إبراهيم شقلاوي يكتب: سويسرا .. فصل جديد من العلاقات السودانية الأمريكية
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
في تطور لافت بالعلاقات السودانية الأمريكية، التقى رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بمستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية، مسعد بولس، يوم الإثنين 11 أغسطس 2025 في زيورخ، بطلب مباشر من واشنطن، وفقًا لـ”العربية”. اللقاء يعكس تغيرًا في نهج الولايات المتحدة تجاه الملف السوداني، وتراجعًا عن الاعتماد التقليدي على الوسطاء الإقليميين، وعلى رأسهم الإمارات.
اللقاء، الذي لم يُعلن عنه رسميًا في الخرطوم حتي اللحظة ، يعكس مستوى متقدمًا من الثقة بين الطرفين، ويجسّد مرحلة جديدة من الحوار المباشر، بعيدًا عن القنوات التي كانت مؤثرة في توجيه مسار الأزمة السودانية.
الولايات المتحدة، وفق مصادر متعددة، وضعت على طاولة النقاش مقترحًا واضحًا لوقف شامل لإطلاق النار في السودان، كجزء من رؤية أشمل لإعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني، وترسيخ دور السودان كشريك فاعل في مكافحة الإرهاب وتعزيز أمن البحر الأحمر، وهو الملف الذي بات يحتل أولوية متقدمة في الأجندة الأمريكية، بالنظر إلى تعقيدات الوضع الإقليمي وارتباط السودان المحوري جغرافيًا بمنطقة بالغة الحساسية.
هذه التحركات تؤكد أن واشنطن لم تعد تنظر إلى السودان من زاوية الأزمات الإنسانية ، بل كفاعل استراتيجي يمكن الوثوق به في ملفات إقليمية كبرى، وهو ما يُعدّ تطورًا ملحوظًا في طبيعة العلاقة الثنائية، ويعزز من موقف السودان السياسي والدبلوماسي.
ما يلفت النظر في هذا اللقاء أيضًا أنه تم خارج علم بعض الأطراف الإقليمية المتنفذة ، ولم تكن الإمارات، على سبيل المثال، على دراية به إلا بعد حدوثه، مما يعكس نجاحًا دبلوماسيًا سودانيًا في انتزاع هامش حركة مستقل، وربما يمثل بداية لإعادة صياغة التحالفات الإقليمية والدولية وفقًا لأولويات سودانية وطنية .
البرهان بدوره لم يذهب إلى هذا اللقاء بدون ضمانات أو أوراق ضغط، فقد عبّر عن موقفه الرافض لوجود مليشيا الدعم السريع في السلطة أو في أي عملية سياسية قادمة. هذا الموقف يضيف بعدًا جديدًا لمسار التفاوض، ويعكس رغبته في تقليص نفوذ المليشيا ، بما يدل على إدراكه لأهمية إزالة العوائق التي تقف في طريق السلام والاستقرار، تمهيدًا لإنهاء الحرب والدخول في مرحلة انتقالية أكثر استقرارًا.
تنسيق اللقاء جاء أيضًا بعد جهود دولية وإقليمية معقدة ، شاركت فيها تركيا وقطر ومصر، وهو ما تجلى في تحركات وزراء الخارجية واجتماعاتهم المكثفة خلال الأسابيع الماضية، إضافة إلى دعم لوجستي قطري تمثل في هبوط طائرة ضخمة في مطار بورتسودان، قبل يومان من اللقاء، في إشارة إلى انخراط واضح في تهيئة الأجواء لهذا التحول السياسي.
غير أن المراهنة على نجاح هذا المسار تظل مشروطة بقدرة القيادة السودانية على توظيف هذا الزخم الإقليمي و الدولي وتفعيله داخليًا، في ظل تحديات أمنية واقتصادية خانقة، وانقسامات سياسية تحتاج معالجات .
الإشارات الصادرة عن واشنطن، مطلع الاسبوع الماضي بما في ذلك تقارير حول نية الإدارة الأمريكية تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية، تعكس تحولًا في الموقف الأمريكي من المليشيا التي كانت تحظى بدعم إقليمي واضح، وتضع شركاءها في زاوية ضيقة، ما قد يؤدي إلى إعادة تموضع إقليمي إجباري يتماشى مع الاتجاهات الجديدة.
وفي المقابل، فإن استمرار اللقاءات بين البرهان والدوائر الأمريكية خارج إطار التنسيق الإقليمي المعتاد، يمنح القيادة السودانية أوراق ضغط جديدة على طاولة التفاوض، ويمنح الملف السوداني دفعة حقيقية نحو الحل.
