أخرى دُمرت بشكل كلي أو جزئي، مثل:
جامع المحكمة البرديكية، وجامع الظفر دمري، ودائرة المخطوطات والآثار، والجامع العمري فـي جباليا، ومسجد النصر، وتل المنطار، وموقع القديس هيلاريون، وميناء أنثيديون.
وفـي حرب أكتوبر 2023، تم استهداف كنائس ومكتبات تاريخية، مثل: مكتبة جامع الأزهر، ومكتبة الجامعة الإسلامية، ومكتبة مركز التخطيط، وميناء غزة، وتل رفح، ومقبرة الإنجليز، كما استُهدفت مقامات إسلامية، مثل: مقام النبي يوسف، ومقام الشيخ شمس الدين أبو العزم، ومقام ابن مروان، والشيخ عبد القادر الغصين، وقبة الشيخ محمد المشيش.
ولم تسلم المتاحف أيضًا، مثل متحف قصر الباشا، ومتحف العقاد، ومتحف الخضري. وهناك مخطوطات وأرشيفات مهمة تعرضت للقصف، مثل: أرشيف وزارة التربية والتعليم، وأرشيف المعاهد الأزهرية، وأرشيف سلطة الأراضي.
ولم ينسَ المؤرخ ذكر بيوت غزة القديمة التي تعرضت للقصف، لأسباب لا تبتعد عن الهدف الشيطاني العام للصهاينة، وهو تدمير هوية غزة وحضارتها.
---
الكاتب فـي سطور
اسمه الحقيقي عبد الحميد أبو النصر، كاتب ومؤرخ فلسطيني، وممثل فلسطين فـي اتحاد المؤرخين العرب، وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين، ومدير دائرة التاريخ فـي وزارة الثقافة.
ترأس العديد من المؤتمرات العلمية، منها:
فلسطين الكنعانية (2019)
فلسطين المسيحية (2022)
فلسطين رؤى استشرافـية (2016)
فلسطين تحدّث أخبارها (2015)
كتب فـي العديد من المجلات، منها:
شؤون فلسطينية
أوراق فلسطينية
مجلة الدراسات الفلسطينية
مجلة باحث - بيروت
مجلة حق العودة
مجلة تسامح
ويكتب فـي عدة صحف، منها: القدس العربي والحياة الجديدة والقدس والأخبار اللبنانية والعربي الجديد وصحيفة معا الإلكترونية.
من مؤلفاته:
ثورة الكف الأخضر
أقباط بيت المقدس
تاريخ مخطوطات فلسطين
آثار غزة وحرب التاريخ
كما أعدّ وحرّر العديد من الكتب، منها:
إعادة كتابة التاريخ
فلسطين الكنعانية
فلسطين المسيحية