التثقيف السياسي.. شرط النجاة من الفوضى في زمن الألفية الثانية
تاريخ النشر: 30th, August 2025 GMT
لم تعد الفوضى التي تضرب المجتمعات في منطقتنا وليدة لحظة، بل هي انعكاس مباشر لصعود أنصاف المثقفين وأشباه السياسيين إلى المنابر ومواقع القرار. أصبح من المألوف أن نشهد مرشحين يعتلون المقاعد النيابية أو يتولون مناصب قيادية، وهم لا يملكون أبسط أدوات الفهم السياسي ولا الحد الأدنى من الإلمام بمفردات العمل البرلماني.
كيف يمكن أن نثق في نائب لا يعرف معنى اقتراح أو طلب إحاطة أو استجواب؟ وكيف يمكن أن نطمئن لمسؤول لا يجيد التعامل مع المنظومات الرقمية في عصر الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي؟ وما الذي ننتظره من قيادي يجهل حساب عوائد القروض الدولية، أو يعجز عن التمييز بين الموقع والتموضع في أزمات جيوسياسية كبرى مثل صراع غزة؟.
إن هذه الفوضى ليست مجرد خلل إداري، بل هي انعكاس لـ"مأساة سياسية فلسفية" يعيشها المجتمع حينما يُختزل العمل السياسي في شعارات انتخابية رخيصة أو "شهادات استراتيجية" معلّقة على صفحات التواصل الاجتماعي بلا رصيد معرفي حقيقي.
في الألفية الثانية، لا يمكن أن يكون المرشح مجرد وجاهة اجتماعية أو صوت قبيلة أو صدى دعاية إعلامية. فالمجتمع المدني، إذا أراد أن يحافظ على حدوده الأخلاقية والأمنية، يحتاج إلى معهد للتثقيف السياسي، سنتين على الأقل، يمر عبره كل من يطمح إلى الترشح أو تقلّد المناصب. التثقيف ليس ترفًا، بل هو سلاح وعي يحدد مصير الشعوب بين النهضة والانهيار.
إننا أمام سؤال فلسفي أعمق:
هل يمكن لمجتمع أن يدخل عصر المعرفة الرقمية بعقلية السوق القديمة والسرادقات الانتخابية؟
كيف لنا أن نناقش مفهوم الأمن القومي إذا لم نميز بين "الحدود الصلبة" و"الحدود الشفافة" التي تفرضها العولمة والفضاء السيبراني؟
إن الفوضى الناتجة عن تضخم أعداد المرشحين في صورتها الكلاسيكية ليست ديمقراطية كما يتوهم البعض، بل هي مصيبة، وعار على مجتمع يعيش في قلب الألفية الثانية وما زال يدار بعقلية "المباهاة الانتخابية" لا بعقلية الدولة الحديثة.
لقد آن الأوان أن ندرك أن التثقيف السياسي ليس رفاهية أكاديمية، بل هو شرط وجودي لحماية المجتمع من عبث الجهالة السياسية، تمامًا كما يحتاج الجسد إلى مناعة ضد الأوبئة. فإذا كان الجهل عدو الحياة، فإن الجهل السياسي عدو الحضارة.
التجارب الدولية والدروس المستفادة
--تجارب كثيرة حول العالم تؤكد أن التثقيف السياسي هو أساس بناء النخب الحاكمة. ففي ألمانيا مثلًا، تُعد "الأكاديميات السياسية" جزءًا من بنية الأحزاب، حيث يخضع المرشح لتدريب في الفكر السياسي والدستور والنظام البرلماني قبل خوض الانتخابات. أما في فرنسا، فقد أصبحت "المدرسة الوطنية للإدارة" مصنعًا للسياسيين والوزراء، حيث يتلقى الدارس تكوينًا في القانون العام والاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية.
حتى في دول ناشئة كجنوب أفريقيا أو الهند، كان للتثقيف السياسي دور في نقل المجتمع من الانقسام والفوضى إلى حد أدنى من النظام والوعي المؤسسي.
