يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف.

إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.

من هنا، يخصص موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" ويتحدث في هذه الحلقة عن الطائفة السّنية، في محاولةٍ جادةٍ وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الطائفة وغيرها من الطوائف، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة. هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.

لطالما شكّلت الطائفة السنية في لبنان إحدى الركائز الأساسية في نسيج البلاد السياسي والاجتماعي، وكان لها دور محوري في مختلف المراحل التي مرّ بها لبنان. حضورها المتجذّر في المدن الساحلية الكبرى كبيروت وطرابلس وصيدا، وامتدادها التاريخي في العمق العربي، ساهما في جعلها لاعباً محورياً في التوازنات الداخلية والخارجية.

الخصائص الاجتماعية

يعتنق معظم المسلمين السُنّة في لبنان المذهب الشافعي، الذي يُعدّ المذهب السائد ضمن الطائفة. ومع ذلك، توجد ضمن هذه الطائفة أقلّيات تتبع مذاهب سنّية أخرى، أبرزها المذهب الحنفي، إضافةً إلى فئة أقل عدداً تنتمي إلى المذهب الحنبلي، بينما يوجد أفرادٌ معدودون يعتنقون المذهب المالكي. وتمثل هذه المذاهب الأربعة مجتمعةً أركان الفقه السّنّي التقليدي. ووفقاً للأعراف الدينية الرّاسخة في لبنان، فإن مفتي الجمهورية اللبنانية، وهو المرجعية الدينية العليا للسنة، يجب أن يكون من أتباع المذهب الشافعي دون سواه.

تتميز الطائفة السُّنّية في لبنان بطابعها الحضري الواضح. فالسُّنة تاريخياً هم أبناء المدن الساحلية الكبرى: بيروت، وطرابلس، وصيدا، ومدناً أصغر في البقاع شرق لبنان وعكار شمالا. وكان لتمركزهم في المدن أثراً واضحاً على انخراطهم المبكّر في شبكات التجارة، والتعليم، والبيروقراطية ولا سيما خلال الحقبة العثمانية.

بيروت كانت بمثابة العاصمة غير المعلنة للطائفة، حيث لعبت الأسر السنية البيروتية أدواراً بارزة في الحياة الاقتصادية والسياسية منذ القرن التاسع عشر. أما طرابلس، المدينة الثانية من حيث الثقل السّنّي، فكانت مركزاً علمياً وثقافياً منذ العهد المملوكي كما كانت مركزاً اقتصادياً مهماً مع وجود مرفأ كبير فيها، أما صيدا فحافظت على خصوصية تجارية وعائلية تقليدية.

وكان في كل مدينة عائلات سنّية أصيلة تشكل النسيج الاجتماعي والعصب الاقتصادي. فكانت بيروت مركزاً لآل سلام، بيهم، ياسين، طبارة، دوغان، عيتاني، سنو، يمّوت، الحص، قباني، القصار، المشنوق، النصولي، جلّول ، اليافي ، الأرناؤوط، الغلاييني، العنتبلي، البربير، الوزان قليلات، صبح.. الخ.

فيما كانت طرابلس مركزاً لآل كرامي، ميقاتي، الصفدي، كبارة، المقدم، دياب، شميطلي، علم الدين، النعيمي، المير، البزال، الحلبي.

أما صيدا فهي مركز آل الحريري، الصلح، بساط، البابا، سكيني، دندشلي، القطب.

وتوزّع في البقاع وعكار آل الميس، شَكَر، الحجيري، الفليطي، زعرور، المرعبي، عبد الله، العلي، الخير، الرفاعي، صلح، الجاروش، عبدوني... الخ.

