«كنت أعدّ أرغفة الخبز، لا لأقسمها على أطفالي، بل لأحسب كم يومًا تبقّى لي من الحياة»، بهذه الكلمات بدأت أمينة بركات، وهي أم لأربعة أطفال، قصّتها عن الجوع الذي يسكن بيتها في مخيم النصيرات. لا تبدو أمينة أكبر من الثلاثين، لكن جسدها الهزيل وبشرتها الداكنة المنهكة يجعلانها تبدو كمن تخطّت أعوامها بعقود. تعيش هذه المرأة على الماء والسكر منذ أيام، بعدما نفد ما تبقى من طحين وتمر وقهوة.

صوت الجوع

تقول أمينة، وهي تمسك بيد طفلتها: «لا نستطيع شراء الطحين، ولا نستطيع شراء أي أكل، وحتى الخبز لا يوجد. لا يمكن للعالم المتحضر أن يتخيل أننا نعيش في ذلك. هذا ظلم كبير». تحاول أن تتحدث بثبات، لكن دموعها تغلبها عندما تشير إلى جسد طفلتها النحيل. وتتابع خلال حديثها لـ«عُمان»: «أنظروا إليها.. هل يشبه هذا جسد طفل؟».

في كل صباح، تخرج أمينة من منزلها بحثًا عن لقمة تسد بها رمق صغارها، دون أن تجد سبيلًا إلى أي شيء يؤكل. الأسواق خالية، والمساعدات محفوفة بالخطر، والتكايا لم تعد تجد ما تقدمه، حتى العدس لم يعد متاحًا. «أصبحت أخشى أن أنام وأستيقظ على خبر موت أحد أطفالي من الجوع»، تهمس بألم.

هي ليست وحدها في هذا المصير، فغزة كلها باتت تشبه أمينة. البيوت خاوية، البطون خالية، والوجوه منهكة. لا مكان للحياة هنا، سوى للانتظار.

خنق متواصل

منذ أن شدد الاحتلال حصاره على قطاع غزة في مارس 2025، لم يعد الغزيون يملكون سوى الانتظار، لكنهم هذه المرة لا ينتظرون السلام أو فك الحصار، بل ينتظرون لقمة قد لا تأتي. الحصار الإسرائيلي استهدف الإنسان في أساسيات وجوده، في طعامه وشرابه، بعد أن استهدفه في دمه ولحمه.

مع كل صباح، تصطف الطوابير أمام التكايا الخيرية، وهي مطابخ مجتمعية أنشأها أهل الخير لمواجهة المجاعة. لكنها اليوم تئن تحت وطأة الطلب الهائل، وعجز الإمكانات. فحتى العدس، وجبة الفقراء الأخيرة، لم يعد متوفرًا في كثير من الأحيان.

رغم النداءات المتكررة للمجتمع الدولي، لم يُفتح أي معبر بشكل كافٍ، ولم تدخل المساعدات بالقدر الذي يسد حاجة مليوني إنسان محاصرين. فمراكز توزيع المساعدات تحوّلت إلى أهداف للقصف، والأسواق شبه خالية من البضائع، والسلع القليلة المتوفرة تُباع بأسعار خيالية تفوق قدرة معظم السكان.

أمام هذا الواقع، لم تعد غزة فقط محاصرة، بل تحوّلت إلى سجن بلا غذاء، مدينة تعيش على أمل مستحيل.

طوابير العدس

في شارع جانبي قرب تكية صغيرة في مدينة غزة، وقف حلمي قديح، وهو رجل خمسيني نحيل الجسم، يراقب الأواني الفارغة بنظرة شاردة. «أخرج منذ الساعة الثامنة صباحًا، وأقف في طابور التكية، لأحصل على صحن طبيخ لأولادي، لا أجد غير العدس»، يقول بحسرة.

يتابع حلمي: «في أيام كثيرة ينفد الطعام من التكية قبل أن يأتي دوري، وتجد طناجر الطعام مرصوصة وفارغة، والناس تلحس البقايا، وفي هذا اليوم لا نأكل». ورغم الجوع، لا يغضب، بل يتنهد قائلًا: «نحن فقط نريد أن نعيش».

يروي حلمي أنه اعتاد العمل في البناء، لكنه الآن بلا عمل ولا مال. أقصى ما يستطيع فعله هو الوقوف في طابور طويل، أملًا في طبق دافئ. «لا أطلب سوى صحن واحد، لأشعر أني ما زلت أبًا وجدًا قادرًا على إطعام الأولاد».

حلمي لم يكن وحده في هذا المشهد، بل إلى جانبه عشرات الأشخاص، يحملون أوانيهم الفارغة، ويجلسون تحت الشمس لساعات، على أمل أن يحصلوا على ما يسد جوع يومهم. «حتى العدس لم يعد مضمونا»، يهمس أحدهم.

مطابخ منهكة

يؤكد خليل المعصوابي، القائم على تكية خيرية في خان يونس، أن الأزمة خرجت عن السيطرة. «الناس تتزاحم بالمئات على المطبخ، للحصول على وجبة كل 24 ساعة تقريبًا، إن توفرت»، يقول وهو يشير إلى الأواني الكبيرة.

