تونس- يتصاعد التوتر مجددا، وبشكل غير مسبوق بين السلطة التونسية والاتحاد العام التونسي للشغل، (أكبر منظمة نقابية في البلاد)، خاصة بعد احتجاج أنصار الرئيس قيس سعيد أول أمس أمام مبنى الاتحاد بالعاصمة ومطالبتهم بتجميد نشاط الاتحاد وحله.

وقد أثار خطاب الرئيس سعيد، الذي ألقاه خلال اجتماعه أمس برئيسة الحكومة جدلا واسعا، إذ رأى عدد من المراقبين أن حديثه عن دور قوات الأمن في حماية مقر الاتحاد، ونفيه وجود نية لاقتحامه من قبل المحتجين، يعكس تبنيا ضمنيا لاحتجاجهم.

وذهب بعضهم إلى أن هذا الخطاب يضفي شرعية على تحركات اعتُبرت اعتداء مباشرا على المنظمة النقابية، كما أثارت إشارات الرئيس إلى ملفات الفساد والمحاسبة وربط ذلك بالاتحاد، مخاوف من أن تكون هذه اللغة رسالة تهديد للاتحاد.

وتنبئ هذه الأزمة المرجحة للتصاعد أكثر بتعقيد المشهد السياسي والاجتماعي في تونس في وقت تتفاقم فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مما يدفع بعض المراقبين إلى التحذير من اقتراب "خريف ساخن" قد يشعل البلاد على أكثر من جبهة.

شرارة الأزمة

وبدأت شرارة الأزمة الأخيرة بإضراب شامل في قطاع النقل البري دام 3 أيام، نفذته الجامعة العامة للنقل المنضوية تحت اتحاد الشغل، احتجاجا على ما وصفته بتجاهل وزارة النقل والحكومة من ورائها لمطالب مهنية واجتماعية تراكمت منذ أشهر.

وشمل الإضراب المترو الخفيف والحافلات العمومية وحافلات النقل بين المدن، وأدى ذلك إلى شلل واسع في حركة التنقل، وأثر بشكل مباشر على الفئات التي لا تملك وسائل نقل خاصة وتعتمد في تنقلاتها بشكل رئيسي على النقل العمومي.

وجاء الإضراب وسط ظروف اقتصادية واجتماعية متدهورة، تعاني فيها تونس من ارتفاع في الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، مما أثار موجة غضب بين أنصار الرئيس سعيد الذين شنوا هجوما شرسا ضد الاتحاد عبر منصات التواصل.

إعلان

ولم يتوقف الأمر عند حدود الخطاب والتشهير، بل انتقل إلى الشارع، حيث نظم العشرات من أنصار الرئيس احتجاجا أمام المقر المركزي لاتحاد الشغل أول أمس الخميس، رفعوا خلاله شعارات تدعو إلى حل المنظمة وتجميد نشاطها نهائيا.

واتهم أنصار الرئيس سعيد الاتحاد العام التونسي للشغل بتخريب الاقتصاد وتعطيل مصالح العباد وتدمير البلاد بسبب إضراباته، في محاولة لدفع الرئيس للتدخل لإضعاف اتحاد الشغل الذي تراجع نفوذه منذ إحكام قيس سعيد سيطرته على البلاد.

وسرعان ما تفاعلت الأحزاب والمنظمات مع هذه التحركات حيث تتالت البيانات المنددة بحملات التحريض ضد اتحاد الشغل، متهمة السلطة بالوقوف وراء هذا التصعيد والدعوة إلى العنف بهدف تركيع الاتحاد وتقليص تأثيره، -وفق بياناتها.

وقفة احتجاجية لأنصار اتحاد الشغل للدفاع عن منظمتهم (الجزيرة)هشاشة الاتحاد

ويرى بعض المراقبين أن تراجع الاتحاد العام التونسي للشغل عن تنفيذ إضراب جديد في قطاع النقل المقرر يومي 7 و8 أغسطس/آب الحالي، يعود إلى الاستياء الشعبي الذي تسبب فيه، وتراجع شعبيته نتيجة مواقفه الداعمة لمسار 25 يوليو/تموز 2021.