وإذا كانت الفروقات بين الطائفتين الإسلاميتين الكبريين في لبنان، السنية والشيعية، تُختزل أحياناً في مقولات نمطيّة، مثل أن السّنة "تجّار وأثرياء ومتعلمون" بينما الشيعة "مزارعون وفقراء" فإن الوقائع تشي بغير ذلك. صحيحٌ أن النخبة السنية تمركزت في المدن الكبرى، وحظيت بفرص تعليمية أكبر بحكم الاتصال بالعثمانيين أحياناً وبالغرب أحياناً أخرى (من خلال البعثات والمدارس الأجنبية)، إلا أن التمايز لم يكن دائماً طبقيّاً بالمطلق. فالشيعة عانوا فعلاً من التهميش الاقتصادي والاجتماعي خلال العهدين العثماني والفرنسي، لكنّ ذلك لا يعني أن كلّ السنة كانوا من الأثرياء، ولا أن كل الشيعة كانوا من الفلاحين. فثمة تفاوت داخلي في كل طائفة، لكن البيئة السّنية المدينية وفّرت مناخاً أنسب للترقّي الاجتماعي للبعض. فبرزت شخصيات سنّية أدّت أدواراً محورية ولا سيما في السياسة والاقتصاد معاً. ولعل أبرزها:

ـ رياض الصلح: أول رئيس حكومة بعد الاستقلال عام 1943، من أبرز مؤسسي لبنان الحديث.

ـ صائب سلام: رئيس حكومة سابق، من أبرز رجالات بيروت السياسية في القرن العشرين، هو والد رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام وعمّ رئيس الحكومة الحالي نواف سلام.

ـ تقي الدين الصلح: تولى رئاسة الحكومة في السبعينات، وكان من أعمدة العروبة اللبنانية.

ـ رفيق الحريري: رئيس حكومة سابق، رجل أعمال بارز، وعرّاب اتفاق الطائف وإعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية.

ـ عبد الحميد كرامي: خطيب وطني وزعيم طرابلسي، اختير نائبًا في البرلمان وكان من الأصوات القوية المناهضة للانتداب، قبل أن يُعيّن لاحقًا في مناصب وزارية.

ـ رشيد كرامي: أحد أطول رؤساء الحكومات بقاءً في المنصب، اغتيل عام 1987.

ـ عبد الله اليافي: من أبرز رؤساء الحكومات في الخمسينات والستينات.

ـ عبد الرحمن عيتاني: من أبرز رجال الأعمال البيروتيين في الستينات والسبعينات، خصوصاً في مجال العقارات والاستيراد.

ـ عدنان الحكيم: تولّى قيادة حزب النجادة منذ الأربعينيات وحتى السبعينيات. وعُرف بخطابه العروبي والقومي الوحدوي. انتُخب نائبًا في البرلمان اللبناني عدة مرات.

ـ نجيب ميقاتي (تولى منصب رئيس الحكومة لكنه لا يحظى بقاعدة شعبية واسعة) وشقيقه طه: يديران مجموعة استثمارية ضخمة (M1 Group) تعمل في مجالات الاتصالات، العقارات، الأزياء، والطيران ويمتلكان استثمارات في إفريقيا، أوروبا، والشرق الأوسط.

ـ عدنان القصار: من رموز الاقتصاد اللبناني التقليدي، ترأس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان لعقود ولاحقاً ترأس اتحاد الغرف التجارية العربية. أسس مجموعة اقتصادية تعمل في التجارة والاستيراد والتصدير. عُين وزيراً للاقتصاد بين 2009 و2011

ـ فؤاد مخزومي (نائب في البرلمان) وهو رجل أعمال بيروتي مؤسس واحدة من أكبر الشركات المتخصصة بأنظمة الأنابيب الصناعية وتعمل في أكثر من 50 بلداً. له استثمارات واسعة في الطاقة والمياه والبنى التحتية.

ـ فؤاد السنيورة: رئيس حكومة سابق، ووزير أسبق للمالية، وأحد أبرز مهندسي السياسة الاقتصادية والمالية بعد الطائف.

