تعبر مشكلة الباحثين عن عمل في العالم أجمع وليس في سلطنة عُمان عن فجوة كبيرة ومركبة بين قدرة الاقتصاد على توليد الوظائف وبين التحولات البنيوية التي تعصف بطبيعة العمل نفسه. في الماضي، كان ارتفاع الناتج المحلي وتوسّع الاستثمار كفيلين بخلق فرص جديدة، لكن المعادلة لم تعد قائمة كما كانت؛ فالكثير من القطاعات الحديثة، على الرغم من مساهمتها في رفع الإنتاجية، لا تزيد حجم التوظيف بالوتيرة ذاتها، بل تعتمد على الأتمتة وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعيد توزيع المهام بين الإنسان والآلة.
لا تعني هذه التحولات إلغاء الأعمال بالضرورة، لكنها تغير هيكلها، وتلغي بعض المهام التقليدية، وتخلق أخرى أكثر تخصصا، الأمر الذي يفرض على الأفراد والمجتمعات سباقا مع الزمن لمجاراة متطلبات مهارات لم تكن موجودة قبل عقد من الزمن.
الدول التي نجحت في التعامل مع هذه المعضلة لم تكتف بتحفيز النمو أو استقطاب الاستثمارات، لكنها أعادت هندسة منظومة العمل نفسها بشكل يتناسب مع معطيات الثورة التكنولوجية. وهناك تجارب مهمة وتحتاج إلى تأمل مثل تجارب الدنمارك، وتجربة ألمانيا في التعليم المهني المزدوج، وتجربة خطط سنغافورة للتعلم مدى الحياة، أو الاستثمارات الأمريكية في الطاقة النظيفة وأشباه الموصلات.. هذه التجارب وغيرها تشير إلى أن الحل لا يكمن في إضافة وظائف عشوائية، بل في بناء اقتصاد يولد وظائف نوعية تتسق مع مسار التطور التكنولوجي.
يكمن التحدي الحقيقي في سلطنة عُمان في الاقتصاد فلا يمكن أن نتحدث في عُمان تحديدا عن مشكلة الباحثين عن عمل في معزل عن الاقتصاد لأن المشكلة في عمان هي نتيجة لمشكلة اقتصادية. وما زال الاقتصاد العماني محدودا وغير قادر على توليد وظائف دائمة قادرة على استيعاب المخرجات التعليمية.. والتحدي الآخر يكمن أيضا في ضمان أن فرص العمل التي يتم خلقها تنتمي إلى اقتصاد المستقبل لا إلى ماضيه، وأن الاستثمار في القطاعات الواعدة - كالطاقة المتجددة، والاقتصاد الرقمي، والصناعات التحويلية، والسياحة المستدامة - يقترن ببرامج منهجية لإعداد الكفاءات الوطنية بما يلائم هذه القطاعات.