ولم يحدد الاتحاد موعدا لإضراب النقل القادم رغم أنه وجه انتقادا لوزارة الشؤون الاجتماعية بأنها رفضت، في سابقة تاريخية، الجلوس على طاولة المفاوضات ضمن ما يعرف بالجلسات الصلحية لإيجاد الحلول الممكنة لتفادي الإضرابات المبرمجة.

ويرى مراقبون أن هذا الموقف الرسمي يعكس قطيعة واضحة بين السلطة والاتحاد، تضاف إلى تراكم الخلافات منذ الإجراءات الاستثنائية التي أقرها الرئيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021، والتي مهدت لتركيز السلطة بين يديه منذ 4 سنوات.

ليست المواجهة مع السلطة وحدها مصدر ارتباك الاتحاد العام التونسي للشغل، بل إن الأزمة الداخلية التي شهدها الاتحاد خلال الأشهر الماضية بشأن قيادة المنظمة فتحت المجال أمام السلطة لاستغلالها لإضعاف الاتحاد، خاصة وأن هذا الإضعاف يعني توجيه ضربة قوية لبقية مكونات المجتمع المدني.

وبالرغم من التوصل إلى اتفاق لعقد مؤتمر انتخابي في 25 و26 و27 مارس/آذار 2026 لمناقشة ترسيخ آليات الديمقراطية الداخلية، فإن الجراح الداخلية لم تلتئم بالكامل، مما يجعل الاتحاد في وضع هش قد تستغله السلطة لصالحها.

الاتحاد، الذي كان تاريخيا من أبرز المدافعين عن القضايا الوطنية والحقوق الاجتماعية والسياسية، يجد نفسه اليوم في موقف دفاعي، يتعرض لضغوط وانتقادات من الداخل والخارج، مع تراجع تأثيره في الملفات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى.

ويشير بعض المراقبين إلى أن السلطة تسيطر الآن على زمام المبادرة في قضايا حساسة مثل تعديل مجلة الشغل، وزيادة الأجور، وصندوق البطالة، وقانون الوظيفة العمومية، وهي ملفات كان الاتحاد يشارك فيها تاريخيا.

 

خريف ساخن

بدوره، أشار الكاتب والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي إلى أن التوتر بين السلطة والاتحاد لا يرتبط فقط بالإضراب الأخير في قطاع النقل، بل إن الخلافات أعمق وأقدم، وازدادت تفاقما خلال الفترة الماضية، حتى أصبحت تعكس أزمة حادة بين الطرفين، معبرا عن مخاوف من موسم صعب قادم.

إعلان

ويؤكد الجورشي في حديثه للجزيرة نت أن تحرك أنصار الرئيس قيس سعيد نحو مقر اتحاد الشغل ومحاولة اقتحامه لم يكن عملا فرديا عفويا، بل يأتي في إطار سياسة تهدف إلى تقليص دور المنظمة ودفع قيادتها الحالية للاستقالة أو الخضوع للضغوط.

ورغم الأزمة الداخلية، يحاول الاتحاد تجاوز وضعه الحالي عبر نقل الصراع إلى مواجهة السلطة والتركيز على المطالب المهنية والاجتماعية لعدة قطاعات، في وقت تتفاقم فيه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

ويضيف الجورشي أن الأزمة قد تتصاعد مع إعلان نقابات التعليم التابعة للاتحاد عن إضراب مع بداية العام الدراسي، مشيرا إلى أن كلا الطرفين يستثمر قدراته على الضغط والتأثير.

سياسة ممنهجة

من جانبه، أكد المعارض والقيادي في حزب التيار الديمقراطي هشام العجبوني أن استهداف الاتحاد ليس جديدا، بل هو جزء من سياسة ممنهجة للسلطة القائمة على رفض الأجسام الوسيطة، سواء الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني.