بدايات العمل السياسي

عندما أعلن الجنرال الفرنسي غورو قيام "دولة لبنان الكبير" عام 1920 تحت الانتداب الفرنسي، لم تلقَ هذه الخطوة ترحيباً من أبناء الطائفة السنية بل أثارت تحفّظاً عميقاً خصوصاً في المدن الكبرى كطرابلس وبيروت وصيدا. وكان هذا التحفّظ نابعاً من خلفيات سياسية وثقافية ودينية متجذرة، إذ رأى كثير من السنّة أن فصلهم عن سوريا الكبرى ـ التي كانوا يعتبرون أنفسهم جزءاً عضوياً منها ـ هو فصل مصطنع وغير شرعي، فرضته قوى الاستعمار الفرنسي والبريطاني خدمة لمصالحها.

ففي بيروت، التي كانت لقرون بوابةً بحرية طبيعية لدمشق، ارتبطت النخب السنية بعلاقات تجارية وثقافية وثيقة بالعاصمة السورية، وكانت جزءاً من النخبة الإصلاحية العثمانية ذات التوجه الإسلامي المعتدل أو القومي العربي. أما طرابلس، المدينة ذات الامتداد السوري اجتماعياً واقتصادياً، فقد شهدت تظاهرات واحتجاجات ضد إعلان لبنان الكبير، وتمسّكت لفترة طويلة بالوحدة مع سوريا، ورفضت علناً تبعية جبل لبنان الماروني سياسياً واقتصادياً.

تمكّن السُّنّة من التموضع في البيروقراطية اللبنانية، عبر تولّي مناصب إدارية مهمة في الدولة، لا سيما في القطاعات الاقتصادية والمالية والتجارية، نظرًا لموقعهم المديني وتقاليدهم الطويلة في العمل التجاري البحري.لكن، وبرغم الاعتراضات الأولى، لم تتخذ الطائفة السنية موقفاً انعزاليّاً أو مقاطِعاً نهائياً للدولة الجديدة. بل، مع مرور السنوات، بدأ زعماؤها يدركون أن الكيان اللبناني، برغم محدوديته الجغرافية والديموغرافية، بات واقعاً سياسياً لا يمكن تجاهله، وأن حماية مصالح الطائفة ـ وربما المساهمة في تعديل مسار البلاد ـ تتطلب الانخراط في الحياة السياسية.

وبذلك بدأ دور السنّة في التوسع منذ عشرينات القرن الماضي، من خلال التمثيل السياسي والمشاركة المؤسساتية بعدما أدرك قادة الطائفة أهمية الانخراط في مؤسسات الدولة الناشئة كوسيلة لحماية مصالحهم وضمان تمثيلهم في السلطة. فبدأ الوجهاء من العائلات السنية التقليدية، خصوصاً في بيروت وطرابلس وصيدا، بالسعي لتولي مناصب رفيعة في مؤسسات الدولة وبالترشح للانتخابات التمثيلية التي كانت تُنظَّم تحت الإشراف الفرنسي. وعلى الرغم من محدودية هذه الانتخابات وطابعها الطائفي الضيق آنذاك، فإن مشاركة السُّنة فيها سمحت لهم بالدخول إلى المجلس التمثيلي ثم إلى مجلس النواب اللبناني بعد إعلان الدستور عام 1926، ما أتاح لهم التعبير عن مطالبهم وتوجهاتهم من داخل المؤسسات.

تمكّن السُّنّة من التموضع في البيروقراطية اللبنانية، عبر تولّي مناصب إدارية مهمة في الدولة، لا سيما في القطاعات الاقتصادية والمالية والتجارية، نظرًا لموقعهم المديني وتقاليدهم الطويلة في العمل التجاري البحري. وقد سمحت لهم هذه المواقع بالمساهمة في تشكيل معالم الدولة الحديثة، وتعزيز حضورهم في دوائر القرار من دون الدخول في صدامات مفتوحة مع سلطة الانتداب، على عكس بعض القوى المسيحية أو اليسارية التي تبنّت خطًا أكثر تصعيدًا.