إن معالجة مشكلة الباحثين عن عمل تحتاج إلى تصميم مسارات مهنية جديدة وربطها مباشرة بالاستثمارات المنتجة، مع تعليم وتدريب مرن ومستمر يجعل الانتقال بين المهن والقطاعات أمرا ممكنا وسريعا ومنخفض الكلفة. وهذا النهج يمكن أن يساعد في تحويل مشكلة الباحثين عن عمل من أزمة ضاغطة إلى فرصة لإعادة ابتكار الاقتصاد والمجتمع معا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الباحثة القانونية هبة إبراهيم: معالجة جذور مشكلة الطلاق تتطلب تحديثات قانونية
قالت الباحثة القانونية هبة خالد إبراهيم: في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية وتُعاد فيه صياغة مفاهيم الاستقرار الأسري، برزت ظاهرة الطلاق كإحدى أبرز الإشكاليات القانونية والاجتماعية التي تهدد بنيان الأسرة، وتلقي بظلالها على مستقبل الأفراد والمجتمع بأسره. ورغم أن الطلاق حق مشروع تقرّه الشريعة وتكفله النظم القانونية، إلا أن ممارسته باتت في كثير من الأحيان تجري بمعزل عن غايته الأصلية، ليتحول من حل استثنائي في حالات الضرورة القصوى، إلى خيار مألوف تتخذ قراراته على عجل، لذلك أصبحت معدلات الطلاق في مجتمعاتنا تسجل ارتفاعًا مقلقًا. وأضافت أن الطلاق لم يعد ظاهرة أو أرقاما تتصاعد أو حالات فردية معزولة، بل أصبحت الظاهرة تحديًا يهدد صميم الكيان الأسري ويُزعزع ركائز الاستقرار الاجتماعي، وبات من الواجب التحرك بمنتهى الجدية عبر حزمة من التدابير القانونية والاجتماعية الصارمة التي تُعالج جذور الأزمة لا مجرد مظاهرها. كما أن إيقاف هذا النزيف الأسري لا يتحقق بالخطابات الإنشائية ولا بالمجاملات الاجتماعية، بل من خلال ضوابط فاعلة، وتدخل مجتمعي حازم يعيد للزواج هيبته، وللأسرة مكانتها، ويجعل الطلاق – كما أُريد له – آخر الحلول لا أولها. وقالت: إن السؤال الأهم يظل مطروحًا بإلحاح: هل يمكننا أن نوقف هذه الموجة المتصاعدة من حالات الطلاق؟ وهل توجد حلول فعلية وواقعية لهذه المعضلة الأسرية؟
والإجابة الحقيقية تكمن في تبني مجموعة من التحديثات القانونية والاجتماعية الجادة التي تلامس الواقع، وتعالج أسبابه من جذورها، بصرامة ووعي متوازن، أبرزها الحلول التي تجمع بين الواقعية والصرامة في آنٍ معًا، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا: في ظل ما نشهده من تصاعد مقلق في نسب الطلاق، وما يترتب عليه من تداعيات اجتماعية ونفسية جسيمة، أصبح من الضروري إقرار شرط إلزامي يُوجب على المقبلين على الزواج اجتياز دورات تأهيل وتوعية قانونية ونفسية واجتماعية، كمدخل أساسي لإبرام عقد الزواج وهو شرط لا بديل عنه، ولا يُعتد بالعقد دون اجتياز هذه الدورات ضمن برنامج متكامل، هذا الإجراء ليس شكليًا، بل جوهري، ويُعد امتدادًا طبيعيًا لحماية العقد من التسرع وسوء الفهم وسوء التقدير. فـالزواج ليس عقدًا عادياً، بل هو ميثاق غليظ، يُرتب التزامات متبادلة بين الطرفين، ويُحتّم عليهما التصرف بحسن نية وفقًا لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، فإن أي تفرد في اتخاذ القرار أو تجاهل لحقوق الطرف الآخر، يُعد إخلالًا بصلب العلاقة، ويُفضي إلى نتائج كارثية لا تقف عند حدود الزوجين، بل تمتد إلى الأسرة والمجتمع. وهذا البرنامج التأهيلي المتكامل ليس حلاً نظريًا، بل هو آلية واقعية تُعزز الفهم القانوني، وتُرسخ ثقافة الحوار، وتُمهّد لزواج قائم على الإدراك لا الانفعال، وعلى التفاهم لا التصادم. كما أن حماية الأسرة تبدأ قبل تكوينها، وما لم يُحصّن هذا العقد بالتأهيل والوعي، فستظل محاكم الأسرة شاهدة على انهيارات متكررة، كان يمكن تداركها بمادة قانونية واحدة تفرض التأهيل كشرط نافذ لإبرام الزواج.
ثانيًا: على القضاء أن يُفعّل نظام الوساطة الإجبارية قبل قبول أي طلب طلاق، حيث لا يُسمح برفع الدعوى إلا بعد إثبات استنفاد كافة جهود الإصلاح والمصالحة، هذا النظام يجب أن يكون مكلفًا قانونيًا وإجرائيًا، بحيث يُثقل كاهل من يستهين بمسؤولية الزواج.
