"حين يسقط نظام عظيم، لا تكون الدبابات ولا الأزمات الاقتصادية وحدها السبب.. بل العقول التي أعيد تشكيلها لتفكر بعيون العدو. من موسكو إلى القاهرة، تصنع واشنطن قادتها المحليين بصبرٍ هادئ، حتى يأتي اليوم الذي تتحول فيه الأوطان إلى مزارع، وحكامها إلى جورباتشوفات عرب يؤدون مسرحية الانهيار كأنها قدر محتوم".
من جورباتشوف إلى السيسي، يتكرر المشهد: قادة يصنعهم الغرب، ليهدموا أوطانهم من الداخل وكأنها مسرحية قدر.
بالصدفة البحتة، تتقاطع الحكايات وتتوالى الخيوط حتى تصبح لوحة كاملة لا يراها إلا من يبتعد قليلا عن الضجيج.
ضابط شاب يتلقى تدريبه في قاعدة أمريكية بعيدة، قائد عسكري يدرس في كلية الحرب في بنسلفانيا، ثم حادث طائرة غامض يبتلع نخبة من ضباط المخابرات المصريين في المحيط الأطلسي، وأسماء تتكرر بين الصداقات والدروس والمحاضرات.. كلها صدف متتابعة.. أو هكذا يُراد لنا أن نصدق.
منذ ثمانينيات القرن الماضي اعتمدت واشنطن على استراتيجية واضحة في صناعة قادتها المحليين في المنطقة العربية. ليست المؤامرة صاخبة، بل هادئة، متدرجة، تشبه قطرة الماء التي تنحت الصخر بلا ضجيج: تدريب، ترويض، ثم تمكين.
صناعة القادة على الطريقة الأمريكية
عام 1981 كان النقيب عبد الفتاح السيسي يتلقى دورة أساسية في سلاح المشاة بقاعدة فورت بنينغ في ولاية جورجيا الأمريكية، هناك تعرّف على الضابط الأمريكي فرانك فيليبس الذي أصبح صديقا مقربا له، إلى درجة أنه اصطحبه لاختيار خاتم زواجه من مدينة كولومبوس القريبة.
في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1999 تتحطم طائرة مصر للطيران 990 أمام ساحل ماساتشوستس بعد 55 دقيقة من إقلاعها، حاملة 35 ضابطا من نخبة المخابرات المصرية و3 علماء ذرة؛ لم ينج أحد.. طبعا سوى السيسي الذي "فاته" السفر على الطائرة نفسها لأنه قرر بالصدفة البحتة البقاء في الفندق.
في 2005 و2006، تخرج العميدان صدقي صبحي وعبد الفتاح السيسي من كلية الحرب الأمريكية في كارلايل، حيث أشرفت على تدريبهما الباحثة الإسرائيلية الأصل شريفة زهور والتي وصفت تجربتها معهما بأنها "غريبة ومثيرة للغاية".
ثم تأتي الصدفة الكبرى: يتحول هؤلاء الضباط الذين تربوا في أحضان واشنطن إلى قادة دولة كبرى بحجم مصر، فيتصرفون فيها كإقطاعية مؤممة لصالح التحالف الأمريكي- صهيوني، فينهار الاقتصاد، وتُسحق المعارضة، وتُطبق في شوارع القاهرة تقنيات القمع والقتل التي جُربت في الضفة وغزة.
من موسكو إلى القاهرة.. نفس الوصفة
لم يكن سقوط الاتحاد السوفييتي نتيجة الدبابات أو الانهيار الاقتصادي فقط، بل نتيجة العقول التي أعيد تشكيلها لتفكر بعيون العدو، حيث اعتمدت واشنطن آنذاك على استراتيجية دقيقة تقوم على:
- زرع قيادات مطواعة أو فاشلة في المناصب الحساسة.
- تشجيع قرارات داخلية تؤدي إلى إضعاف الدولة من الداخل.
- صناعة نخب تتبنى رؤية الغرب على حساب أوطانها.
