قمة الصين والاتحاد الأوروبي ال25 في بكين.. فرصة تاريخية لتعزيز التشاركية ومواجهة الحمائية
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
تشو شيوان
في ظلّ عالم يشهد تحولات جيوسياسية واقتصادية عميقة، تُعقد القمة ال25 بين الصين والاتحاد الأوروبي في بكين هذه الأيام، حاملةً معها آمالًا كبيرةً بإعادة تعريف العلاقات بين القوتين الاقتصاديتين، وتأتي هذه القمة في وقتٍ تتصاعد فيه التحديات المشتركة من الحرب التجارية الأمريكية والتي طالت حلفاء الولايات المتحدة، وأقصد هنا دول الاتحاد الأوروبي إلى الأزمات الجيوسياسية التي باتت تعصب بالقارة الأوروبية، مما يجعل القمة منصةً حيويةً لتعزيز التعاون الثنائي ومواجهة السياسات الأحادية التي تهدد الاستقرار العالمي خصوصاً وأن الصين شريك قادر على معادلة الموازين بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وهناك العديد من الاتجاهات المشتركة بين الطرفين.
لا تُخفي الصين والاتحاد الأوروبي وجود خلافاتٍ بينهما، أبرزها الاختلالات التجارية، حيث سجل الاتحاد الأوروبي عجزًا تجاريًا مع الصين بلغ 304.5 مليار يورو عام 2024، مدفوعًا بفائض الإنتاج الصيني في قطاعات مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية، وقد ردّ الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية تصل إلى 45.3% على السيارات الكهربائية الصينية، مما دفع بكين إلى الرد برسوم انتقامية على بعض الصناعات الأوروبية، ولكن هذه الخلافات خلافات تجارية يمكن تسويتها من خلال اتفاقيات مناسبة للطرفين.
الخلافات ليست عصيّةً على الحل، وفي القمة الحالية تبدو بوادر انفراجةٍ واضحة حيث يدرس الاتحاد الأوروبي استبدال الرسوم الجمركية ب"حصص سعرية دنيا" للسيارات الكهربائية الصينية، وهي خطوةٌ تُظهر مرونةً من الجانبين، كما إن إشارة الصين لرفع العقوبات عن بعض البرلمانيين الأوروبيين بادرة حسن نيةٍ لتهدئة الأوضاع، وأيضًا الصين دائما ما ترسل رسائل إيجابية للاتحاد الأوروبي وتطالب بأن تكون العلاقة بين الطرفين علاقة تبادل تجاري قائم على المصالح المشتركة، وفيما يخص السياسة الصين لا تعارض ما تنتهجه الدول الأوروبية تجاه دول العالم، بل تجد أن من واجبها أن لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى وهذه النقطة يجب أن يقابلها نفس المعاملة من الجانب الأوروبي.
التشاركية كحلّ استراتيجي، وهنا يُطرح تساؤل مهم لماذا يجب على الصين وأوروبا التعاون؟ والإجابة واضحة أهمها مواجهة السياسات الحمائية للولايات المتحدة، التي فرضت رسومًا جمركيةً بنسبة 30% على الواردات الأوروبية و125% على الصينية قبل الوصول لهدنة، وهنا تبرز فرصةٌ ذهبيةٌ للصين والاتحاد الأوروبي لتعزيز التكامل الاقتصادي فكلاهما ضحيةٌ لسياسات "أمريكا أولاً" التي يتبناها ترامب، والتي لا تفرق بين حليفٍ وخصم، ومن هذه النقطة يجب أن تبنى التحالفات.
الصين بقوتها التصنيعية وسوقها الاستهلاكي الضخم (1.4 مليار مستهلك)، يمكنها أن تكون شريكًا حيويًا لأوروبا في مجالات مثل التكنولوجيا الخضراء والسيارات الكهربائية، حيث تُعدّ الشركات الصينية رائدةً عالميًا في تصنيع البطاريات عالية الكفاءة ومن جهتها تمتلك أوروبا خبراتٍ متقدمةً في الصناعات الدقيقة والابتكار، مما يخلق تكاملًا مثاليًا لبناء صناعات مستقبلية أكثر جودة ومناسبة لكلا الطرفين.