ويقول، للجزيرة نت، إن الرئيس سعيد رفض منذ البداية دعوات الاتحاد للحوار السياسي، في وقت تتفاقم فيه الأزمة الاجتماعية مع تجاهل الحكومة للمطالب الاجتماعية، مثل زيادة الأجور، وفق رأيه.

ورأى أن الأزمة بين السلطة والاتحاد تصاعدت بعد فترة من القطيعة، رغم دعم الاتحاد لمسار الرئيس في البداية، لافتا إلى تجاهل السلطة للاتحاد في ملفات مهمة مثل تعديل مجلة الشغل، رغم كونه أكبر منظمة نقابية.

مشيرا إلى أن التحريض المستمر لأنصار الرئيس ضد الاتحاد، واتهام قياداته بالخيانة، أسهم في زيادة التوتر ودفع البعض إلى الانجرار وراء حملات التشويه والتجييش.

بحسب مراقبين فإن إصرار السلطة على غلق باب الحوار أدى إلى انسداد قنوات التفاوض (الجزيرة)انسداد الحوار

ويوضح العجبوني أن إصرار السلطة على غلق باب الحوار أدى إلى انسداد قنوات التفاوض، مستشهدا بقرار وزارة الشؤون الاجتماعية وقف المفاوضات مع الاتحاد رغم أن حق الإضراب منصوص عليه حتى في دستور الرئيس سعيد.

معتبرا أن السلطة وصلت إلى درجة من التعسف تجعل كل السيناريوهات ممكنة، مستذكرا قرارات سابقة مثل حل البرلمان المنتخب وحل المجلس الأعلى للقضاء، والتي جاءت بدعوات من فئات قليلة من أنصار الرئيس.

وبيّن أن الأزمة الداخلية في الاتحاد، الناتجة عن الخلاف حول تعديل الفصل 20 من قانون الاتحاد المتعلق بمدة تجديد القيادة، يمكن حلها عبر آليات ديمقراطية داخلية.

وختم العجبوني تصريحاته بالتأكيد على استبعاد تمكن السلطة من حل الاتحاد أو تجميد نشاطه بسبب قوته وانتشاره في مختلف مناطق البلاد، لكنه يتوقع تصعيدا مستمرا بين الطرفين، محذرا من تداعيات غياب الحوار على الاستقرار في ظل الأزمة السياسية الراهنة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات الاتحاد العام التونسی للشغل أنصار الرئیس اتحاد الشغل الرئیس سعید بین السلطة إلى أن

إقرأ أيضاً:

الاتحاد: شريك اجتماعي في تونس أم فاعل سياسي بغطاء نقابي؟

رغم أنه لا أحد يستطيع إنكار دور الهياكل النقابية الدنيا والوسطى في الثورة، فإن المركزية النقابية قد حاولت بما أوتيت من قوة أن تنقذ نظام المخلوع وتمنع سقوطه، فما سقط من شهداء ومعهم كل أولئك الجرحى الذين كانوا ضحايا الآلة الأمنية والتحريض الإعلامي الممنهج لم يكونوا قادرين على رفع سقف الاحتجاج النقابي إلى مستوى الإضراب العام. ولا شك عندنا في أن سقوط المخلوع لم يكن حدثا متوقّعا عند عموم التونسيين، ولم يكن رهانا مطروحا ولا حدثا مرجوّا عند المركزية النقابية، ولكنّ المركزية النقابية استغلت غياب قيادة واضحة للثورة ومشاركة الهياكل النقابية المكثّفة في الحراك الثوري لتروّج لسرديتها الخاصة التي جعلتها أمام الرأي العام -بتواطؤ من المنابر الإعلامية العمومية والخاصة وبدعم نشط من "القوى الديمقراطية"- قاطرة الثورة أو الفاعل الأساسي فيها.