هكذا جاء ميخائيل جورباتشوف كزعيم ضعيف في لحظة تاريخية. تبنّى إصلاحات ظاهرها الحرية وباطنها التفكيك، فكانت "البريسترويكا" هي البوابة التي دخل منها الانهيار الكبير.
واليوم، تتكرر القصة في المزارع العربية: قادة عسكريون يُعاد تشكيل وعيهم في الأكاديميات الأمريكية، ليعودوا متسلحين بالشرعية العسكرية والعلاقات السرية، حتى إذا جاء يوم الامتحان، ينفذون السيناريو الأمريكي بلا لحظة تردد ودون أن يرف لهم جفن لدماء أبناء وطنهم التي تراق ولا أوطانهم التي تهدم.
وهكذا، كما انهارت موسكو من الداخل تحت رعاية البيت الأبيض، تتفكك العواصم العربية ببطء تحت شعارات "التحديث العسكري" و"التعاون الأمني" و"مصلحة الوطن وأمنه".
درس الصدف التي ليست صدفا
كما صُمم جورباتشوف ليهدم إمبراطوريته من الداخل، يُصنع اليوم عشرات "الجورباتشوفات العرب" في كليات الحرب الأمريكية، وكما تفكك السوفييت عبر بوابات الانفتاح المدروس، تتفكك الدول العربية عبر مسار "التعاون الأمني" ذاته.
ختاما.. الصدف ليست بريئة والعملاء لا يولدون فجأة، إنهم يُزرعون بصبرٍ في قلب الجيوش والمؤسسات، يترقّبون لحظة الانقضاض، ثم يؤدّون مشاهد المسرحية كأنها قدرٌ محتوم.
وفي اليوم الموعود، يطلقون رصاصة الرحمة على أوطانهم باسم الاستقرار، بينما تصفق الشعوب المنهكة من الجوع والخوف.. غير مدركة أن هذا التصفيق، هذه المرة، هو إعلان جنازة الوطن.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات عرب السيسي التحالف السيسي امريكا تحالف عرب قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات مدونات مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات رياضة صحافة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من الداخل
إقرأ أيضاً:
الصرافين الجنوبيين: السوق النقدي يواجه خطر الانهيار بسبب المضاربات وسوء الإدارة
أكدت نقابة الصرافين الجنوبيين أن إنقاذ النظام المالي والمصرفي لم يعد خيارًا مؤجلًا بل ضرورة وطنية ملحة، داعية البنك المركزي وجميع الجهات المعنية إلى تحمل مسؤولياتهم التاريخية واتخاذ قرارات جريئة وشاملة لإيقاف الانهيار واستعادة الثقة، على أسس من الشفافية والمحاسبة، وبعيدًا عن هيمنة المصالح والمحسوبية.
وأوضحت النقابة في بيان صادر عنها أن الأوضاع المالية والمصرفية في البلاد تمر بمرحلة حرجة، وسط تدهور مستمر في قيمة العملة الوطنية واتساع نطاق المضاربة، محملة شركات صرافة كبرى مسؤولية مباشرة في هذا الانهيار، في ظل غياب الضوابط الرقابية الفاعلة والتدخل المؤسسي الرشيد.
وقالت النقابة إن عددًا من شركات الصرافة الكبرى مارست سلوكيات مضاربة خارجة عن الإطار التنظيمي، مستفيدة من "امتيازات غير مبررة" و"حصانات غير مفهومة"، وهو ما أدى إلى مكاسب شخصية كبيرة على حساب استقرار الاقتصاد ومعيشة المواطنين.
وأكدت النقابة أنها أصدرت أكثر من أربعين بيانًا توضيحيًا خلال الفترات الماضية، تناولت فيها بالتفصيل أبرز التحديات الاقتصادية وقدمت توصيات عملية للحلول، غير أن تلك الشركات المهيمنة واصلت ممارساتها الاحتكارية دون رادع.
في ما يخص التغيرات الأخيرة في سعر صرف العملات، قالت النقابة إن الانخفاض الحاد في أسعار العملات الأجنبية لم يكن عفويًا، بل نتيجة لتدخل من أطراف سبق أن كانت سببًا مباشرًا في الانهيارات السابقة، معتبرة أن ما يجري "عبث مستمر" في السوق النقدي يهدد بانهيار أوسع إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة.