كما أن كلا الطرفين يُدركان أهمية الحفاظ على نظام تجاري متعدد الأطراف، فتصريحات الرئيس شي جين بينغ خلال لقائه مع رئيس الوزراء الإسباني أكدت أن الصين والاتحاد الأوروبي "يجب أن يتحملا مسؤولياتهما الدولية في مقاومة الأحادية"، وهذا التوجه يتوافق مع رؤية المفوضية الأوروبية، التي دعت إلى "تعاون عملي" مع الصين لضمان استقرار سلاسل التوريد العالمية؛ إذن نحن نتحدث عن تشاركية في الرؤى ولم يبق إلا التنفيذ.
أما بالنسبة للفرص والتحديات فالسؤال الأهم كيف يمكن تحويل الأزمة إلى منصة انطلاق؟ رغم التحديات إلا أنني أجد أن القمة الحالية تمثل فرصةً لإحياء اتفاقية الاستثمار التي جرى التفاوض عليها لسبع سنوات قبل إلغائها عام 2021 بسبب خلافات حول حقوق الإنسان، كما إن الذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية بين الجانبين توفّر سياقا تاريخيًا لإعادة التوازن إلى الشراكة، ولكن النجاح يتطلب خطواتٍ ملموسة، أولًا: تخفيف القيود المتبادلة، عبر فتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات الصينية ذات الجودة، وضمان معاملة عادلة للشركات الأوروبية في الصين، وثانيًا: تنسيق المواقف الجيوسياسية، خاصةً فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا، حيث يمكن للصين لعب دور وسيطٍ بناءٍ يخفف من حدة التوتر مع روسيا، وثالثًا: مواجهة الحمائية الأمريكية، عبر تنسيق سياسات تجارية بديلة تُقلل الاعتماد على السوق الأمريكية.
الصين والاتحاد الأوروبي، يمكننا أن نقول بأنها شراكة تستحق العناء، والقمة ال25 بين الصين والاتحاد الأوروبي ليست مجرد لقاءٍ روتيني، بل محطةٌ مفصليةٌ في عالمٍ يتجه نحو التكتلات الاقتصادية وهنا تُبرز مدى الحاجة المتبادلة إلى تعاونٍ استراتيجي، والصين وأوروبا بقوتهما الاقتصادية وتاريخهما الدبلوماسي، قادرتان على صياغة نموذج جديد للعلاقات الدولية يقوم على التشاركية لا الصراع، وعلى المصالح المشتركة لا الأحادية القطبية، وأود أن أختم المقال بأن أقول إن اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، تُصبح القوة الحقيقية في القدرة على بناء الجسور، لا الجدران وهذا بالضبط ما يجب أن تكون عليه رسالة بكين وبروكسل للعالم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الصین والاتحاد الأوروبی الاتحاد الأوروبی یجب أن
إقرأ أيضاً:
فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
تكشف العديد من استطلاعات الرأي حول العالم تراجعاً في صورة الولايات المتحدة الأمريكية منذ الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، واستمرت أزمة القوة الناعمة الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية. وبالتزامن مع ذلك، باتت الصين تتطلع إلى أداء دور أكثر نشاطاً على الساحة الدولية، مدركة بشكل أكبر أن صورتها الذهنية تصنع فارقاً، وعلى نحو جعل عالِم العلاقات الدولية الراحل، جوزيف ناي، يحذر، في مستهل عام 2025، من أن “الصين على أهبة الاستعداد لملء الفراغ الذي خلفته سياسات الرئيس ترامب”. وفي هذا الإطار، تُثار تساؤلات من قبيل: هل تملك الصين مقومات حقيقية للقوة الناعمة؟ وهل تستطيع الاستفادة من التراجع النسبي الأمريكي في هذا المجال؟
ترامب وتراجع القوة الناعمة:
قدّم جوزيف ناي، في عام 1990، مفهوم القوة الناعمة للدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية، معرفاً إياها بأنها “قدرة الدولة على جعل الآخرين يريدون ما تريده”؛ ومن ثم فهي القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين، وتنبني بصورة رئيسية على جاذبية الأفكار والممارسات، بخلاف القوة الصلبة أو الخشنة التي تتضمن “إصدار الأوامر” وتستند بالأساس إلى الإكراه العسكري والحوافز الاقتصادية. واعتبر ناي أن الثقافة والقيم السياسية الليبرالية والسياسة الخارجية هي المرتكزات الرئيسية للقوة الناعمة الأمريكية، وقدم المفهوم باعتباره أساساً لرسم سياسة أمريكية أكثر فعالية. وفي العقود اللاحقة، ذاع مصطلح القوة الناعمة وارتبط بجهود الدبلوماسية العامة وبناء السمعة الدولية.
