مناهج علوم الأمة والعمران: نحو صياغة للانبعاث الحضاري.. مشاتل التغيير (34)
تاريخ النشر: 3rd, September 2025 GMT
من الأهمية بمكان ونحن بصدد الحديث عن توجيه البحوث لخدمة الأمة أن نسترجع المعاني التي تطلق على تلك العلوم والبحث فيها "علوم الأمة"، لارتباطها بقضاياها وتحدياتها، و"علوم العمران" ارتباطا بالكونية الإنسانية واستخلافها بقاء وارتقاء ونماء؛ إذ تعتبر الأمة هي المجال الحيوي لإرساء قواعد المثالية وبلوغ القيم التي تشكل أهم مقاصدها، كما أنها تعبير عن قمة التجانس الإدراكي والعقيدي والتأكيد على الجانب المعنوي والفكري.
الأمة وفق هذا التصور هي الفاعل الحضاري، فإذا أردنا أن نجعل من الفعل الحضاري "وحدة تحليل" فإن الأمة هي أهم شرط للفاعلية التحليلية لمثل هذه الوحدة. هذا التصور لا بد أن يولد "حالة بحثية" تتيح نموذج ينتج رؤية كلية للعالم الذي حولنا، وإمكانات التفاعل معه والفاعلية فيه؛ رؤية تحرك أصول إسهام النظام المعرفي الإسلامي في إطار ما يولده من نظرية "للوجود"، ونظرية "للقيم"، ونظرية "للمعرفة" على تفاعل فيما بينهما، تحاول أن تسير مع عناصر تفعيلها وتشغيلها في إدراك الحالة العالمية وحال الأمة والظواهر المرتبطة بهما.
إدراك الذات وقدراتها وإمكانات تعظيمها؛ وعي يتحول إلى سعي، يبدأ من وعي "الذات" إلى وعي "الغير" وإلى وعي "الموقف الحضاري" بكليته وإمكانات الفاعلية والحضور فيه
إدراك الذات وقدراتها وإمكانات تعظيمها؛ وعي يتحول إلى سعي، يبدأ من وعي "الذات" إلى وعي "الغير" وإلى وعي "الموقف الحضاري" بكليته وإمكانات الفاعلية والحضور فيه، إنها الأمة القطب كما عبرت عنها بعمق الأستاذة الدكتورة منى أبو الفضل في كتابها العميق "الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام"، وهو ما يحدد برنامجا بحثيا يتوافق وأصول فكرة الأمة الجامعة "في بناء الحضارة الفاعلة" بما يحقق أصول الشهود الحضاري، وبما يعني دراسة التحديات والكشف عن جذورها ودراسة الواقع في ضوء عناصر الذاكرة التاريخية والحضارية للأمة، ودراسة الواقع في إطار تدبر حال الأمة وإمكانياتها المستقبلية في الفاعلية في عالم شديد التشابك سريع التطور والتغيير. الأمة وبما تمثله من قيمة وتضطلع به من وظيفة تشكل الفاعل الحضاري الأساسي، وفق عناصر الجامعية التي تشكل جوهر المفهوم، وعناصر تشكيل الأمة ومقتضياته، وعناصر فاعلية الأمة في الاستمرارية والقدرة والتأثير والقيام بالأدوار المنوطة بها.
كل هذا بدوره يفرض عناصر بحثية ومعرفية تهدف إلى البحث في مستويات الفاعلية للأمة وآليات تحقيق هذه الفاعلية، والإمكانات والمعوقات، وتجليات الفاعلية من المجالات النظامية والمؤسسية والعلائقية. ويشكل "حديث القصعة والكثرة الغثائية"، إشارة إلى عناصر تفسيرية يحملها الحديث من الأهمية بمكان في البحث في مناط الفاعلية للأمة، بل ربما تحدد أصول مناطق البحث، وموضوعاته التي تسهم في فهم واقع الأمة وتحدياتها وإمكانات فاعليتها في ظل وضع التعدد في الوحدات والكيانات.