لا يجوز أن يكون الطلاق بابًا يُفتح بسهولة، أو خيارًا متاحًا بمجرد حدوث خلاف عابر، لهذا يجدر بالقضاء أن يُلزم جميع المتخاصمين في قضايا الطلاق بالخضوع لمرحلة الوساطة الإجبارية، قبل أن يُسمح لهم برفع دعاوى الطلاق أمام المحاكم.
هذه الوساطة ليست مجرد جلسة إجرائية شكلية، بل آلية قانونية واجتماعية حاسمة يُناط بها الدور الأساسي في تهدئة النزاعات وإعادة الأُسر إلى مسارها الصحيح، كما يجب أن تتضمن الوساطة حضور متخصصين نفسيين واجتماعيين وقانونيين، قادرين على تحليل أسباب النزاع بدقة، وتقديم الحلول الواقعية التي تتناسب مع خصوصية كل حالة، بعيدًا عن الحلول السطحية أو التقليل من أهمية المشكلة، وعقد جلسات مكثفة ومحكمة لا تقل مدتها عن عدد معين من الجلسات (مثلاً 3-5 جلسات)، تتيح فرصة حقيقية للطرفين للتعبير عن وجهات نظرهما، مع توفير بيئة آمنة ومحايدة للحوار.
– وساطة إجبارية
وأن تكون هناك إلزامية استنفاد هذه المرحلة، بحيث لا يُقبل أي طلب طلاق إلا بعد تقديم شهادة من مركز الوساطة تثبت استكمال هذه الخطوة دون التوصل إلى تسوية، وإثبات أن جميع محاولات الإصلاح قد باءت بالفشل، وتكلفة قانونية وإجرائية تجعل من التسرع في الطلاق قرارًا مدروسًا، وليست خطوة سهلة أو عشوائية، بحيث تردع الراغبين في الطلاق بلا مبرر حقيقي أو بدافع انتقامي أو طارئ.
بالإضافة إلى دعم قانوني واضح يُعطي للقاضي صلاحية رفض طلب الطلاق إذا تبين وجود فرص حقيقية للإصلاح خلال مرحلة الوساطة، مع إمكانية إعادة إحالته إلى جلسات متابعة للمصالحة.
وبهذه الوساطة الإجبارية، نضمن أن لكل طرف فرصة عادلة لإعادة النظر، وأن المجتمع لا يدفع ثمن الطلاق العشوائي الذي يترك آثارًا نفسية واجتماعية مدمرة على الأفراد، خصوصًا الأطفال.
وأوصت الباحثة القانونية هبة خالد بضرورة اعتماد برنامج تأهيلي متكامل يُلزم به الطرفان قبل إبرام عقد الزواج، يشمل جوانب قانونية ونفسية واجتماعية، ويُعد اجتيازه شرطًا جوهريًا للاعتداد بصحة العقد. وفرض مسار الوساطة الأسرية الإلزامية كمرحلة سابقة على قبول دعاوى الطلاق، تُشرف عليه جهات معتمدة، ويُشترط إتمامه قبل قيد الدعوى أمام القضاء.
بالاضافة إلى تقييد حالات الطلاق غير المبرر (العشوائي) بضوابط تشريعية، بحيث يُحمّل الطرف المتسبب دون مبرر مشروع في إنهاء العلاقة تبعات مادية واضحة، وفي حال ثبوت لجوء أحد الطرفين إلى الطلاق تعسفًا أو دون مبرر مقنع، تُفرض عليه غرامة مالية كبيرة تُحدَّد قضائيًا، ويُوقف إجراء الطلاق إلى حين سدادها، وذلك للحد من حالات الطلاق الانفعالي، وحماية لكيان الأسرة من التفكك العبثي.
الشرق القطرية
إنضم لقناة النيلين على واتساب