يضيف خليل لـ«عُمان»: «نضطر لترك الناس تنتظر طوال اليوم، والعدس هو الوجبة الأساسية، وأحيانًا لا يوجد حتى العدس. نحاول قدر الإمكان تلبية رغبات الناس، رغم أن كميات الطعام المتوفرة قليلة جدًا».

يشدد خليل على أن التكية لا تستطيع الاستمرار بهذه الوتيرة دون دعم خارجي: «نتمنى من المجتمع الدولي الضغط على الاحتلال وفتح المعابر لدخول المساعدات، وإطعام كل هذه الأفواه الجائعة».

ويحذر من كارثة وشيكة: «الأطفال لا يستطيعون الانتظار طويلًا، والجوع أقسى من أي قصف».

أسواق خاوية

في مدينة دير البلح، وقف الشاب عارف المجدلاوي، الثلاثيني، أمام سوق فارغ إلا من روائح الفقر. قال متنهدًا: «ننزل إلى السوق في أحيان كثيرة ولا نجد أي شيء يُباع، أنا عندي أربعة أولاد نفسي أطعمهم، لكن لا أستطيع».

وأضاف لـ«عُمان»: «الأسعار مرتفعة جدًا، كيف يمكنني شراء كيلوجرام من الطحين ثمنه أكثر من 100 شيكل؟ من أين آتي بهذا المال؟».

يشير إلى المحلات المغلقة قائلًا: «لم تعد الأسواق مكانًا للتبضع، بل أصبحت شاهدة على الانهيار».

يحكي عارف كيف تغيرت غزة، «زمان كنا نعرف ما يعنيه السوق، اليوم صرنا نمر عليه لنذرف دمعة، أو نبحث فيه عن بائع بالصدفة يبيعنا علبة فول». ويمضي مبتعدًا بخطى ثقيلة، وهو يتمتم: «كل يوم نموت بطريقة».

طوابير القتل

«رُبَّ طابور طعام تحول إلى مأتم». تقول سامية دلول، وهي أم خمسينية لطفلين: «أنا أبحث عن الطعام منذ ثلاثة أيام ولا أجد، نعيش على المياه والسكر».

تشير إلى أطفالها: «انظروا إلى أجسادهم النحيفة من شدة الجوع. لا أستطيع المغامرة والذهاب إلى مراكز المساعدات، يوميًّا يسقط الشهداء في محيطها».

تتابع وهي تمسح دموعها: «أجاهد من أجل البقاء قدر الإمكان، كي لا يذوقوا مرارة اليتم».

في السابع والعشرين من مايو الماضي، وضعت كل من إسرائيل والولايات المتحدة تصورًا لتوزيع كميات محدودة من المساعدات داخل قطاع غزة، دون إشراك الأمم المتحدة أو أي من الهيئات الإغاثية الدولية في آلية التوزيع أو الإشراف.

غير أن هذه الخطة الثنائية لم تخفف من معاناة المدنيين، بل زادت أوضاعهم تعقيدًا وخطرًا، إذ بات الغزيون يُدفعون إلى مفترق قاتل: فإما المجازفة بالتوجه إلى نقاط التوزيع تحت تهديد نيران الجيش الإسرائيلي، أو البقاء في منازلهم والموت جوعًا. وفي الحالتين، يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة موت معلن، يطاردهم بالرصاص حين يسعون وراء رغيف الخبز، أو بالهزال حين يختارون البقاء.

ذاكرة الجوع

في حي الشجاعية، جلس الحاج سلمان أبو شمالي، رجل سبعيني، يحكي ببطء عن أيام مضت: «زمان كنا نعيش ونجد الخبز، حتى في أوقات النكبات، اليوم أصبحنا نحلم به مثلنا مثل الجائعين في كتب التاريخ».

ويضيف لـ«عُمان»: «عندما كان العالم أقل تحضرًا، كانت محاصيل القمح تُحرق في الحروب، والناس تأكل لحم بعضها. أما الآن، فالإنسانية والحضارة والمدنية، كلها كلمات تحولت إلى مجرد شعارات».

يتمهل قليلًا، ثم يقول: «في زمن يراقبنا فيه العالم نموت من القصف والجوع والعطش بمنتهى الوحشية، ثم يكتفي ببيان شجب أو إدانة، إننا نعيش في آخر الزمن».

مجاعة رسمية

لم تعد كلمة «مجاعة» توصيفًا إعلاميًّا، بل باتت حقيقة موثقة بالإحصاءات. فبحسب وزارة الصحة في غزة، دخلت غزة مرحلة المجاعة الكارثية، مع وفاة 19 شخصًا بسبب الجوع خلال 24 ساعة فقط.

تقول تقارير الأونروا إن أكثر من 100 طفل يدخلون المستشفيات يوميًّا، و74 ألف طفل خضعت أجسادهم لفحص سوء التغذية، من بينهم 5500 حالة تعاني من سوء التغذية الحاد الشامل، وأكثر من 800 حالة تعاني من سوء التغذية الحاد الوخيم.