والأمة بما تعنيه من أصل "الأم" و"القصد" في مبناها اللغوي تحرك إشكالات بحثية من نوع معين تتوجه إليها بالدراسة والبحث، إذ يتفرع عن معاني "الأم" القصد وتحديد وجهة البحث، ومنهج النظر فيه، وفهم أصول التعامل مع قضايا الأمة ومؤسساتها، ومنهج التفاعل مع الموضوعات المرتبطة بكيان الأمة وإشكالاتها.
هذه الإشكالات وغيرها ترتبط بالأمة ولا تنفصل عن مهمة ارتقاء العالم والإنسانية؛ بما تقوم به من مراجعات نقدية منهجية تتسم بالعدل والاستقامة لكافة القابليات والإمكانات التي مكنت "النظام الغربي" من أن يبلور بواسطتها صورة عن ذاته، ويخلق بشكل مواز صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، ثم تبيان محاولته لرسم "مصير متعال" له ليجعل من نفسه "محورا" بل "مرجعا" تاريخيا عالميا وحيدا في معالجة مجتمعات "ما وراء البحار"، وذلك من خلال منظومات فكرية متوخيا من ورائها إجماعا نسبيا على رسالته التبشيرية "التحضيرية"، لكي يتسنى له تصديرها من خلال إغواء وتنشئة نخب في المجتمعات الأخرى.. لتكون معابر لبسط سيطرته وترسيخها في جسم هذه المجتمعات.
والحقيقة أن ما يقصده النظام الغربي، في استراتيجيته هذه، هو تحويل تواريخ الشعوب في الأطراف إلى أصفار على هامش الحضارة. فبدلا من النظر إلى ثقافات ما وراء البحار من زاوية تعبيرها عن ذاتها صار الاهتمام بها مرهونا، لسبب أو لآخر، بقدر اندماجها في دائرة السوق العالمية من الموقع الأدنى المتمم لحاجات إنتاجية للمركز الأوروبي والحضارة الغربية الغالبة.
بناء على ما تقدم؛ فإن أية مقاربة لمكونات الصرح الأيديولوجي للنظام الغربي تستدعي التعرف على المفاهيم والأدوات الإجرائية التي اتبعها بدءا من عصر النهضة الأوروبية؛ إنها نظرة المركزية الغربية.
بيد أن هذه النشاطات لم تقم في المجتمع الأوروبي، على سيطرة الإنسان على الطبيعة وإبداع مناهج جديدة للإنتاج وبناء الآلات والحصول على مستوى صحي لائق وحسب، إنما أقيمت أيضا على مبادئ سيطرة البشر بعضهم على بعض، وذلك عبر شبكة مؤسسية من المعاني الجيوسياسية والاقتصادية والأيدلوجية؛ ليس أمامها إلا الامتثال لهجمة التحليل "العلمي" وأدواته المفاهيمية المسبقة الصنع كي يضمّنها إسقاطاته؛ حينئذ تصبح قابلة للفهم إنسانيا وتاريخيا. ضمن هذا السياق تبدو لنا أهمية مقولة توجيه البحوث بصدد "علوم الأمة" و"علوم العمران" للاستجابة لتحديات مركبة ترتبط بعالم:
● الذاكرة الحضارية (ودراسات التراث والفكر الإسلامي).
● المعضلة المنهجية (ودراسات المنهجية الإسلامية).
● والنظام المفاهيمي (وعمليات بناء المفاهيم والجهاز المفاهيمي).
وهذا أمر يحدد أصول استخدام "البوصلة البحثية " في هذا المقام.
