مصائد موت إسرائيلية للتنصل من تجويع غزة
تاريخ النشر: 31st, July 2025 GMT
عندما يحكم الجوع قبضته على مجتمع، يحدث أمر رهيب نادر الحدوث. فالجوع ليس إلا ظاهرة بيولوجية لضمور الجسم، وإنما هو أيضا حشرجة موت المجتمع. والمجاعة هي مشهد الناس إذ ينبشون في القمامة بحثا عن طعام. وهي امرأة تطهو في السر مخفية الطعام عن أقاربها الجياع. وهي أسرة تبيع حلي جدتها من أجل وجبة واحدة، ويبدو أفرادها جامدي الوجوه فقراء إلى التعبير، زجاجيي العيون.
هذا واقع لا يمكن أن تظهره الإحصائيات. ومناهج قياس حالات الطوارئ الغذائية وإعطائها درجات ـ بحيث تكون «المجاعة» هي الأسوأ ـ تنهار عندما يتفكك المجتمع على هذا النحو.
لكن كما أن بوسع طبيب متمرس أن يشخّص الحمى دونما اضطرار إلى إرسال عينات دم إلى المختبر، بوسع المخضرمين من العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية ـ ممن شهدوا بيفارا سنة 1969 أو إثيوبيا سنة 1984 ـ أن يتعرفوا على هذه الأعراض حينما يرونها.
وهم يرونها اليوم في غزة.
وانظروا إلى بيانات مؤسسة غزة الإنسانية -وهي منظمة مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل بدأت عملها في مايو- لتجدوا أنفسكم في عالم آخر. تقدم مؤسسة غزة الإنسانية نفسها باعتبارها مؤسسة مهنية رحيمة مصممة من أجل القرن الحادي والعشرين. فسوف ترون صورا للنظام والكفاءة، وإعلانا متباهيا بأنها أوصلت أكثر من مليوني وجبة بالأمس من خلال أربعة «مواقع توزيع آمنة».
وبجانب صور الأطفال الجياع، والنساء المنهارات جوعا، هناك أيضا صور شباب أصحاء. وفي تناقض مع الصور التي يلتقطها الصحفيون الفلسطينيون لتدافع الناس على أبسط المساعدات التي لا تزال تقدم من خلال الأمم المتحدة، فإن لدى مؤسسة غزة الإنسانية صورا للنظام في التوزيع، ولعمالها وهم يمسكون أيدي الأطفال الفلسطينيين.
ويصر المتحدثون باسم إسرائيل على أن للأمم المتحدة مئات من شاحنات الطعام داخل نطاق غزة ترفض توزيعها.
لكن هذه الصورة الوردية لا تصمد لأبسط تدقيق. وثمة أربعة أسباب لكونها في أفضل الحالات ارتجال هواة وفي أسوئها غطاء لجريمة تجويع جماعي جارية.
أولا: الأرقام غير منطقية. ففي أبريل أحصت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة مخزون الطعام المتبقي في غزة، بعد ثمانية عشر شهرا من الحصار والحرب، وشهرين من الحظر الإسرائيلي التام. وقدّرت أن توافر الطعام سوف يهوي إلى النصف فقط مما يلزم للحفاظ على الحياة، وذلك في وقت ما بين مايو ويوليو. يعني هذا أن جهود الإغاثة ينبغي أن تغطي كامل احتياجات الطعام في غزة. ومليونا وجبة في اليوم رقم يقل عن نصف الاحتياجات اللازمة. فلعل حصص مؤسسة غزة الإنسانية أبطأت المسيرة إلى الجوع لكن ليس كثيرا.
ثانيا: ليس من الممكن تخفيف المجاعة بالأرقام وحدها. إذ يبدو أن نظام مؤسسة غزة الإنسانية واقف على حافة بحيرة ضخمة وتطعم السمك بإلقاء فتات الخبز. فمن يأكل الحصص الغذائية؟
يضرب الجوع الأقلية الضعيفة. والمقياس الذي تعتمده الأمم المتحدة لتحديد تحول الندرة الغذائية الحادة إلى مستويات الجماعة هو أن يواجه 20% من الأسر النقص الغذائي الحاد. والجوع يضرب الأضعف لا الأقوى.