بذلك، ساهم "التمثيل السياسي والمشاركة المؤسساتية" في تحويل الطائفة السنية من موقع الرافض لقيام الكيان اللبناني إلى أحد أركانه الأساسية، وفتح الباب أمامها لتكون شريكاً فعلياً في بناء الدولة، مع التمسك في الوقت نفسه بهويتها العربية وامتداداتها الإقليمية، التي ستُصبح لاحقاً عاملاً حاسماً في توازنات ما بعد الاستقلال.

في معركة الاستقلال، مع تصاعد الحراك الوطني المناهض للانتداب الفرنسي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، لعب السنة دوراً رئيسياً إلى جانب المسيحيين والدروز والشيعة في دفع البلاد نحو الاستقلال. وكان رياض الصلح، أحد الزعماء السنة البارزين، من أبرز مهندسي "الميثاق الوطني" غير المكتوب عام 1943، الذي شكّل العقد السياسي الشفهي بين المسلمين والمسيحيين، وتضمّن اتفاقاً على أن لا يكون لبنان تابعاً للغرب (وفقاً للرؤية المسيحية)، ولا جزءاً من سوريا الكبرى (وفقاً للرؤية الإسلامية)، بل دولة مستقلة ذات وجه عربي.

وقد تُوّج هذا الدور بتولي رياض الصلح رئاسة أول حكومة لبنانية بعد الاستقلال إلى جانب بشارة الخوري، الذي أصبح أول رئيس جمهورية لبنانية. ومنذ تلك اللحظة، رسّخت الطائفة السنية موقعها كشريك أساسي في الحكم، وكسندٍ لاستقرار الكيان اللبناني، شرط التزامه بهويته العربية وتوازناته الداخلية. وكان "الميثاق الوطني" قد وضع الإطار السياسي لنظام الحكم اللبناني القائم على تقاسم السلطة طائفياً، حيث مُنحت رئاسة الحكومة للمسلمين السنة، ورئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة. وبذلك، أصبح للسُّنة دور واضح وفاعل ضمن تركيبة الدولة، إلا أن الصلاحيات الفعلية بقيت مركّزة بيد رئيس الجمهورية، ما أبقى الطائفة السنية، في تلك المرحلة، في موقع الشريك لا القائد.

ثورة 1958 والحرب الأهلية

في عام 1958، اندلعت أزمة سياسية وأمنية حادّة في لبنان، وُصفت لاحقاً بأنها "حرب أهلية مصغّرة" أرست الاصطفافات وكرّست الانقسامات التي أفضت إلى الحرب الأهلية الكبرى عام 1975. وجاءت تلك الأزمة على خلفية الصراع بين التوجهات القومية العربية بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر والتي أيّدها عدد كبير من السُّنّة، وبين التوجهات الغربية التي مثّلها رئيس الجمهورية (الماروني) كميل شمعون آنذاك. فلعبت الطائفة السنية دوراً محورياً في انتفاضة شعبية ضد شمعون وقادت المعارضة ضد سياسته، لا سيما في بيروت وطرابلس، مطالبةً بالانحياز إلى العالم العربي ورفض الانخراط في مشاريع المَحاور الدّولية. ويرى محلّلون أن تلك الأحداث كانت أول تعبير صريح للطائفة السُّنية عن طموحها السياسي في لبنان المستقل، ورغبتها في تثبيت الهوية العربية للبنان، وهو ما أصبح لاحقاً بندًا دستوريًا (في ديباجة اتفاق الطائف 1989)، كما كانت جرس إنذار بشأن محدودية صلاحيات رئاسة الحكومة آنذاك، وهو ما سيؤدي لاحقًا إلى تعديل هذه الصلاحيات وتعزيزها في اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية ونظم الحياة السياسية في لبنان.