الأمة الإسلامية اليوم ساحة من ساحات الحيوية النهضوية الحضارية، ولهذا فمن الطبيعي أن تعيش لحظة الانتكاسة والضعف والقهر، وأن تعيش لحظة التفاعل مع الأزمة ولحظة الإعداد لمواجهتها ولحظة الإرهاص النهضوي ولحظة ما بعد النهوض والتحول الحضاري الكبير. إن معظم المشاكل التي تواجهها عمليات النهوض اليوم هي منعطفات إنضاج للوعي واستمداد للخبرة وتفاعل مع الأحداث وإعادة توجيه للمسيرة والأفكار
بين هذا وذاك تتم الترجمة المؤسسية لذلك النهج لعناصر وضع البرنامج البحثي ومسارات العمل، فتكمن في الجامعات الحضارية وعلى وجه الخصوص كليات الشريعة، وكذا مراكز البحوث التي تشكل رافعة حضارية وبحثية تتمثل في "مستودعات الأفكار" والقدرة على تأسيس خطة استراتيجية حضارية بحثية مستقبلية، أما الترجمة التي تتعلق ببرنامج العمل البحثي فكأنما يتوجه إلى أولويات مهمة بصدد القضايا والمداخل والأدوات المنهجية وإحياء الذاكرة الحضارية، وليس القطيعة معها، ضمن عمل منهجي ومعرفي منظم.
كان من أهم التبنيات المعرفية لمشروع الانبعاث الحضاري وتأسيس قاعدته في المنظور والمنهج؛ المنظور الحضاري الذي ينطلق من فكر متجذر في إطار مرجعي معياري، ومنضبط بمنهج موضوعي متناسق، وهو خطاب واقعي عملي يواجه مشكلات الإنسان والحضارة، كما أنه فكر يمتد شمولا باتجاه استيعاب الآخرين عالميّا وإنسانيّا. وبعبارة أخرى، لكي تؤدي الأمة دورها الحضاري العالمي حاملة لأمانة الإظهار العالمي للدين؛ ينبغي أن يرتفع وعيها للعلم والفكر والإنسان والحضارة إلى مستوى عصر "العالمية" و"الحضارة الشمولية" بأدواتها المنهجية والمعرفية والثقافية والتكنو إلكترونية، هذا الارتفاع يعني التحول الكبير في الرؤية والمنهج والمشروع الحضاري.
إن نوعية المشكلة الراهنة تستدعي وجود رؤية ومنهج نوعيّ لإدراك طبيعة ووظيفة العلم والفكر والإنسان والحضارة في عصر "العالمية"، إنها المواقف الحضارية حينما تتسم بالشمول، وتتحلَّى بكل فاعلياتها، وفي مقامها تأخذ "المقاومة" مكانها ومكانتها.
إن الأمة الإسلامية اليوم ساحة من ساحات الحيوية النهضوية الحضارية، ولهذا فمن الطبيعي أن تعيش لحظة الانتكاسة والضعف والقهر، وأن تعيش لحظة التفاعل مع الأزمة ولحظة الإعداد لمواجهتها ولحظة الإرهاص النهضوي ولحظة ما بعد النهوض والتحول الحضاري الكبير. إن معظم المشاكل التي تواجهها عمليات النهوض اليوم هي منعطفات إنضاج للوعي واستمداد للخبرة وتفاعل مع الأحداث وإعادة توجيه للمسيرة والأفكار، وهي استجابة تدل على معاني النهوض، والمدافعة، والممانعة؛ والمقاومة، والوعي بعدم العمل بتبعية تحت سقف المشروع الغربي بكل تضميناته الفكرية والثقافية والمعرفية. إننا أمام مشاتل معرفية وفكرية واجب التنبيه والتأكيد عليها في عمليات التغيير الحضاري؛ تتبنى ثلاثية الوحي والوعي والسعي.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه العلوم بحثية الحضارة مناهج بحث علوم حضارة مناهج مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التفاعل مع إلى وعی
إقرأ أيضاً:
رحل جسدا لكنه باقٍ.. رئيس جامعة الأزهر: أحمد عمر هاشم علامة بارزة في علوم الحديث
قال الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، إن وفاة الدكتور أحمد عمر هاشم تمثل خسارة فادحة للأزهر الشريف وللأمة الإسلامية والعربية جمعاء، مشيرًا إلى أن الفقيد كان من كبار علماء الحديث، وواحدًا من القامات العلمية والدعوية التي أثرت الحياة الدينية والفكرية لعقود.
