حين انسحبت الجيوش الأجنبية من معظم الدول العربية في منتصف القرن العشرين، عمّت الاحتفالات وامتلأت الشوارع بأعلام الاستقلال. اعتقدت الشعوب أن صفحة الاستعمار قد طُويت إلى الأبد، وأن زمن القهر والهيمنة قد انتهى. لكن سرعان ما اكتشفت أن الاستقلال كان في كثير من الحالات شكليًا، وأن المحتل الأجنبي ترك وراءه نظامًا جاهزًا لمواصلة مهمته… ولكن هذه المرة بأيدٍ محلية.



هذا هو ما يسميه الباحثون بـ "الاستعمار الداخلي": حالة تستولي فيها نخبة صغيرة ـ سواء كانت عسكرية أو طائفية أو قبلية أو تحالفًا من النخب السياسية والاقتصادية ـ على مؤسسات الدولة، وتحتكر السلطة والثروة، وتقصي الأغلبية من أي مشاركة حقيقية. هذه النخبة قد تشترك مع الشعب في اللغة والدين والانتماء الجغرافي، لكنها تتصرف كما لو كانت قوة غريبة، همها الأول حماية امتيازاتها حتى لو كان الثمن هو إفقار المجتمع أو تقسيمه.

اقتصاديًا، تُحتكر الثروات وتوزع عبر شبكات الولاء، في حين يُهمَّش الإنتاج الصناعي والزراعي لصالح الاقتصاد الريعي، ما يخلق فجوة هائلة بين النخبة الغنية والأغلبية الفقيرة. اجتماعيًا، تتعمق الانقسامات القبلية والطائفية، ويضعف الشعور بالمواطنة المشتركة، في حين تتآكل الطبقة الوسطى التي تعد أساس الاستقرار.ورغم أن شكله الظاهري يبدو محليًا، فإن الاستعمار الداخلي في كثير من الأحيان امتداد غير معلن للاستعمار الخارجي أو بديل عنه. فالقوى التي انسحبت عسكريًا تركت خلفها أنظمة ونخبًا سياسية مرتبطة بمصالحها، لتواصل دور الوكيل في حماية تلك المصالح مقابل البقاء في السلطة. وبهذا، يتحول الحاكم المحلي إلى أداة تخدم أجندات خارجية بغطاء وطني، فيصبح الاستعمار الداخلي حلقة جديدة في سلسلة السيطرة الأجنبية ولكن بوسائل أكثر تمويهًا.

خطورة هذا النوع من الاستعمار تكمن في أنه يرتدي قناع الوطنية. ففي حين أن الاستعمار الخارجي عدو ظاهر يمكن توحيد الصفوف لمواجهته، فإن الاستعمار الداخلي يختبئ خلف شعارات التحرير والتنمية، ويتحدث باسم الشعب، ويستفيد من الانقسامات الطائفية أو القبلية ليبقى في الحكم. وغالبًا ما يستخدم مؤسسات الدولة نفسها ـ الجيش، والأمن، والقضاء، والإعلام ـ لقمع أي معارضة، فيصبح من الصعب فصله عن "الدولة" في نظر كثيرين.

تشهد المنطقة العربية أمثلة متعددة على هذا النمط من الحكم. في السودان، أدى تهميش أقاليم مثل دارفور وجنوب السودان إلى نزاعات وانقسام.

في العراق، تحولت مؤسسات الدولة بعد 2003 إلى أدوات محاصصة طائفية أضعفت الخدمات رغم الثروة النفطية.

في لبنان، جعل نظام المحاصصة الطائفية الزعامات التقليدية أقوى من الدولة.

في مصر، تمددت المؤسسة العسكرية في السياسة والاقتصاد مع تضييق المجال العام.

في سوريا، هيمنت سلطة عائلية وأمنية اعتمدت على الولاءات الطائفية وقمعت أي معارضة بعنف دموي.

في ليبيا، حكم الفرد المطلق أحكم قبضته على الثروة النفطية من خلال أجهزة أمنية مغلقة.

أما حركة فتح، فقد تحولت من مشروع تحرري إلى سلطة حكم ذاتي متهمة بالفساد وتهميش المقاومة، ما جعلها نموذجًا لاستعمار داخلي مرتبط بواقع الاحتلال الخارجي.

الاستعمار الداخلي هو في جوهره احتلال متخفٍ في ثوب الوطنية، يفرغها من معناها بينما يرفع رايتها. والشعوب التي أسقطت المستعمر الأجنبي قادرة على إسقاط هذا الشكل الأخطر، متى أدركت أن الحرية تُنتزع انتزاعًا، وأن الدفاع عن الوطن يبدأ بتحريره من سلطة أبنائه الذين تحولوا إلى جلاديه.النتائج المترتبة على هذا الواقع عميقة وخطيرة.

سياسيًا، يستمر الحكم الاستبدادي لعقود طويلة بلا تداول حقيقي للسلطة، ويجري تقييد حرية التعبير والعمل الحزبي والنقابي.

اقتصاديًا، تُحتكر الثروات وتوزع عبر شبكات الولاء، في حين يُهمَّش الإنتاج الصناعي والزراعي لصالح الاقتصاد الريعي، ما يخلق فجوة هائلة بين النخبة الغنية والأغلبية الفقيرة. اجتماعيًا، تتعمق الانقسامات القبلية والطائفية، ويضعف الشعور بالمواطنة المشتركة، في حين تتآكل الطبقة الوسطى التي تعد أساس الاستقرار.

ثقافيًا، يُعاد تشكيل الوعي العام من خلال إعلام ومناهج تعليمية تخدم السلطة، وتُشوَّه الذاكرة التاريخية لحجب أي نماذج ملهمة للمقاومة أو الديمقراطية.