كانت استراتيجية المركزية النقابية -ومن ورائها النواة الصلبة للمنظومة القديمة- أن يرث الاتحادُ الحزب الحاكم وسرديته "التحديثية"  وكان ذلك يستوجب التلاعب بالتاريخ القريب قبل البعيد، أي يستوجب إعادة كتابة مزيفة للتاريخ تُغيّب فيها "الشعب المهنية" والرشاوى السياسية للقيادات النقابية -امتيازات مادية ومناصب سياسية في الدولة، خاصة في مجلس المستشارين- وينسى فيها التونسيون والتونسيات خطابات "المساندة" و"رفع التحديات" والاصطفاف اللا مشروط وراء المخلوع في سعيه إلى الحكم مدى الحياة دون التنصيص الدستوري على ذلك، كما فعل من قبله "الزعيم بورقيبة".

منذ المرحلة التأسيسية وانطلاق أعمال ما سُمّي بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، كان واضحا أن المركزية النقابية قد اختارت الاصطفاف مع الأجسام الوسيطة الموروثة من عهد المخلوع، وتلك التي تشترك معها في الموقف من الإسلام السياسي ومن أي مشروع لإعادة التفاوض الجذري حول المشترك الوطني باعتماد التمثيلية الشعبية وصناديق الاقتراع. لقد كان حل "التجمع الدستوري الديمقراطي" بقرار قضائي حلاّ لأحد جناحي النظام القديم وفرصة للجناح الثاني -أي اتحاد الشغل وباقي مكونات "المجتمع المدني"- ليتحوّل إلى فاعل سياسي أساسي، تحت غطاء الدور الوطني المنوط بالنقابيين وبالمجتمع المدني لحماية "النمط المجتمعي التونسي" المهدد من لدن "الظلامية" و"الرجعية الدينية" الممثلة في حركة النهضة وفي المجاميع السلفية وفي حزب التحرير.

رغم الاختلاف المرجعي بين النهضة والسلفية -بل رغم العداء المستحكم لدى السلفية الجهادية والعلمية للإخوان جميعا- فإن الاتحاد وباقي "القوى الديمقراطية" قد حرصوا على القفز على تلك الاختلافات، والتعامل مع الجميع باعتبارهم هوية متجانسة تُمثّل العدو الوجودي للثورة وللمجتمع ولكل القيم التي يدافع عنها "الحداثيون" بمختلف مرجعياتهم الإيديولوجية. فـ"الإسلاميون" لا يمكن أن يحضروا في السرديات "الحداثية" إلا في مفردات "الإرهاب" و"الخيانة" و"العمالة" و"الفساد"، كما لا يمكن إدارة الصراع معهم بمنطق ديمقراطي أساسه الاحتكام للإرادة الشعبية، بل تجب مواجهتهم -بلا استثناء- في إطار مقاربة أمنية-قضائية؛ هي في جوهرها مجرد إعادة تفعيل للمقاربة التي اعتمدها النظام القديم في عهد المخلوع دفاعا عن "الأساطير التأسيسية" للدولة-الأمة، أي للكيان الوظيفي ذي البنية الجهوية-الريعية-الزبونية واقعيا وذي الخطاب "الوطني" خطابيا.

لقد كان الاتحاد وباقي مكونات المجتمع المدني أول من رفع شعار مقاومة "أخونة الدولة" أو "أسلمتها"، وهو شعار تفرع عنه شعار "منع الاختراق" لأجهزة الدولة، بل للمنظمات المدنية وللإعلام وغير ذلك. ولم تكن تلك الشعارات في حقيقتها إلا محاولة للمحافظة على جزء من ميراث المخلوع كما هو، فإذا كان المد الثوري قد فرض على الدولة الاعتراف بالنهضة حزبا قانونيا، وإذا كانت الإرادة الشعبية قد دفعت بها -عبر صناديق الاقتراع- إلى مركز النظام البرلماني المعدّل، فإن للمجتمع المدني -بقيادة الاتحاد- القدرة على إفراغ هذا الوضع من أي معنى، بل كانت له القدرة على الانقلاب عليه كما حصل عند سقوط الترويكا في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، وفرض حكومة "كفاءات" هي في حقيقتها حكومة المنظومة القديمة ورعاتها الأجانب، ولعل الأخطر من ذلك -في المستوى الرمزي- هي أنها أول حكومة تُفرض على التونسيين بمنطق الاستقواء بالشارع وبالإضرابات العامة، دون أن تكون لها أية شرعية انتخابية.