وقد حاولت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تحقيق القيادة العالمية بالاستثمار في أرصدة القوة الناعمة، مع الاعتماد على الجاذبية والإقناع. ويمكن عزو القوة الناعمة الأمريكية خلال تلك الحقبة، بدرجة رئيسية، إلى تجسيد الولايات المتحدة للقيم الليبرالية، وحيوية مؤسساتها الديمقراطية، فضلاً عن النموذج الأمريكي الناجح المتمثل في مجتمع منفتح يستوعب مختلف الإثنيات.
وتبنى الرئيس ترامب، سواء في ولايته الأولى أم الثانية، سياسات أدت إلى تراجع القوة الناعمة الأمريكية، ومنها الآتي:
1- التشكيك في القيم الديمقراطية: تبنى الرئيس ترامب خطاباً سياسياً يشوه المؤسسات الإعلامية، ويقوض الثقة في الانتخابات الأمريكية مثلما حدث في عام 2020؛ مما نال بالسلب من صورة الولايات المتحدة كبلد يجسد تقاليد راسخة للانتقال السلمي للسلطة. وبعد تنصيبه رئيساً للمرة الثانية في يناير 2025، استمر ترامب في انتهاج السياسات ذاتها التي تنعكس سلباً على مصداقية الولايات المتحدة وقيمها الليبرالية؛ وهو ما ظهر مثلاً في التضييق على الحريات الأكاديمية والدخول في صدام مع بعض الجامعات الأمريكية.
2- تراجع واشنطن عن التزاماتها الدولية: بدت الولايات المتحدة كحليف دولي غير موثوق به، عبر تشكيك ترامب في جدوى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والهجوم على حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية ومطالبتهما بدفع مقابل أكبر للحماية الأمريكية، فضلاً عن الانسحاب من منظمة الصحة العالمية خلال ذروة انتشار وباء كورونا.
وفي ولايته الرئاسية الثانية، أعلن ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بالرغم من تهديدات التغير المناخي، وكذلك الانسحاب من منظمة اليونسكو، فضلاً عن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كما أطلق ترامب تصريحات غير ودية تجاه حلفاء تقليديين مثل الدنمارك وكندا، وأيقظ المخاوف في أمريكا اللاتينية عبر تهديد بنما ثم فنزويلا. كذلك أدى إفراط ترامب في سياسات الحمائية التجارية إلى جعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها شريك اقتصادي غير موثوق به.
وللتدليل على الضرر الذي ألحقته سياسات الرئيس ترامب بالقوة الناعمة الأمريكية، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز (YouGov) في فبراير 2025 أن شعبية الولايات المتحدة قد انخفضت في سبع دول أوروبية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والدنمارك والسويد وإسبانيا وإيطاليا بنحو 8% منذ نوفمبر 2024 لتصل إلى 34%. وفي استطلاع رأي آخر أجرته (Le Grand Continent) في مارس 2025، كان ترامب ثاني قائد يحظى بأقل قدر من الثقة بين 13 قائداً سياسياً، بعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما رأى 70% من المبحوثين أنه يجب على أوروبا الاعتماد على قوتها الذاتية لضمان أمنها، مع تراجع نسبة من يثقون بمصداقية الولايات المتحدة كشريك قادر على الدفاع عن أوروبا إلى 10% فقط.