الأمريكيون ، من جهتهم، يظهرون انفتاحًا غير مسبوق للتعاون مع الخرطوم، ليس فقط في الملف الأمني، بل أيضًا هناك مؤشرات في اهتمامهم بالمجالات الاقتصادية والاستثمارية، حيث تنظر واشنطن إلى السودان كفرصة لإعادة إعمار بلد غني بالموارد، مع أهمية استراتيجية كبيرة. وهذا يعزز فكرة أن اللقاء يمثل بداية مرحلة جديدة من التعاون، تقوم على مبدأ الشراكة المباشرة، بعيدًا عن وسطاء قد يعرقلون الحلول.
إن أهمية هذا اللقاء لا تكمن فقط في طبيعته السرية أو توقيته، بل في الرسائل التي يحملها حول مستقبل السودان في المعادلة الإقليمية، والفرص التي يمكن أن تنشأ إذا ما أُحسن استثمار هذا الانفتاح الأمريكي.
غير أن الشفافية في التعاطي مع الرأي العام السوداني بشأن فحوى هذه اللقاءات تظل أمرًا مهمًا ، ليس فقط لطمأنة الداخل، بل لتأكيد الجدية في إدارة المرحلة القادمة بعيدًا عن السرية و الغموض الذي طالما غذّى الشائعات وأضعف الثقة في مؤسسات الدولة.
من منظور #وجه_الحقيقة، تقف بلادنا اليوم أمام مفترق طرق . وإن تمكنت قيادتها من ترجمة الزخم الدبلوماسي إلى خطوات عملية، فقد تشكّل زيورخ بداية حقيقية لمسار استعادة الأمن والسلام . هذا اللقاء قد يؤسس لوقف شامل لإطلاق النار، ويفتح الباب لحوار جاد مع الأطراف المعنية، خاصة الإمارات، لوقف تغذية مليشيا الدعم السريع. غير أن النجاح يظل مرهونًا بقدرة القيادة على توظيف الدعم الإقليمي والدولي وتحويله إلى واقع يرسّخ أمن السودان واستقراره.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 13 أغسطس 2025م [email protected]
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: هذا اللقاء
إقرأ أيضاً:
من الرباعية إلى الحوار المباشر: التحول الأمريكي وتراجع الدور الإماراتي في الملف السوداني
من الرباعية إلى الحوار المباشر: التحول الأمريكي وتراجع الدور الإماراتي في الملف السوداني
مدخل:
بالأمس كتبتُ مقارنة تحليلية بين السودان والإمارات، خلصت فيها إلى أن المستقبل – رغم كل ما يمر به السودان من تحديات – سيكون للدولة صاحبة التاريخ العميق، والموقع الاستراتيجي الحاكم، والموارد الكامنة التي لم تُستثمر بعد.
وفي اليوم ذاته، خرجت أنباء عن لقاء سوداني–أمريكي، تم بطلب من الولايات المتحدة، جرى فيه رسم الخطوط العريضة لمسار جديد للعلاقات بين البلدين، وانتهى بإعلان واشنطن رغبتها في استعادة العلاقات المباشرة مع الخرطوم، وإعادة التنسيق في ملف مكافحة الإرهاب.
هذا التطور لم يكن مجرد خبر دبلوماسي عابر، بل يمثل تحولًا في معادلة إدارة الملف السوداني إقليميًا ودوليًا.
متن:
خلفيات إلغاء اجتماع الرباعية
كان من المقرر أن تستضيف واشنطن في 29 يوليو 2025 اجتماعًا لـ”الرباعية حول السودان” بمشاركة الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، والمملكة المتحدة، لمناقشة مسار السلام في السودان.
لكن قبل أيام قليلة من موعده، ألغت وزارة الخارجية الأمريكية الاجتماع بشكل مفاجئ، وهو ما اعتبر إشارة أولى على تغير المزاج السياسي في واشنطن تجاه آلية الرباعية.
من خلال تتبع سياق الأحداث، يمكن رصد ثلاثة دوافع رئيسية:
1. انعدام الجدوى العملية للوساطة الجماعية
تجربة الشهور الماضية أثبتت أن تعدد الأطراف الوسيطة أدى إلى بطء شديد في اتخاذ القرارات، وتضارب في أولويات الأعضاء، ما جعل الوصول إلى اتفاقات حقيقية أمرًا شبه مستحيل.
2. تنامي الشكوك في دور بعض الوسطاء
تقارير غربية وأفريقية أشارت إلى أن بعض القوى المشاركة في الرباعية – وعلى رأسها الإمارات – لم تكن محايدة بالكامل، بل دعمت أطرافًا بعينها في الصراع، ما جعل دورها كوسيط موضع شك.
3. تغير الحسابات الاستراتيجية لواشنطن
في ظل احتدام التنافس الدولي على البحر الأحمر والقرن الإفريقي، رأت الولايات المتحدة أن التحرك المباشر مع السودان يحقق نتائج أسرع، ويمنحها قدرة أكبر على ضبط إيقاع الأحداث دون وسطاء.