مثل الأغلب الأعم من "القوى الديمقراطية"، كان الاتحاد حليفا موضوعيا لورثة المنظومة القديمة، بل كان الفاعل الأساسي الذي أُوكلت إليه مهمة إفشال الانتقال الديمقراطي وإعادة انتشار المنظومة القديمة بعد الاختلال الجزئي/المؤقت الذي عاشته بعد الثورة، ولذلك عملت "ماكينة" الاتحاد بسرعتين مختلفتين تبعا لهوية الماسك بزمام السلطة أو الراغب في الوصول إليها. ولذلك وجدنا المركزية النقابية تسارع إلى تنفيذ الإضرابات العامة والقطاعية لإضعاف حركة النهضة وحلفائها ولمساندة الأحزاب "الديمقراطية" في استراتيجيتَي الاستئصال الصلب والناعم، ولكنها كانت أكثر "وطنية" عند التعامل مع حكومة نداء تونس وشقوقها، ثم أصبح مفهوم الإضراب العام جزءا من اللا مفكر فيه بعد "تصحيح المسار" الذي ساهم الاتحاد ومنظمات المجتمع المدني في إنضاج شروطه الفكرية والموضوعية.

مهما كانت الخدمات التي قدمتها المركزية النقابية للمنظومة الحاكمة قبل الثورة ولورثتها وحلفائها في اليسار الوظيفي بعد هروب المخلوع، فإن الاتحاد لم يكن يوما جزءا من النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة، فهو مجرد فاعل جماعي مهم ولكنه فاعل بـ"الوكالة" أو بـ"المناولة" الأيديولوجية لحساب الغير أساسا (المركّب الجهوي-الأمني-المالي)، ثم لخدمة قضاياه الصغرى بالتبعية (بعض الامتيازات المادية والقيمة الاعتبارية). ولذلك كانت المركزية النقابية دائما ظهيرا موثوقا للنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي منذ الأيام الأولى "للثورة"، وكانت حليفا لكل واجهاتها السياسية منذ نداء تونس إلى "تصحيح المسار".

ورغم أن النهضة حاولت أن "تؤسلم" دور اليسار الوظيفي وارتضت أن تلعب دور "الوطد" بخيار "التوافق" منذ أعمال هيئة ابن عاشور، فإنها لم تكن شريكا استراتيجيا للنواة الصلبة للحكم، بل شريكا مؤقتا وغير موثوق لدى رعاتها الإقليميين والدوليين، وهو ما جعلها في مرمى "الوكلاء التقليديين" لتلك النواة، بدءا من الأحزاب، مرورا بالإعلام، وانتهاء بالمجتمع المدني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل.

لقد حرص الاتحاد -وباقي "القوى الديمقراطية"- على إنهاء "الفاصلة الديمقراطية"، أو على الأقل حرصوا على "تلغيمها" منذ الأيام الأولى للثورة، ولم يكن إسقاط الترويكا وتوظيف الاغتيال السياسي والإرهاب المُعولم واستضعاف الدولة بالإضرابات؛ إلا آلية من آليات إعادة هندسة الحقل السياسي وغيره بعيدا عن الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع، بل بعيدا عن أي اهتمام بـ"الحقيقة" وبـ"المهمشين" الذين يدعي الاتحاد الدفاع عنهم. فالمركزية النقابية -مثلُها في ذلك كمثل أغلب مكونات المجتمع المدني- هي مجرد ملحقات وظيفية بالنواة الصلبة للحكم، وهي "أقليات إيديولوجية" لا مصلحة لها في أي ديمقراطية حقيقية تعبّر عن تلك الفئات والأيديولوجيات المقصيّة من أجهزة الدولة ومن امتداداتها "المدنية" منذ عهد المخلوع. ولذلك كان من المنطقي أن يساند "النقابيون" و"الناشطون المدنيون" و"النسويات" نداء تونس، وأن يضغطوا عليه لابتزاز حركة النهضة في ملفات الاغتيال السياسي والإرهاب والتسفير و"الجهاز السري"، وكان من المنطقي أيضا أن يساندوا "تصحيح المسار" الذي رأوا فيه إمكانية جديدة لإخراج حركة النهضة من الحقل السياسي القانوني وتحويلها إلى ملف أمني-قضائي، كما كان الشأن زمن "صانع التغيير" و"رفع التحديات" بمشاركة المركزية النقابية وشُعبها المهنية.