ركائز القوة الناعمة الصينية:
ظهر مصطلح القوة الناعمة لأول مرة في الصين في الخطاب السياسي الرسمي عام 2007، حين تحدث الرئيس السابق، هو جنتاو، في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي، عن أهمية تعزيز القوة الثقافية الناعمة للصين. ويعمد الرئيس الحالي، شي جين بينغ، إلى التشديد على أهمية القوة الناعمة من خلال استدعاء المفهوم في العديد من اللقاءات والخطابات الرسمية، والتي تفصح عن إدراك متزايد لأهميته في تطور الصين كقوة عظمى، وضرورة تحسين القوة الصلبة في بُعديها العسكري والاقتصادي بالتوازي مع الارتقاء بالقوة الناعمة التي تقوم على القيم والأفكار والثقافة.
ويكشف تقصي السجالات الفكرية للأكاديميين الصينيين أن القوة الناعمة للصين ترتكز على عدد من المصادر والمقومات، من أهمها الإرث الحضاري الصيني، وثقافتها وما تحفل به من قيم مثل: احترام المجتمع، والتكامل ونبذ الشقاق، والتناغم الداخلي، واستيعاب الاختلافات. ويضاف إلى ذلك، خصوصية النموذج التنموي الصيني وجاذبيته للدول الفقيرة، بما يمنحه من أولوية للتنمية الاقتصادية والابتكار.
كما تسعى الصين إلى تعزيز قوتها الناعمة من خلال أدوات متعددة، منها ما يلي:
1- تبني سياسة خارجية نشطة: تشدد المقاربة الصينية على ضرورة أن تبدو سياستها الخارجية مشروعة وذات طابع أخلاقي، مع إبداء استعدادها لتسوية بعض النزاعات الحدودية مع جيرانها. إضافة إلى ذلك، هناك تنامٍ في عدد المؤسسات الدولية والإقليمية التي تشغل الصين عضويتها، كما أصبحت بكين منذ نهاية التسعينيات مشاركاً نشطاً في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفي الوقت الحالي تُعد الصين أكبر دولة مساهمة بقوات حفظ السلام من بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما يعزز صورتها كفاعل دولي مسؤول.
2- التركيز على المكاسب الاقتصادية المشتركة: يكون ذلك من خلال عقد الصفقات التجارية، ومشاريع البنية التحتية مع الدول الأخرى. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة “الحزام والطريق” التي تسعى إلى تعزيز الترابط الاقتصادي مع العديد من دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر شبكة واسعة من مشاريع النقل والمواصلات والاتصالات. وتتسم برامج المساعدات الاقتصادية للصين بأنها تُمنح دون مشروطية اقتصادية أو سياسية.
3- نشر الثقافة الصينية: تشهد الصين في السنوات الأخيرة توسعاً ملموساً في جهود نشر ثقافتها عبر معاهد كونفوشيوس التي يبلغ عددها أكثر من 500 معهد حول العالم. كما أدرجت أكثر من 80 دولة اللغة الصينية في أنظمتها التعليمية الوطنية، ويبلغ إجمالي عدد الأجانب الذين يتعلمون اللغة الصينية ويستخدمونها نحو 200 مليون شخص. ولا تزال جامعات الصين تُمثل وجهة تعليمية رئيسية للطلاب الأجانب، ولا سيّما من دول آسيا وإفريقيا، وإن كانت مكانتها كوجهة تعليمية لا تزال أقل من الجامعات الغربية.
مكاسب نسبية لبكين:
يثور التساؤل حول مدى قدرة الصين على الاستفادة من التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية. وبالرغم من أن الصين تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ فإن قدرتها على ابتكار منتجات ثقافية مؤثرة خارجياً لم تكن حتى وقت قريب متناسبة مع صعودها الدولي. لكن تغيرات كبيرة تحدث؛ إذ تشهد الصين ثورة في الإنتاج الترفيهي، ومن أمثلتها دمية “لابوبو” (Labubu) التي رفعت القيمة السوقية لشركة “بوب مارت” بنسبة 400%، وسلسلة مطاعم “ميكسوي” (Mixue) التي انتشرت في جنوب شرق آسيا.