توصلت البرامج الإنسانية على مدار عقود إلى الطريقة المثلى لاستهداف الأفقر، من قبيل النساء العزباوات، والاعتناء بالأطفال وربما الآباء المسنين على السواء. فالأمتار الأخيرة في توصيل المساعدات هي التي تحدث الفارق.
تدير مؤسسة غزة الإنسانية أربعة مواقع لتوزيع الحصص. ثلاثة منها في أقصى جنوب غزة في أطلال رفح، وواحد في وسط غزة. وجميعها تقع في مناطق عسكرية. ولا تفتح أبوابها إلا لفترات قصيرة وعقب إعلان قصير الأمد. وللحصول على هذه الحصص، لا بد أن يخيم الناس في العراء وسط الأنقاض، متأهبين للمسارعة إلى البوابات عند الإعلان، عابرين في خوف مواقع الجيش الإسرائيلي. وهم يعلمون أن الوسيلة الوحيدة لجنود الجيش الإسرائيلي في السيطرة على الزحام هي إطلاق الرصاص الحي، حتى لو لم يصوبوا بهدف القتل.
وحينما تتحدث مؤسسة غزة الإنسانية عن «مواقع توزيع آمنة»، فإنها تشير إلى مدى سيطرتها على العبوات حتى تسليمها، وليس عن ضمان التوصيل نفسه للأكثر احتياجا. لذلك يلقى عشرات من طالبي المساعدات مصرعهم كل يوم وهم يحاولون الوصول إلى هذه المواقع.
كيف يتسنى لأم مرهقة عندها أطفال جياع، أو لكبار السن وذوي الإعاقة، الانضمام إلى هذا التدافع؟ كيف لهم أن يتعاملوا مع خوف المرور لا عبر المواقع العسكرية وحدها ولكن وسط المجرمين الحريصين على سرقة أقيم ألوان الطعام لأنفسهم كي يأكلوها أو يبيعوها في السوق؟ ليست لدى مؤسسة غزة الإنسانية فكرة عمن يأكل الحصص. فما من معادلة لإطعام الأفقر. وإنما هو قانون الغابة.
ثالثا: يجب أن تكون المساعدة مرتبة لإشباع أكثر ما يحتاج إليه الناس. وعلى قمة قائمة الاحتياجات الأطعمة الخاصة لرعاية الأطفال المصابين بسوء التغذية ممن لا يستطيعون تناول الوجبات المنتظمة، من قبيل بلامبي نات [Plumpy’Nut] وهو غذاء علاجي جاهز للاستعمال.
عادة ما تحوي علبة طعام مؤسسة غزة الإنسانية على الدقيق والمكرونة والطحينة وزيت الطبخ والأرز والحمص أو العدس. ما من طعام للأطفال. ما من بلامبي نات. وما من ممرضات مدربات أو خبراء تغذية في المجتمع لتوفير الرعاية العلاجية للأطفال المتضورين جوعا.
تخيلوا والدة يائسة تقع حرفيا في نهاية السلسلة الغذائية: كيف لها أن تطبخ الحصص التي تحصل عليها؟ كيف لها أن تعثر على مياه نظيفة؟ لقد قلصت إسرائيل توافر المياه إلى نسبة ضئيلة من الحاجة اللازمة، وتقصف بقية محطات تحلية المياه. كيف لها أن توقد نارا؟ وفي غياب الكهرباء أو غاز الطبخ، قد تحرق القمامة لتسخين الطعام.
والأمر الأخير والأشد دلالة هو أن عملية الإغاثة الإنسانية الحقيقية تدعم المنكوبين، وتحترم كرامة المحتاجين، وتعمل بالتعاون مع المجتمعات. وما تفعله مؤسسة غزة الإنسانية هو العكس جوهريا: فهي تعمل على الإذلال والتخريب.