بالعودة إلى مرحلة الخمسينيات، لم يكن لبنان في منأى عن حالة الاستقطاب الحادة التي عاشها العالم العربي بين التيار القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر الذي رفع شعار "الوحدة العربية" و"التحرر من الاستعمار"، وبين القوى المحافظة والأنظمة الموالية للغرب. وفي تلك المرحلة، حاول الرئيس كميل شمعون خلال ولايته (1952 -1958) تقريب لبنان أكثر من المعسكر الغربي، وخصوصاً من الولايات المتحدة، فشارك في تأسيس حلف بغداد (وهو حلف عسكري إقليمي ترعاه واشنطن ويضم العراق وتركيا وإيران وباكستان) ما أثار حفيظة القوى العروبية في لبنان ولا سيما أبناء الطائفة السُّنية، وبلغ التوتر ذروته حين سعى شمعون لتعديل الدستور لتمديد ولايته، ما اعتُبر محاولةً لتكريس حُكمٍ أُحاديّ يهدّد التوازنات الطائفية. فاندلعت احتجاجات شعبية واسعة في أيار مايو 1958، شملت مناطق عدة، كان أبرزها في:

بيروت الغربية، معقل السنّة التاريخي، حيث خرجت التظاهرات المؤيدة لعبد الناصر والمنددة بسياسة شمعون.

طرابلس، المدينة السنية الشمالية ذات الطابع العروبي القوي، والتي لعبت دوراً محورياً في المعارضة.

صيدا والبقاع وبعض قرى الشوف والجنوب التي ضمت قوى عروبية سنية وشيعية ودرزية.

فكانت الطائفة السنية، من خلال زعمائها التقليديين وأيضاً من خلال الشارع، في قلب الحركة التي انضم إليها عدد من الزعامات الوطنية والقومية واليسارية، ما أعطى الحركة طابعًا وطنيًا لا طائفيًا بحتًا، رغم أن السنّة كانوا في طليعتها.

استمرت التظاهرات عدّة أشهر، تخللتها اشتباكات مسلحة بين الجيش اللبناني بقيادة فؤاد شهاب وقوى الأمن الداخلي من جهة، والمتمرّدين المعارضين من جهة أخرى. وتفاقم الوضع إلى حدّ أن كميل شمعون طلب تدخلًا عسكريًا أميركيًا، فدخلت قوات المارينز إلى الشواطئ اللبنانية في 15  تموز يوليو  1958، تحت ذريعة "حماية الرعايا الأميركيين"، لكن هدفها الفعلي كان حماية النظام القائم.

وبفعل الضغط الدولي وحرصاً على عدم انزلاق لبنان إلى حرب أهلية شاملة، تم التوصل إلى تسوية تقضي بعدم التمديد لكميل شمعون وبانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية. فقبِل السُّنّة بهذه التسوية على مضض، إلى أن تبيّن لاحقاً أن السياسة الشهابية حرصت على إعطائهم دورًا معتبراً في الحكم، وإن بقي هذا الدور محدودًا نسبيًا واستمرّ على هذه الحال حتى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) وبدء حقبة اتفاق الطائف.

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية إنقسمت الطائفة السنية سياسياً. فهي، وإن لم تكن الطرف الرئيسي في الاقتتال الطائفي المباشر كما كان الحال مع الموارنة والشيعة، إلا أنها مكوّن أساسي من مكونات الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان، فالتحق كثير من شبابها بالحركات الفلسطينية أو التنظيمات القومية العربية أو اليسارية، معتبرين أن قتالهم جزء من المعركة القومية الكبرى ضد إسرائيل. لكن في المقابل، كانت الطائفة تفتقر إلى ميليشيا موحدة قوية كغيرها من الطوائف، وهو ما عكس افتقارها لسند عسكري داخلي مباشر، واعتمادها أكثر على دعم قوى خارجية، لا سيما منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا لاحقاً.

ومن أبرز التنظيمات المسلحة ذات الطابع السُّني أو ذات القاعدة السنية الواسعة:

ـ تنظيم "المرابطون": (الاسم الرسمي: لاتحاد الاشتراكي العربي ـ المرابطون) نشط في  بيروت الغربية وخصوصًا في رأس النبع والمزرعة، تحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط، تراجعت قوته بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.