وحذرت من أن غياب إصلاحات هيكلية وجذرية سيؤدي إلى موجات انهيار متتالية، مشددة على ضرورة المضي في تنفيذ إصلاحات مالية ونقدية شاملة لضمان استقرار سعر الصرف وتعزيز الثقة في النظام المصرفي.
لفت البيان إلى أن السوق المحلية تشهد طلبًا متزايدًا على العملات الصعبة بسبب ضعف قنوات التوريد الرسمية، وغياب سياسات تسعير مرنة ومدروسة من البنك المركزي. كما أشار إلى أن بعض قرارات البنك – وعلى رأسها تحديد أسعار صرف غير واقعية – ساهمت في اتساع الفجوة بين السوق الرسمية والموازية، وفتحت المجال لمضاربات جديدة تورطت فيها شركات صرافة نافذة.
وقدمت نقابة الصرافين الجنوبيين مجموعة من التوصيات العملية والإجراءات العاجلة لتنظيم السوق وضبط الصرافة بينها إلزام جميع شركات ومنشآت الصرافة، بما فيها الفروع المرخصة، بترحيل كامل مشترياتها من العملات الأجنبية إلى البنك المركزي أسبوعيًا، والتسوية بالريال اليمني وفقًا لسعر السوق الرسمي، وكذا منع البنوك التجارية وبنوك التمويل الأصغر من بيع وشراء العملات الأجنبية، وقصر دورها على الوساطة المالية والتمويل.
كما شددت النقابة على وقف نشاط الشركات التي تحوّلت فعليًا إلى بنوك غير مرخصة، والتحقق من الكتلة النقدية المخزنة لديها، وإدخالها في النظام المصرفي الرسمي، إضافة إلى تعليق عمل شبكات التحويل التابعة للبنوك، وعلى رأسها شبكة بنك الكريمي، لا سيما بعد فتح باب المساهمة في الشبكة الموحدة، بما يضمن عدالة التوزيع بين جميع المساهمين دون تأخير.
ودعت نقابة الصرافين الجنوبيين البنك المركزي إلى ضخ 100 مليون دولار لتغطية واردات السلع الأساسية عبر لجنة تنظيم الاستيراد، لتعزيز الثقة في السوق، والاستمرار في ضخ العملات الأجنبية بآلية شفافة ومنظمة، وتوزيعها بعدالة بين المستوردين، إلى جانب تطوير الرقابة اليومية على حركة المضاربة ومحاسبة المتلاعبين دون استثناء.
كما طالبت الجهات الحكومية بمنع دخول القات من مناطق سيطرة الحوثيين بشكل تجريبي لمدة شهر، باعتبار أن عملية توريد القات تؤدي إلى تهريب العملات الصعبة وتعزيز السوق السوداء.
وفي معرض ردها على تصريحات محافظ البنك المركزي الأخيرة، التي وصف فيها السعر في صنعاء بأنه "وهمي"، أكدت النقابة أن السعر المسجل في عدن أيضًا غير معبر عن قوى السوق الحقيقية، وإنما نتيجة لترك السوق لفئة محدودة من المضاربين.
وقالت إن البنك المركزي يعرف الجهات المتلاعبة بالسوق، وإن التراخي في محاسبتها ساهم في تعقيد الأزمة. كما اعتبرت أن آلية المزادات الأسبوعية السابقة كانت من أبرز أسباب الانهيار، مشيدة بالانتقال إلى لجنة تنظيم الاستيراد باعتبارها خطوة إيجابية تستحق التعزيز.
وجددت النقابة التأكيد على أن تحميل صغار الصرافين أعباء السياسات الخاطئة وسلوكيات الشركات الكبرى هو "ظلم غير مقبول"، داعية إلى تحقيق العدالة في الرقابة والمساءلة، وتوجيه الإجراءات نحو الجهات المتسببة بالأزمة.