ومع ذلك، فإن الاستعمار الداخلي ليس قدرًا محتومًا. فمواجهته تبدأ بالوعي به وبكشف طبيعته، وبالفصل بين الوطن كقيمة عليا والدولة كجهاز يمكن أن يُختطف. يتطلب الأمر إعادة بناء مؤسسات الحكم على أسس مهنية شفافة، وتوزيع الثروة بعدل، وجعل التعليم والصحة حقوقًا مصانة لا امتيازات تمنحها السلطة. كما أن تمكين المجتمع المدني والإعلام المستقل، وتوحيد الصفوف حول مشروع وطني جامع، هي خطوات أساسية على طريق التحرر الحقيقي الذي يُكمل معنى الاستقلال.

فالاستعمار الداخلي هو في جوهره احتلال متخفٍ في ثوب الوطنية، يفرغها من معناها بينما يرفع رايتها. والشعوب التي أسقطت المستعمر الأجنبي قادرة على إسقاط هذا الشكل الأخطر، متى أدركت أن الحرية تُنتزع انتزاعًا، وأن الدفاع عن الوطن يبدأ بتحريره من سلطة أبنائه الذين تحولوا إلى جلاديه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء العربية السياسة الاستبدادي استبداد سياسة عرب رأي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات صحافة مقالات رياضة سياسة رياضة صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاستعمار الداخلی فی حین

إقرأ أيضاً:

وزارة الخارجية: من الآن فصاعدا التأشيرات التي تُمنح لحاملي جوازات السفر الفرنسية الدبلوماسية ستخضع لنفس الشروط التي تفرضها فرنسا

 أكدت وزارة الخارجية أنه ” من الآن فصاعداً، فإنّ التأشيرات التي تُمنح لحاملي جوازات السفر الفرنسية، الدبلوماسية منها ولمهمة، ستخضع، من كافة النواحي، لنفس الشروط التي تفرضها السلطات الفرنسية على نظرائهم الجزائريين.

وفيما يتعلق بإعلان تفعيل أداة “التأشيرة مقابل الترحيل”. فإن الحكومة الجزائرية تعتبر أن هذا الإجراء ينتهك بشكل صارخ كلا من الاتفاق الجزائري-الفرنسي لعام 1968 والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950. كما تؤكد الجزائر بأنها ستواصل اضطلاعها. بواجب الحماية القنصلية لفائدة مواطنيها بفرنسا. وستعمل على مساعدتهم في الدفاع عن حقوقهم، وضمان الاحترام الكامل لما تكفله لهم التشريعات الفرنسية والأوروبية من حماية ضد كافة أشكال التعسف والانتهاك.

من جانب آخر، تُقدّم الرسالة التي وجّهها رئيس الدولة الفرنسي إلى وزيره الأول، عرضًا مُجانبًا للواقع بخصوص مسألة اعتماد الأعوان الدبلوماسيين والقنصليين بين البلدين. فمنذ أكثر من عامين، كانت فرنسا هي من بادرت بالامتناع عن منح هذه الاعتمادات للأعوان القنصليين الجزائريين، بما في ذلك ثلاثة قناصل عامين وخمسة قناصل.

وفي هذه المسألة، كما في غيرها، لم تقم الجزائر سوى بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل. ومتى رفعت فرنسا عراقيلها. سترد الجزائر بإجراءات مماثلة. وقد تم إبلاغ السلطات الفرنسية رسميًا بهذا الموقف الجزائري الذي لا يزال ساري المفعول.

وفي فقراتها الختامية، تذكر رسالة رئيس الدولة الفرنسي إلى وزيره الأول عددًا من الخلافات الثنائية التي ينبغي العمل على تسويتها. ومن جهتها. تعتزم الجزائر، عبر القنوات الدبلوماسية، طرح خلافات أخرى مع الطرف الفرنسي، ينبغي أن تخضع بدورها لنفس المسعى الرامي إلى إيجاد تسويات لها.

مقالات مشابهة

  • من مجدلزون... فيديو لسيارات الإسعاف التي تقلّ شهداء الجيش
  • في ذكرى تأسيس الجيش.. الدبيبة يؤكد لا استقرار دون جيش موحد تحت راية القانون
  • بيت شعبي عمره 200 سنة يتحول لمقهى جاذب للسياح بالأحساء
  • بلجيكا تستدعي السفير الإسرائيلي لديها على خلفية خطة غزة.. وترفض استمرار الاستعمار
  • مصدر مسؤول في وزارة العدل لـ سانا: تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر تشكيل لجان محلية في محافظة السويداء، على رأسها ما سُمّي بـ “اللجنة القانونية العليا” التي ضمت عدداً من القضاة وأصدرت عدداً من القرارات
  •  التأشيرات التي تُمنح لحاملي جوازات السفر الفرنسية الدبلوماسية..هذا ما قررته الجزائر
  • وزارة الخارجية: من الآن فصاعدا التأشيرات التي تُمنح لحاملي جوازات السفر الفرنسية الدبلوماسية ستخضع لنفس الشروط التي تفرضها فرنسا
  • الحسيني: مصر الدولة الأولى في العالم التي تمتلك دستور دواء
  • وزير الداخلية أنس خطاب: لا يزال رجال الأمن الداخلي، إلى جانب رجال الاستخبارات، يثبتون يوماً بعد يوم أنهم صمّام الأمان لهذا الوطن الطيب وشعبه العظيم، إذ يسطرون في كل يوم ملحمة جديدة في القضاء على مختلف الخلايا التي تسعى إلى العبث والفساد بطرق متعددة