ـ حزب النجادة: نشط في بيروت واقتصر عمله على السياسة. بقي دوره العسكري محدوداً إلى أن قرر رئيسه عدنان الحكيم حل الحزب منعاً لانخراطه في الاقتتال الأهلي.

ـ جبهة التحرير العربية: هي جناح منضوٍ ضمن منظمة التحرير الفلسطينية ومؤيد لحزب البعث العراقي.  ضمّت عناصر فلسطينية ولبنانية، وكان لها نشاط محدود في بعض مناطق الجنوب وبيروت.

ـ حركة فتح (الفرع اللبناني): رغم كونها فلسطينية التكوين، إلا أن قواعدها في لبنان وخصوصاً في بيروت وطرابلس وصيدا، ضمّت عددًا من الشبان اللبنانيين السنّة الداعمين للقضية الفلسطينية والتوجه العروبي.

ـ التنظيم الشعبي الناصري: نشط في صيدا حيث أسس ميليشيا محلية قاتلت ضد الميليشيات المسيحية وضد الاحتلال الإسرائيلي لاحقًا. وكان التنظيم على صلة وثيقة بمنظمة التحرير الفلسطينية ومتأثراً بتوجهات جمال عبد الناصر.

اغتيال الزعيم السُّني رفيق الحريري كان لحظة فاصلة للطائفة. لم يؤدِّ فقط إلى خسارة رجل دولة، بل إلى أفول مرحلة سياسية كاملة لمع خلالها نجم الطائفة السنية. طائفةٌ تعاني اليوم من انكماش في الدور السياسي، وفراغٍ قيادي، وتراجعٍ اقتصادي، وتحجيم إقليمي. وهي في حاجة إلى إعادة بناء هويتها الوطنية والدستورية ضمن مشروع جامع يعيد لها دورها في التوازن اللبناني، بعيداً عن الزعامات الفردية وأنظمة الحكم التقليدية المتآكلة.ـ جماعة الأحباش (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية): نشطت في بيروت الغربية حيث شكّلت جناحًا أمنيًا مسلحًا في بعض الأحياء في أواخر الثمانينات أي في مرحلة متقدمة من الحرب الأهلية لذلك لم تبرز كقوة خلال الحرب الأهلية بل لاحقًا في مرحلة ما بعد الطائف، حيث لعبت دورًا سياسيًا وأمنيًا خلال إعادة الإعمار وفي النزاعات داخل بيروت لاحقًا.

ـ الجماعة الإسلامية: هي تنظيم سياسي ودعوي يُمثل الامتداد اللبناني لحركة الإخوان المسلمين. تأسست في الستينيات وتجمع بين العمل الدعوي والخيري والمشاركة السياسية ضمن الإطار اللبناني.

ـ حركة التوحيد الإسلامي: تنشط في طرابلس حيث تأسست عام 1982 لتضم عدداً من التجمّعات الإسلامية المتفرقة، لعبت دوراً بارزاً في الصراعات الطائفية في شمال لبنان خلال الثمانينيات، وتعرضت لاحقاً لانقسامات داخلية.

إتفاق الطائف والسّنية السياسية

شكّل اتفاق الطائف الذي وُقّع في 22 تشرين الأول أكتوبر 1989، برعاية السعودية وسوريا وبموافقةٍ دوليةٍ واسعة، نقطة تحوّل جذرية في مكانة الطائفة السنية في الدولة اللبنانية. فالاتفاق الذي كان يهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية (استمرت أكثر من 15 عامًا) أعاد توزيع الصلاحيات الدستورية بطريقةٍ حوّلت موقع رئيس الوزراء من منصب إداري ثانوي إلى لاعب أول في القرار الوطني ورفعت مَكانة الطائفة السنية سياسياً وإدارياً إلى حدٍّ دفع بعض اللبنانيين إلى اعتبارها مرحلة "السنية السياسية" على غرار "المارونية السياسية" وهي عبارة ترمز إلى النظام الذي كان قائماً على التحالف بين رأس المال المسيحي (خصوصًا الماروني) والبنية السياسية للدولة.

