جريدة الرؤية العمانية:
2025-08-17@16:59:46 GMT

الفقد.. وما أدراك ما الفقد؟!

تاريخ النشر: 17th, August 2025 GMT

الفقد.. وما أدراك ما الفقد؟!

 

 

 

د. مجدي العفيفي

 

(1)
فقد الوطن.. فقد المدينة.. فقد الإنسان والإنسانية.. فقد الأحباب والأصدقاء.. فقد الأهل والأهلية بالمعنى العام.. فقد منظومة القيم.. فقد الصدق والمصداقية.
شعور لا شبيه له، ولا كلمة تقدر أن تحتويه.. ليس مجرد غياب، ولا مجرد فراغ... بل حضور غائب، صوت ساكن في الأذن حتى بعد أن يسكت.

.

رائحة عالقة في الذاكرة، لمسة مختبئة بين ثنايا الوقت، ذكرى تطلّ كلما غفا القلب لحظة.

إحساس أعرفه؛ أعرفه كأن القلب نفسه يكتب سطورك. الفقد ليس عدوًا، بل رفيقًا مؤقتًا قاسيًا، لكنه صادق.. يجيء ليعلمك قيمة ما كان، يختبر عمقك، ويعيد ترتيب ملامحك من الداخل.

لكن حتى الفقد لا يسرق منك كل شيء؛ يظل في القلب مكان دافئ، يحتفظ بحكاياهم، صورهم، ضحكتهم، وكل "حاجة حلوة سابوها فيك".
الفقد.. حالة من الشوق لا تُشرح إلا بالصمت.. أكثر من غياب، أكثر من هجرة روح أو جسد.. هو ذلك الثقب الذي يتسع كلما حاولت ملأه، ذلك الفراغ الذي يتنفس ببطء، وكلما مرّت اللحظات تكشف لك عمقه أكثر.. هو ليس مجرد غياب شيء ما، بل غياب المعنى؛ الوجود الذي كان يكتمل بوجودهم، العالم الذي كان ذا لون، وأنت من دونهم كسحابٍ بلا مطر، كأرضٍ لم تعرف خطوةً بعد.

 

(2)
فقد الوطن.. ذلك الذي لا يُمكن أن يُوصف بكلمات؛ فكيف يمكن لك أن تضع الوطن في جملة؟ كيف تشرح للمشاعر الفوضوية كيف كان الوطن معك، كيف كان في العيون، في الصوت، في الهواء الذي تتنفسه، في الطريق الذي تسلكه يوميًا؟ الوطن ليس فقط مكانًا.. إنه السقف الذي يُظلك، والظل الذي يلحقك أينما سرت، هو الوشيجة التي تربط الفرد بالوجود. لكن حين يفقد الإنسان وطنه، لا يعود بإمكانه أن يحدد اتجاه الرياح، لأن الرياح نفسها قد ضاعت.

 

(3)
فقد المدينة.. مدينة تحتضنك يومًا بعد يوم، تستمع لصوتها، تشم رائحتها، وتعيش أزقتها وطرقاتها، وجدرانها التي تشهد على وجودك. وعندما تترك المدينة، يشعر قلبك كما لو أنك غادرت جزءًا منك، أو أنك تركت خلفك روحًا بين الجدران.

لكن الفقد هنا ليس مجرد فقدان مكان.. إنه فقدان حياة كانت تُحيا بين الناس، بين الوجوه والأصوات، التي كلما مرّ الزمن، أصبحت أكثر حضورًا في ذاكرتك من الفعل ذاته.

 

(4)
فقد الإنسان والإنسانية.. إنه أقسى أنواع الفقد؛ حيث يصبح الإنسان فجأة بلا أمل، يفقد تلك الأيدي التي كانت تمدّ له العون، وتلك الألسن التي كانت تهمس له بالسلام، والإنسان الذي كان يشاركك ضحكتك ويشعرك أنك موجود.. يُختطف فجأة، فتجد نفسك عاريًا من المعنى. إنه ليس فقدًا جسديًا فقط، بل فقد الروح؛ فقد الحضور الذي كان يزرع البسمة في عينيك، فتشعر أن الفراغ يلتهم قلبك بينما تستمر الأيام بلا تلك اللمسات التي كان يتركها من تحب.

 

(5)
فقد الأحباب والأصدقاء.. أولئك الذين كانوا يشكلون حياتك، كل ابتسامة منهم كانت تعني أنك ما زلت على قيد الحياة، أنك ما زلت تحتفظ بمكانك في هذا العالم. لكن حين تذهب تلك الأرواح، تجد نفسك عائمًا في بحر من الذكريات؛ تلك التي لا تستطيع أن تمسك بها، ولا يمكنك أن تتركها. تظل عالقة في مكانٍ ما في قلبك؛ تستطيع أن تذكر تفاصيلهم، لكنك لا تستطيع أن تُعيدهم. ذلك النوع من الفقد هو أصعب أنواعه، لأنه يسلبك جزءًا من روحك، جزءًا لا يُعوض.