وليس الانهيار الاجتماعي الذي نشهده، وامتهان كرامة البشر، منتجا ثانويا للأذى الذي تلحقه إسرائيل. إنما هو العنصر المركزي في الجريمة: تدمير المجتمع الفلسطيني. وحكومة إسرائيل لا تبدي أي بادرة على أنها تبالي أقل مبالاة أيعيش الفلسطينيون أم يموتون؟ إنما هي تريد أن تجتنب وصمة عار الاتهام بالتجويع والإبادة الجماعية وما مؤسسة غزة الإنسانية إلا ذريعة تتنصل بها الحكومة الإسرائيلية. فلا ينبغي أن ننخدع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مؤسسة غزة الإنسانیة
إقرأ أيضاً:
في خرق واضح للتابوهات السياسية.. شخصيات إسرائيلية بارزة تدعو لفرض عقوبات قاسية على حكومة نتنياهو بسبب تجويع غزة
كشف مرصد الأزهر العالمي لمكافحة التطرف عن تطور غير مسبوق داخل الكيان المحتل، حيث وجّه 31 من الشخصيات العامة البارزة، بينهم أكاديميون وفنانون ومثقفون، دعوة مفتوحة إلى المجتمع الدولي تطالب بفرض "عقوبات قاسية" على حكومة الكيان الصهيوني، على خلفية "تجويع سكان قطاع غزة حتى الموت"، داعين إلى وقف دائم لإطلاق النار.
وتابع: ووقع الرسالة التي نشرتها صحيفة "الجارديان" البريطانية، كل من: يوفال أبراهام (الحائز على جائزة الأوسكار)، وميخائيل بن يائير (المدعي العام الإسـ ـرائيلي السابق)، وأبراهام بورغ (رئيس الكنيست الأسبق)، إلى جانب عدد من الحاصلين على "جائزة إسـ ـرائيل"، أرفع الجوائز الثقافية في الكيان.
ونوه أن الموقّعين اتهموا حكومة الكيان بتنفيذ ما وصفوه بـ "حملة وحشية ضد سكان غزة"، معتبرين أن الوقت قد حان لتدخل دولي حازم يفرض عليها التراجع من خلال فرض عقوبات صارمة تلزمها بوقف الحرب وتطبيق هدنة دائمة.
تتزامن هذه الدعوة مع تصاعد الغضب الدولي نتيجة عملية التجويع التي تنتهجها حكومة الاحتلال عمدًا ما تسبب في معاناة الآلاف من الصغار والكبار من سوء تغذية حاد، خاصة مع نشر تقارير تؤكد استهداف قوات الاحتلال لفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات غذائية.
وفي تطور موازٍ، أصدرت منظمتان حقوقيتان إسرائيليتان بارزتان، وهما: "بتسيلم" و"أطباء من أجل حقوق الإنسان" – تقارير وصفت لأول مرة سياسات الاحتلال في غزة بأنها تحمل طابع "الإبادة الجماعية".
كما حمّلت حركة الإصلاح اليهودية، وهي أكبر طائفة يهودية في الولايات المتحدة، حكومة دولة الاحتلال مسؤولية تفشي المجاعة في القطاع بشكل مباشر، مؤكدةً أن "منع الغذاء والماء والدواء والكهرباء، خاصة عن الأطفال، لا يمكن تبريره أخلاقيًا بأي حال من الأحوال".
في المقابل، تواصل حكومة دولة الاحتلال نفيها لوجود مجاعة في غزة، رغم التقارير الأممية والتحذيرات الدولية التي كان آخرها صدور تقرير بعنوان "آلية تصنيف الأمن الغذائي المرحلي المتكامل" التابعة للأمم المتحدة، والذي وثّق مستويات "تجويع حاد" في القطاع.
وشدد مرصد الأزهر على أن هذه المواقف تمثل كسرًا نادرًا للتابوهات السياسية داخل دولة الاحتلال، ما يبرز حجم المأساة الحالية في قطاع غزة والتي تستدعي موقفًا دوليًا حازمًا يسرع عملية إنقاذ شعب يُباد علنًا.