وفي مصر أواخر الستينيات، جرى استحداث "معهد للتوجيه السياسي" في محاولة لتأطير العمل السياسي وتثقيف الكوادر، غير أن لكل حقبة ظروفها وسياقاتها. فما كان صالحًا بالأمس لا يعني بالضرورة أنه يلبّي احتياجات اليوم، إذ تختلف التحديات والبيئة الدولية في زمن الرقمنة والعولمة عن زمن ما بعد الاستقلال الوطني.
المواد التي ينبغي دراستها في معهد للتثقيف السياسي
إذا أردنا تأسيس معهد سياسي عربي معاصر، فينبغي أن تشمل مناهجه:
الفكر السياسي والفلسفة السياسية: لفهم تطور الدولة والسلطة عبر العصور.
القانون الدستوري والبرلماني: لمعرفة آليات التشريع والمساءلة.
الاقتصاد السياسي والمالية العامة: لفهم الموازنة، القروض، الاستثمار والعجز.
إدارة الأزمات والجغرافيا السياسية: لتفكيك الصراعات الإقليمية والدولية.
الأمن القومي والدراسات الاستراتيجية: لفهم الحدود الصلبة والحدود الشفافة.
--المنظومات الرقمية والتحول التكنولوجي: لربط العمل السياسي بعصر الرقمنة.
التدريب العملي والمحاكاة: عبر برلمانات طلابية ونقاشات مفتوحة لتأهيل المرشح للتجربة الواقعية.
بهذا المعنى يصبح السياسي ليس مجرد "شخص منتخب"، بل عقل مُثقف قادر على الفهم والمساءلة واتخاذ القرار. وعندها فقط يمكن للمجتمع أن يحلم بخروج من الفوضى إلى طور الدولة الحديثة.
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية
اقرأ أيضاًعبد الناصر.. من جلد الذات إلى دفن الذاكرة
عبد الناصر يعود من خارج الحدود!
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي غزة الاقتصاد الرقمي الفوضى التثقيف السياسي المقاعد النيابية
إقرأ أيضاً:
العنف الإلكتروني ضد المرأة ومهارات النجاة .. ندوة بالمجلس القومي
في إطار حملة الـ16 يومًا من الأنشطة لمناهضة العنف ضد المرأة، نظّمت لجنة الفنون والثقافة بالمجلس القومي للمرأة ندوة بعنوان «العنف الإلكتروني ضد المرأة ومهارات النجاة – جروح بلا ندبات»، وذلك بحضور المستشارة أمل عمار رئيسة المجلس، والدكتورة إيناس عبد الدايم عضو المجلس ومقررة اللجنة ووزيرة الثقافة الأسبق، والدكتور رضا حجازي وزير التربية والتعليم والتعليم الفني الأسبق، وعدد من عضوات وأعضاء اللجنة، إلى جانب طالبات وطلاب من جامعات عين شمس وحلوان والأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، و أدارتها مها شهبة - عضو لجنة الثقافة والفنون بالمجلس.
في كلمتها، أكدت المستشارة أمل عمار أن هذه الحملة العالمية ليست مجرد نشاط توعوي، وإنما هي تجديد سنوي للالتزام بحماية كل امرأة وفتاة تتعرض لأي شكل من أشكال العنف، وبخاصة العنف الإلكتروني الذي بات يمثل أحد أخطر التحديات المعاصرة.
وأشارت إلى أن العنف الإلكتروني لا يقتصر على الرسائل المسيئة أو التنمر أو انتهاك الخصوصية، حيث يمتد أثره ليصيب نفسية المرأة وأسرتها ومحيطها الاجتماعي، ويقوّض شعورها بالأمان في الفضاء الرقمي.
كما أكدت أن الدولة المصرية، بقيادة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، أولت قضايا حماية وتمكين المرأة أولوية متقدمة، ومن ضمنها مواجهة العنف الإلكتروني. وشدّدت على أن الفنون والثقافة ليست ترفًا، بل قوة ناعمة قادرة على تشكيل الوعي المجتمعي ومواجهة خطاب الكراهية والتحرش والتنمر الرقمي، عبر تأثيرها الممتد في السينما والمسرح والموسيقى والأدب والفنون البصرية.