وكان من نتائج إعادة هيكلة النظام السياسي التي نص عليها الاتفاق، الهيمنة السنية الناعمة من خلال تخفيف صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني ونقلها إلى رئيس الحكومة أو إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. فبات رئيس الحكومة (السُّني) هو من يرأس جلسات مجلس الوزراء (وليس رئيس الجمهورية) إلا في حالات محدّدة، وتحوّلت معظم الصلاحيات التنفيذية إلى مجلس الوزراء ومن بينها مثلاً تحديد السياسة العامة للدولة، وإصدار القرارات التنفيذية الجماعية، والإشراف على المؤسسة العسكرية وإصدار المراسيم التنفيذية والتشريعات وتوقيع القوانين أو ردّها، بالإضافة إلى تعيين كبار الموظفين. وقبل ذلك كله، لم يعد رئيس الجمهورية يملك تشكيل الحكومة منفرداً بل صار تشكيلها مناطاً برئيس الحكومة الذي يعيّنه رئيس الجمهورية بعد استشارة النواب إلزامياً. هذه التعديلات وغيرها، جعلت دور رئاسة الحكومة محورياً في اتخاذ القرار السياسي، كما جعلت من الطائفة السُّنّية قوّة مركزية يعكسها دور رئيس الحكومة. دورٌ لَمَع مع تولي رفيق الحريري منصب رئيس الحكومة خلفاً لسليم الحص، آتياً من عالم ريادة الأعمال في السعودية، حيث جمع ثروته وبنى علاقاته ونال الجنسية السعودية.

وكان اسم رفيق الحريري قد قيل همساً وفي الظل خلال المفاوضات في مدينة الطائف السعودية، التي أفضت إلى اتفاق الطائف عام 1989، إذ كان قريبًا من القيادة السعودية وخاصة الملك فهد بن عبد العزيز.

علماً أن سوريا وافقت لاحقًا على تسميته رئيسًا للحكومة في إطار تفاهمات إقليمية (سعودية–سورية) ودولية، فتولّى رئاسة الحكومة خمس مرات بين عامَي 1992 و2004. وتميزت حكوماته ولا سيما الأولى بإطلاق إعادة الإعمار في وسط العاصمة بيروت، عبر شركة "سوليدير"، التي أثارت جدلًا واسعًا واتُهِمت بمصادرة الأملاك وتهجير السكان، كما تميزت بسياسات اقتصادية ليبرالية، اعتمد فيها على القروض الخارجية والداخلية لتمويل مشاريعه، ما أدى إلى تراكم الدّين العام بشكل كبير. وكان الحريري داعماً لسياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار التي انتهجها مصرف لبنان والسياسات النقدية لحاكمه رياض سلامة الذي عيّنه الحريري.

أما العلاقات الدولية التي نسجها الحريري فقامت على توطيد علاقات لبنان بدول الخليج والدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، والولايات المتحدة.

وكان الحريري الزعيم السني الفعلي على الساحة اللبنانية برغم وجود ورثة الزعامات التقليدية من آل سلام وكرامي وسعد وغيرهم. فحتمت عليه زعامته الدخول في تحالف موضوعي مع النظام السوري في البداية، لكن العلاقة توتّرت تدريجيًا، لا سيما بعد انتخاب إميل لحود رئيسًا بدعم سوري عام 1998، وبقيت متوترة إلى أن اغتيل في 15 شباط فبراير 2005 واتُهمت سوريا وحلفاؤها في لبنان (على رأسهم حزب الله) باغتياله.

أفول "السنية السياسية"

كان اغتيال الحريري لحظة حاسمة أدخلت الطائفة السنية في لبنان مرحلة طويلة من الارتباك السياسي والانكفاء التدريجي، ما أدى إلى تراجع نفوذها في المشهد اللبناني العام. فقد غابت القيادة الكاريزماتية الموحدة للطائفة برغم وراثة ابنه سعد الزعامة، ذلك أنه افتقر إلى الخبرة السياسية والقدرة على إدارة التوازنات الداخلية والخارجية.