تواجه 60 ألف امرأة حامل خطرًا حقيقيًّا بسبب غياب الغذاء، فيما هناك مليون طفل في القطاع مهددون بالموت جراء الجوع، وفق تقديرات الأمم المتحدة.

لم يعد الناس في غزة يعدّون الأيام بالتاريخ، بل بعدد الوجبات التي لم يأكلوها. هناك من ينتظر الموت كما ينتظر الخبز، بلا فاصل بين الاثنين.

شهادة الأمم

من جهته، أعرب برنامج الأغذية العالمي عن قلقه البالغ من الأوضاع المتدهورة في قطاع غزة، مؤكدًا في بيان صدر يوم الأحد في 21 يوليو 2025، أن أزمة الجوع هناك بلغت حدًا لا يُحتمل.

أشار البيان إلى أن ثلث سكان القطاع لا يحصلون على الطعام لعدة أيام، فيما يتعرض منتظرو المساعدات لإطلاق النار من دبابات وقناصة الاحتلال، رغم أنهم لم يرتكبوا جرمًا سوى السعي وراء حياة.

وأضاف البيان أن الناس في غزة يموتون بسبب نقص المساعدات، مناشدًا المجتمع الدولي والجهات كافة بتسهيل دخول الإغاثة دون عوائق.

أوضح برنامج الأغذية أن إطلاق النار على المدنيين الجائعين يعكس حجم الخطر الذي يواجهه العمل الإنساني في غزة، مؤكدًا أن قافلة مكونة من 25 شاحنة دخلت عبر معبر زيكيم، لكنها تعرضت لهجوم من قبل جيش الاحتلال أسفر عن وقوع ضحايا.

بدوره، اعتبر مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية أن استخدام الجوع كسلاح يُعد جريمة حرب صريحة، مشددًا على أن وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين أمر قانوني وأخلاقي لا يحتمل التأجيل.

وأكد أن العائلات في غزة تعاني من الجوع الكارثي، وأن الأطفال يموتون قبل أن تصلهم لقمة تنقذهم، وأن الباحثين عن الطعام يغامرون بأرواحهم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حتى العدس لـ ع مان فی غزة لم تعد لم یعد

إقرأ أيضاً:

عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي: الإمارات أكبر ممول لحملة الإبادة الجماعية في السودان

قالت النائبة بمجلس الشيوخ الأمريكي سارة جاكوبس إن دولة الإمارات العربية المتحدة تعد أكبر ممول وأكثرهم استمراراً لحملة الإبادة الجماعية التي تشنها قوات الدعم السريع في السودان.

 

 

ودعت جاكوبس في منشور لها على منصة إكس لاستخدام النفوذ الكبير وإقرار قانون "الوقوف مع السودان" الذي اقترحته لمنع مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الإمارات حتى تتوقف عن تسليح قوات الدعم السريع.

 

ونشرت قناة إن بي سي الأمريكية تقريرا موسعا لها عن الأوضاع في السودان، وقالت عملية إيصال المساعدات لا تزال صعبة للغاية في المناطق التي تعاني من العنف، حيث تستمر الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية.

 

وكان برنامج الأغذية العالمي وصف ما يجري بالسودان بأنه "الأزمة الإنسانية في عصرنا"، حيث يكافح عشرات الملايين من الناس في ظل الحصار والإغلاق ونقص المساعدات الذي دفع مدنًا بأكملها إلى المجاعة.

 

وقالت ليني كينزلي، مسؤولة الاتصالات في برنامج الأغذية العالمي في السودان، لشبكة إن بي سي نيوز إن السودان يمثل أكبر أزمة إنسانية في العالم اليوم، لا يمكن نسيانها أو تجاهلها بعد الآن، ببساطة لأن شدتها وحجمها لم يسبق لهما مثيل على هذا المستوى.

 

وتشير التقارير إلى أن ما لا يقل عن 21.2 مليون شخص - أي ما يقارب 45% من سكان السودان – يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وفقًا لأحدث تصنيف مرحلي متكامل للأمن الغذائي، وهو النظام المعترف به دوليًا لتقييم المجاعة وانعدام الأمن الغذائي. وقد أكدت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة وجود ظروف مجاعة في منطقتي الفاشر وكادوقلي بدارفور، حيث "يعاني السكان لأشهر دون الحصول على الغذاء أو الرعاية الطبية بشكل منتظم".


مقالات مشابهة

  • العمالة للغرب وعواقبها الكارثية على العرب
  • بعد حل مجلس النواب.. تايلاند تدخل مرحلة سياسية جديدة
  • برنامج الأغذية العالمي يعلن خفض الحصص المقدمة للسودان
  • الأغذية العالمي يقرر تقليص حصص من يواجهون المجاعة في السودان
  • عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي: الإمارات أكبر ممول لحملة الإبادة الجماعية في السودان
  • قافلة زاد العزة الـ92 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة
  • قافلة زاد العزة الـ92 تدخل إلى قطاع غزة من مصر
  • قافلة «زاد العزة» الـ91 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة
  • قافلة «زاد العزة» الـ91 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة
  • اليوم تنطلق بأنغولا فعاليات دورة الألعاب الإفريقية وتستمر على مدار 10 أيام