وأعربت المستشارة أمل عمار عن سعادتها بمشاركة قامات رفيعة من المبدعات والرموز الثقافية، مؤكدة أن وجودهن رسالة دعم قوية تُعزّز دور الثقافة والفن في حماية الفتيات وتعزيز وعي المجتمع بمخاطر الفضاء الإلكتروني.
كما شدّدت على أهمية بناء شراكات واسعة تشمل المؤسسات الثقافية والفنية، والجامعات، ووسائل الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي، والأسرة والمدرسة، لمواجهة هذا النوع من العنف.
واختتمت كلمتها بتقديم الشكر لكل فنانة ومثقفة ومبدعة جعلت من فنها صوتًا للمرأة، ومن ثقافتها جسرًا للدعم والحماية. وباسم المجلس القومي للمرأة، جدّدت الالتزام بمواصلة العمل على حماية نساء مصر وفتياتها، في الواقع وفي الفضاء الإلكتروني، حتى تنعم كل امرأة بالأمان والكرامة والاحترام.
شهدت الندوة جلسة حوارية تناولت دور الأدب والسينما والدراما في مكافحة العنف الإلكتروني، أدارتها الدكتورة جهاد محمود عواض أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبى الحديث المساعد بكلية الألسن جامعة عين شمس ، وعضوة اللجنة ، وتناولت الدكتورة جهاد محمود عواض فى كلمتها عرضا متمثلا فى مقارنة بين كاتبة مصرية وكاتبة صربية وتناولهما للعنف ضد المرأة مؤكدة أن ثقافة العنف لا تقتصر على ثقافة بعينها وإنما منتشرة فى كل الثقافات حتى الثقافة الصربية وفرقت بيت مصطلح " المجتمع " و" الدولة".
فيما أكدت الدكتورة ميرفت أبو عوف عضوة اللجنة وعميدة كلية الفنون البصرية و الإبداع بجامعة إسلسكا ضرورة إدماج الوعي الأكاديمي بمخاطر الذكاء الاصطناعي - والذي قذ يوظف في العنف الإليكتروني - في التعليم منذ المراحل المبكرة، مشيرة إلى أن التكنولوجيا الحديثة تنطوي على مخاطر حقيقية تستدعي استعدادًا أكاديميًا وإعلاميًا وأسريًا متكاملًا لمواكبة سرعة التطور التقني.
وتناولـت الفنانة وفاء الحكيم في كلمتها الدور المحوري للدراما باعتبارها فنًا مرئيًا يعكس الواقع ويؤثر فيه، مشيرة إلى أن المجتمع يشهد حالة من الازدواجية الثقافية رغم ما تحققه الدولة من تقدم وإنجازات، وأكدت على أن تعزيز ثقافة احترام الاختلاف ضرورة لحماية فئات ذوي الهمم من العنف والتنمر، داعية إلى إعادة المجتمع إلى قيم تقبّل التنوع والاختلاف.
واستعرضت الدكتورة ثناء هاشم الأستاذة بالمعهد العالي للسينما تأثير الفن عبر التاريخ، موضحة أن الفن يؤثر على المجتمع بالتراكم، وأن السينما المصرية شهدت ريادة نسائية منذ بداياتها. وأكدت أن التحديات الحالية تتطلب أعمالًا فنية تُصنع بحب وإيمان بدور الفن الوطني، خاصة في ظل قوة العادات والتقاليد.
وتناولت الروائية والكاتبة المصرية هالة البدرى دور الأدب فى توثيق ومقاومة العنف ضد المرأة .
تضمنت الندوة فقرة لتكريم رائدتين أسهمتا في تشكيل وتغيير وعي المجتمع بقضايا المرأة حيث قامت المستشارة أمل عمار بتكريم الكاتبة الصحفية الكبيرة سناء البيسي ، واسم الكاتبة الكبيرة الراحلة فتحية العسال، وتسلمت درع التكريم الفنانة صفاء الطوخي، ابنة الكاتبة الراحلة.