بعد أسبوعين فقط من الإلغاء، ظهر المبعوث الأمريكي في لقاء مباشر مع قائد الجيش السوداني في 12 أغسطس، ما أكد أن المسار الجديد قد تم تفعيله بالفعل.
أولاً: سقوط معادلة الوسطاء
لسنوات، أُديرت قضايا السودان عبر وسطاء إقليميين أو صيغ جماعية مثل “الرباعية” و”الخماسية”، وكانت الإمارات أحد أهم هذه الممرات الإلزامية لأي تحرك دولي تجاه الخرطوم.
لكن التحرك الأمريكي الأخير يشير بوضوح إلى أن واشنطن لم تعد ترى جدوى في الاعتماد على قنوات وسيطة. المرحلة الجديدة عنوانها: التعامل المباشر مع السودان.
ثانياً: ترقية السودان في التصنيف السياسي
اللقاء المباشر لم يكن في سياق إنساني أو لبحث هدنة مؤقتة، بل تناول ملفات استراتيجية، على رأسها الأمن ومكافحة الإرهاب. هذه طبيعة حوارات تُعقد مع دول الصف الأول في الإقليم، ما يعكس أن السودان بات يُعامل كفاعل سياسي إقليمي له وزنه، وليس مجرد “ملف أزمة” يحتاج لإدارة خارجية.
ثالثاً: إعادة التموضع الأمريكي في الإقليم
الولايات المتحدة تُعيد توزيع أوراقها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. بعد سنوات من ترك الملف السوداني تحت إدارة غير مباشرة عبر أبوظبي أو عواصم أخرى، بات واضحًا أن هذه الصيغة لم تحقق مصالح واشنطن الاستراتيجية.
الإمارات، التي بنت نفوذًا عبر الدعم العسكري والمالي لفصائل محددة، تواجه الآن انكماشًا في قدرتها على التحكم بالملف، فيما تستعيد الخرطوم مساحة أوسع للحركة والتفاوض المباشر مع القوى الكبرى.
رابعاً: التحول من الوساطة إلى التعامل المباشر – الفوارق الجوهرية
يمكن تلخيص الفوارق على النحو التالي:
– قناة الاتصال: من اجتماعات رباعية وخماسية عبر وسطاء… إلى لقاءات واتصالات مباشرة بين واشنطن والخرطوم.
– جدول الأعمال: من ملفات إنسانية وإجرائية متقطعة… إلى ملفات استراتيجية تشمل الأمن، مكافحة الإرهاب، والمسار السياسي المباشر.
– وتيرة التقدم: من بطء وتعثر بفعل تباين مواقف الوسطاء… إلى سرعة أكبر في اتخاذ القرارات المباشرة.
– موقع السودان: من “موضوع” على طاولة الوسطاء… إلى “شريك مفاوض” في موقع الندّية.
– دور الإمارات والوسطاء: من ثقل كبير وقدرة على ضبط الإيقاع… إلى انكماش واضح مع تقليص اعتماد واشنطن على قنواتهم.
خامساً: انعكاسات التحول على موازين القوى الإقليمية
1. انكماش الدور الإماراتي: فقدت أبوظبي دورها كمعبر إلزامي لأي مبادرة أمريكية تجاه السودان.
2. تعزيز استقلال القرار السوداني: الخرطوم أمام فرصة لتحديد أجندتها دون إملاءات من محاور إقليمية.
3. إعادة توزيع النفوذ: مساحات كانت تحت سيطرة لاعبين محددين قد تفتح لأطراف أخرى مثل تركيا وقطر.
سادساً: المسار المتوقع
– سياسيًا: انخراط أمريكي مباشر في القضايا السودانية الكبرى مع تراجع دور الوسطاء.
– أمنيًا: تعزيز تبادل المعلومات الأمنية والدعم في مكافحة الإرهاب.
– اقتصاديًا: احتمالات متزايدة لفتح استثمارات ومشروعات تنموية مباشرة مع السودان.
مخرج :
الانتقال من مرحلة “الرباعية والخماسية” إلى الحوار المباشر ليس تغييرًا في الشكل فقط، بل هو إعادة تعريف لموقع السودان في معادلة الإقليم.
إنها لحظة نادرة تمنح الخرطوم مساحة للتأثير وإعادة صياغة توازن القوى من موقع الشريك، لا التابع.
لكن هذه اللحظة، مثل كل الفرص التاريخية، لن تدوم إن لم تُترجم إلى مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية مستدامة.
يبقى السؤال: هل يستثمر السودان هذه اللحظة؟
وليد محمدالمبارك احمد
إنضم لقناة النيلين على واتساب