تدريجياً، اهتزت مكانة الطائفة السنية في السياسة والحُكم، وتشرذمت القيادة بين مجموعة من القوى البديلة فتراجع الدعم الخليجي ـ السعودي تحديداً الذي كان يحظى به رفيق الحريري والذي أحسن استثماره في ترسيخ الزعامة السنية. ففقدت الطائفة السنية سيطرتها على مفاصل الدولة والاقتصاد (مجلس الإنماء والإعمار، مصرف لبنان عبر حلفاء آل الحريري، الاستثمارات الكبرى). وبلغ التراجع ذروته في ظل الأزمات الاقتصادية وغياب المشروع الاقتصادي البديل، إذ لم تنجح أي جهة سنية في تقديم مشروع اقتصادي ـ اجتماعي جامع كما فعل رفيق الحريري في التسعينات. فأصيبت القاعدة الشعبية السنية بحالة من الإحباط والانكفاء تجلّت في نسب الاقتراع المتدنية في الانتخابات النيابية الأخيرة.

اغتيال الزعيم السُّني رفيق الحريري كان لحظة فاصلة للطائفة. لم يؤدِّ فقط إلى خسارة رجل دولة، بل إلى أفول مرحلة سياسية كاملة لمع خلالها نجم الطائفة السنية. طائفةٌ تعاني اليوم من انكماش في الدور السياسي، وفراغٍ قيادي، وتراجعٍ اقتصادي، وتحجيم إقليمي. وهي في حاجة إلى إعادة بناء هويتها الوطنية والدستورية ضمن مشروع جامع يعيد لها دورها في التوازن اللبناني، بعيداً عن الزعامات الفردية وأنظمة الحكم التقليدية المتآكلة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير لبنان الطوائف الدور السنة لبنان السنة طوائف دور سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التحریر الفلسطینیة رئیس الجمهوریة الحرب الأهلیة بیروت وطرابلس رئاسة الحکومة نیة السیاسیة اتفاق الطائف رئیس الحکومة رفیق الحریری یة فی لبنان رئیس حکومة عبد الناصر لا سیما فی ة فی لبنان فی المدن فی بیروت ولا سیما من خلال ی مناصب من أبرز رئیس ا السن ة لاحق ا ما بعد إلا أن نیة فی

إقرأ أيضاً:

رئيس الجمهورية يخص ضيف الجزائر الرئيس اللبناني باستقبال رسمي 

خص رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون اليوم الثلاثاء الرئيس اللبناني جوزيف عون بإستقبال رسمي بمقر رئاسة الجمهورية.

رئيس الجمهورية اللبنانية بعد تحية العلم الوطني استعرض تشكيلات من الحرس الجمهوري أدت له التحية الشرفية.

وحل مساء اليوم الثلاثاء الرئيس اللبناني جوزيف عون بالجزائر في زيارة رسمية. حيث كان في استقباله بمطار هواري بومدين الدولي الرئيس تبون.

مقالات مشابهة

  • وزير الاتصال يجري محادثات مع نظيره اللبناني
  • رئيس الجمهورية يخص ضيف الجزائر الرئيس اللبناني باستقبال رسمي 
  • رئيس الجمهورية يستقبل نظيره اللبناني اليوم
  • وزير الصحة استقبل رئيس مكتب التعاون الروسيّ - اللبنانيّ
  • مفتي الجمهورية عند جنبلاط سعيا لمنع الفتنة السنّية - الدرزية
  • ضياء رشوان: الأصوات التي تهاجم مصر لا تبحث عن الحقيقة بل عن التحريض
  • رئيس الطائفة الإنجيلية يشارك في خدمة الأحد بالكنيسة الإنجيلية الثانية بالغردقة
  • محمود مسلم: انتخابات مجلس الشيوخ مختلفة حيث تعتمد على الشخصيات العامة التي لها ثقل سياسي في الشارع
  • نداء من النادي اللبناني لليخوت إلى رئيس الجمهورية... ماذا تضمن؟