 

(6)
فقد الأهل والأهلية.. قد يظن البعض أن هذا الفقد مجرد تمزق للصلة الأسرية، لكن ما أعمق أن تجد نفسك بلا مرجعية، بلا حبل يربطك بالأصل. الأهل ليسوا مجرد دماء وأسماء، هم الذين منحوك معنى العائلة، ومعنى أن تكون "مُحتَضنًا". وإذا اختفت تلك الجذور، تجد نفسك تتلمس الطريق، وتشعر كأنك غريب في وطنك، تتساءل: أين المكان الذي كانت فيه أذرعهم؟ وأين الصوت الذي كان يهمس لك بالطمأنينة؟

 

(7)
فقد منظومة القيم.. هنا يبدأ القلب في الغرق. القيم هي الأسس التي نعتمد عليها لبناء حياتنا، لكن عندما تهتز هذه الأسس، ويُصبح الكذب أداة نجاح، والخيانة مقياسًا للوفاء، والمصالح سيدة المواقف، تصبح الحياة مستنقعًا... مستنقعًا يُغرق الإنسان في دوامة من اللامبالاة، ويجعله لا يعرف ما الصحيح وما الحقيقي. وفي هذا الفقد يفقد الإنسان نفسه، تسقط قناعاته، ويصبح سابحًا في بحر بلا مرسى.

 

(8)
فقد الصدق والمصداقية.. حين يغيب الصدق، يغيب كل شيء؛ يصبح العالم في عينيك مجرد صور مُزيفة يتم استبدالها كل لحظة. عندما تُجرَّد الكلمات من معناها، وتصبح الأقوال مجرد هراء لزيادة المشاهدات، وحين تتحول النوايا إلى سلع، يصبح الصدق هو الكلمة الضائعة في عالم مليء بالخداع.

 

(9)
الفقد، يا صديقي، ليس مجرد غياب... إنه غياب حاضر، وشعور دائم يلازمك، كأنك تُحاول الإمساك به وهو يبتعد. لكن في كل جزء من هذا الفقد يبقى شيء حي.

تبقى الذكريات، وتبقى الحكايا، وتظل صورهم في قلبك لا تختفي، حتى وإن غادروا.

نعم، الفقد قاسٍ.. لكنه يعلمك قيمة كل ما كان، ويعيد لك ترتيب نفسك، ويُظهر لك كيف يمكن للقلب أن يحتفظ بكل ما هو حقيقي، ويعطيه مكانًا دافئًا لا يبرحه أبدًا.

 

(10)
الفقد هو أصدق رفيق، لا يرحل.. ويظل يعلمك كيف تعيش بعده.

 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

رافعة العلم اللبناني.. أصالة على المسارح اللبنانية بعد غياب 27 عاما (فيديو)

أطلت الفنانة أصالة مساء اليوم، السبت، على مسرح "فوروم دو بيروت"، بعد غياب دام 27 عامًا عن الساحة اللبنانية.   الحفل الذي نظمه متعهدَا الحفلات طارق عليق وحسين كسيرة، شكّل عودة طال انتظارها، بعدما كان من المفترض أن تلتقي أصالة جمهورها العام الماضي، إلا أن الحفل أُلغي وقتها بسبب الحرب.  

يسمحولي الكل ????????#اصالة_في_بيروت pic.twitter.com/BtweaZOTXL

— Marwan (@MarwanAN_) August 16, 2025 RADEDITORSAVEDTAG_script async src="https://platform.twitter.com/widgets.js" charset="utf-8">

مقالات مشابهة

  • محمد غنيم يكتب: استنساخ رباعيات صلاح جاهين
  • مخيمات اللاجئين الفلسطينيين: جغرافيا الاقتلاع وذاكرة البقاء
  • مصر: إسرائيل الكبرى مجرد وهم
  • رافعة العلم اللبناني.. أصالة على المسارح اللبنانية بعد غياب 27 عاما (فيديو)
  • "ليس مجرد اتفاقية".. ترامب يكشف عن أفضل وسيلة لإنهاء حرب أوكرانيا
  • غياب ثنائي الهلال عن مواجهة الشارقة
  • احتلال غزة خطوة لتحقيق مشروع إسرائيل الكبرى
  • شاهد.. مقطع الفيديو الذي خطف القلوب.. جندي بالجيش السوداني يقابل والدته بعد طول غياب ويتمشى معها في الشارع العام
  • محمد موسى: ضعف الوعي السياسي أصبح سلاحًا لهدم الأوطان