وقد أظهر استطلاع رأي لمركز “بيو” الأمريكي للأبحاث في 25 دولة، نُشرت نتائجه في يوليو 2025؛ أن الغالبية ما تزال تنظر بإعجاب أكبر إلى الولايات المتحدة مقارنةً بالصين؛ ولكن الفجوة بين البلدين آخذة في الانحسار. وتراجعت التقييمات الإيجابية للولايات المتحدة. ففي كندا مثلاً، انخفضت نسبة الاستحسان للولايات المتحدة بمقدار 20%، بينما حققت الصين مكاسب هامشية.
وبالرغم من تحسن صورة الصين نسبياً في عام 2025 مقارنةً بفترة ما بعد “كوفيد-19″؛ فإن 54% من المبحوثين في الدول الـ25 يحملون صورة سلبية عنها، و66% لا يملكون ثقة كبيرة في قدرة الرئيس شي على معالجة الأزمات الدولية. ومع ذلك، فإن الذين يبدون ثقة أقل في ترامب فيما يتعلق بالأزمات الاقتصادية أكثر ميلاً إلى إقامة علاقات اقتصادية أقوى مع الصين. وفي دول مثل الأرجنتين والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا، تميل قطاعات واسعة إلى رؤية الولايات المتحدة كمصدر تهديد للمصالح القومية، بينما تُعد الصين حليفاً رئيسياً في دول مثل جنوب إفريقيا وإندونيسيا. وتُقدم الصين نفسها كشريك لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو خطاب يجد صدىً إيجابياً في عدة دول نامية؛ لكن سمعتها تبقى سلبية في أوروبا وبعض الدول الآسيوية بسبب المخاوف الأمنية.
تحديات أمام الصين:
على الرغم من التحسن النسبي في صورة الصين في العديد من دول العالم؛ فإنها تواجه عدة تحديات قد تحدّ من تعزيز قوتها الناعمة، أهمها ما يلي:
1- الضعف النسبي لوسائل الإعلام الصينية مقارنةً بالنفوذ الواسع للإعلام الغربي؛ إذ لا تزال وكالة “شينخوا” عاجزة عن تحقيق تأثير يماثل تأثير المنافذ الإعلامية الأمريكية الكبرى.
2- طبيعة النظام السياسي الصيني الذي يفرض رقابة على المحتوى الثقافي؛ مما يُصعّب عملية الابتكار. وعلى الرغم من تشجيع الحزب الشيوعي الحاكم للابتكار؛ تظل هناك قيود تفرضها الحكومة، وتؤثر في عملية الإنتاج.
3- عجز بكين عن تقديم بديل جدي لقيادة النظام العالمي أو التعامل الفعّال مع الأزمات الدولية؛ ما يجعل كثيراً من استطلاعات الرأي تشكك في قدرتها على خلافة واشنطن.
ختاماً، يمكن القول إنه مع التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية، تبدو الصين شريكاً أكثر موثوقية في نظر كثيرين، إلا أن ذلك لا يجعلها القائد العالمي غير المنازع في مجال القوة الناعمة. كما أن بكين قلّصت مساعداتها التنموية للدول النامية بسبب الضغوط الاقتصادية الداخلية، وتفاقم الديون في دول “الحزام والطريق”. وتدل الخبرة التاريخية على أن القوة الناعمة للولايات المتحدة شهدت فترات من الازدهار ثم الانحسار، كما حدث بعد حرب فيتنام. ومع أن استعادة أسس القوة الناعمة بعد انتهاء ولاية ترامب الثانية قد تكون عملاً مكلفاً؛ فإن الديمقراطية الأمريكية ذات التقاليد الراسخة ستظل قادرة على التعافي، بما يجعل استعادة تلك القوة أمراً ممكناً.