رغم أن الاتحاد قد انقلب على سرديته القائلة بدوره الوطني -أي السياسي- بعد "تصحيح المسار"، فإنه قد وجد نفسه دون مرتبة الشريك الاجتماعي التي تمتع بها زمن المخلوع وفيما يُسمّيه بـ"العشرية السوداء". فالمركزية النقابية قد تعاملت مع "تصحيح المسار" باعتباره فرصة لإقصاء النهضة وإعادة الشراكة مع المنظومة القديمة تحت سقف النظام الرئاسي، وهي قراءة أثبتت الوقائع مجانبتها للصواب. فـ"تصحيح المسار" باعتباره السردية السياسية الجديدة للمنظومة القديمة لا يقوم على منطق الشراكة، بل على منطق البديل الكلي والشامل للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة. ولذلك وجد الاتحاد نفسه -ومعه سائر مكونات المجتمع المدني و"الموالاة النقدية" المتمثلة في العديد من أحزاب اليسار الوظيفي- خارج السلطة، بل خارج أي حوار معها على أساس الشراكة. وهو وضع حرج لم تجد المركزية أي رد عليه ولا يبدو أنها قادرة على ذلك، فالشيطنة المُمنهجة للأحزاب ولسائر الأجسام الوسيطة التي لا تشبه "العائلة الديمقراطية" هي عملية لم يكن الاتحاد نفسه لينجوَ منها.

إننا أمام ما يمكن تسميته بـ"الآثار غير المقصودة"، أي تلك الآثار التي لم تكن مرادة في استراتيجيات أصحابها ولكنها تحصل ضد إرادتهم. وهو ما ما نرجّح أن يستمر على الأقل في المدى المنظور بحكم "الوضع البرزخي" الذي تعاني منه القوى الديمقراطية باتحادها وإعلامها وأحزابها ومجتمعها المدني: استحالة التموضع في ما بعد 25 تموز/ يوليو 2021 ولو بمرتبة شريك "صغير"، واستحالة العودة إلى 24 تموز/ يوليو 2021 دون أن يستفيد "العدو الوجودي" -أي حركة النهضة- من ذلك.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات.. مستقبل حماس في غزة بين البقاء والتلاشي.. إعلان نيويورك يضمن نزع سلاح الحركة
  • الكوكي سعيد بالفوز فى أولى مباريات الدورى و لاعبي المصري فرضوا شخصيتهم
  • الاتحاد: شريك اجتماعي في تونس أم فاعل سياسي بغطاء نقابي؟
  • الرئيس التونسي يهدد “الخونة” ويتوعد بصفعات متكررة
  • نائب يشيد بدعم الرئيس لاستقرار الخرطوم.. ويؤكد: مصر سند السودان
  • الشغل بتونس يتهم مجموعات إجرامية بالتهجم عليه بعد احتجاج طالب برحيل قيادته
  • داخلية تونس تحذر من تضليل ممنهج.. وسعيّد: الشعب سيُسقط محاولات التأجيج
  • قيس سعيد: المحاسبة حق مشروع والطريق مسدود أمام من يسعى لإعادة الوصاية على تونس
  • أزمة مشتعلة بين الأندية الأربعة الكبرى واتحاد كرة القدم