كما شملت الندوة دائرة حكي بعنوان «كيف نفذن من الحائط الشفاف» ، حيث أكدت الكاتبة رشا عبد المنعم على أن العنف ضد المرأة قضية معقدة ذات أسباب متداخلة، تتطلب تكاتف المجتمع المدني والدولة، إلى جانب تعزيز الوعي وإحياء روح الفن والجمال للارتقاء بالإنسان والابتعاد عن مظاهر القسوة،كما تطرقت إلى تجربتها الشخصية داخل أسرتها، وسعيها لإقناع والدها بقدرتها على أن تصبح كاتبة مسرح، مؤكدة أن الحوار الهادئ وبناء الثقة كان لهما دور في تغيير الصورة الذهنية.
وتحدثت المخرجة عبير علي عن تجربتها الفنية، مشيرة إلى تأسيسها فرقة مستقلة تهتم بإعادة قراءة التاريخ غير المدوّن، وتغيير الصورة الذهنية للتاريخ الاجتماعي عبر الحكايات. وأوضحت أن التضييق في المساحات الثقافية والتعليمية يُضاعف من التحديات أمام المبدعات، لافتة إلى محدودية القيادات النسائية في المؤسسات الثقافية عالميًا، ومؤكدة أن «الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بالجدارة والتميز»، وأن الاستثمار في تدريب الشباب بالمحافظات كان أحد أنجح مشروعاتها.
و عبّرت المخرجة والممثلة عبير لطفي، مؤسسة ورئيسة مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة، عن انزعاجها من استمرار مناقشة قضايا العنف ضد المرأة حتى عام 2026، موضحة أن شغفها بالإخراج وتدريب الشباب كان دافعًا رئيسيًا في رحلتها الفنية، ومؤكدة أن فكرة المهرجان انطلقت من ضرورة وجود منصة مسرحية تُبرز إسهامات المرأة. وأشارت إلى أن التحدي المالي كان الأبرز في بداية عمل المهرجان، بالإضافة إلى تحديات جائحة كورونا، معربة عن تقديرها لدعم أسرتها وزوجها لمسيرتها.
وحول إبداعات المرأة في المسرح، تحدّثت الفنانة سلوى محمد علي عن حضور المرأة الراسخ في المسرح المصري، مؤكدة أن هناك أعمالًا مسرحية عظيمة جسدت قضايا المرأة بعمق، وأن المرأة – مؤلفة ومخرجة وممثلة – أثبتت حضورًا قويًا، وأن طبيعة المرأة الثرية بالحساسية والجمال تجعلها أكثر قدرة على الإبداع، مشيرة إلى أن المسرح الأوروبي يرى أن المرأة المصرية على الخشبة أقوى من الرجل لاضطرارها إلى التعبير «بحيلة وذكاء» في مختلف أدوارها في الحياة، خصوصا كزوجة.
و قدمت الكاتبة الصحفية أمل فوزي ورشة عن «التعافي بالكتابة التعبيرية»، كتابةٌ تُرتِّب الداخل وتمنح الجُرح لغةً تمشي إلى الأمام، والتي أكدت أنها ليست رفاهية، بل ضرورة للتنفيس عن المشاعر وتعزيز التعافي النفسي، موضحة شروطها وأساليبها. وقدمت تدريبا عمليا للحاضرات من الفتيات والشباب على كيفية ممارستها للتعافي من الصدمات التي قد تنتج عن العنف
وفي مداخلة الدكتور اللواء محمد رضا الفقي – رئيس قسم الطب النفسي والأعصاب بالأكاديمية الطبية العسكرية ووزير التربية والتعليم والتعليم الفني الأسبق – عبرعن سعادته بتواجده بالمجلس وتحدث عن التنمر والعنف الالكتروني ضد المرأة وتناول قضية التشافي بالكتابة بشكل منهجي وعلمي .
وفي الختام، وجّهت الفنانات المشاركات الشكر للدكتورة إيناس عبد الدايم لدعمها الثقافة المصرية ولدورها في «اختراق الحائط الشفاف» وتقديم نموذج لوزارة ثقافة منفتحة ومتحررة.