وأوضح رئيس جامعة الأزهر، خلال تصريحات تلفزيونية، اليوم الثلاثاء، أن الدكتور أحمد عمر هاشم كان "لسان صدق"، وواحدًا من أبرز المدافعين عن الإسلام بعلمه وقلمه وفكره، وأنه رحمه الله نبغ في علم الحديث بشكل مبهر، واشتهر بشرحه الوافي لصحيح الإمام البخاري، وكان من أكثر العلماء قربًا لعامة الناس وخاصتهم على السواء.
سلامة داود: تربينا منذ الصغر على صوت الدكتور أحمد عمر هاشم في إذاعة القرآن الكريموتابع رئيس جامعة الأزهر "من لا يعرف الدكتور أحمد عمر هاشم؟ لقد تربينا منذ الصغر على صوته في إذاعة القرآن الكريم، وتحديدًا في برنامج حديث الصباح، حيث كان يشرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلغة مبسطة وعميقة، وقد تزامن برنامجه مع خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي في التفسير، فكانا معًا مائدة علمية وروحية صباحية أثرت أجيالًا كاملة في العالم الإسلامي".
وأضاف رئيس جامعة الأزهر أن للفقيد جانبًا إنسانيًا عظيمًا، مشيرًا إلى مشاركته في لجنة موسوعة جامعة الأزهر للحديث النبوي الشريف، وهي مشروع علمي كبير يهدف إلى جمع الأحاديث الصحيحة سندًا ومتنًا في موسوعة علمية موثقة. وقال: "قبل وفاته، أصر الدكتور أحمد عمر هاشم على أن يكتب مقدمة هذه الموسوعة بنفسه، وكانت مقدمة وافية جامعة، ونحن الآن قد تجاوزنا فيها 8 آلاف حديث صحيح".
الدكتور أحمد عمر هاشم: والدي نذرني لخدمة الأزهر والقرآن والسنة
في فيديو نادر.. أحمد عمر هاشم يكشف ماذا صادفه بأول يوم بكلية أصول الدين
ماذا قال؟.. أجمل كلمات للدكتور أحمد عمر هاشم عن فضل النبي
من منبر العلم لمحراب الدعوة.. محطات مضيئة في مسيرة الدكتور أحمد عمر هاشم
وأكد الدكتور سلامة داود أن المشهد الجنائزي للراحل كان مهيبًا، حيث شهد الجامع الأزهر حضورًا حاشدًا ضم فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، ووزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري، وعددًا كبيرًا من كبار علماء الأزهر وطلابه، إضافة إلى آلاف الطلاب الوافدين من أكثر من 100 دولة حول العالم.
وأشار الدكتور سلامة داود إلى أن الإمام الأكبر أصر على حضور الجنازة رغم الزحام الشديد، موضحا: "لقد كنا مشفقين على فضيلته من كثافة الحشود التي حضرت لتشييع الدكتور أحمد عمر هاشم، لكنها شهادة عظيمة لهذا الرجل، ودليل على مكانته في قلوب الناس".
وتابع الدكتور سلامة داود “هكذا يرحل علماء الأزهر، محاطين بطلابهم ومحبيهم، ممن جلسوا على موائد علمهم وتربوا على أيديهم. الدكتور أحمد عمر هاشم لم يكن مجرد أستاذ أو خطيب، بل كان مربّيًا، ومحبًا لطلاب العلم، ومخلصًا في رسالته، رحل جسدًا، لكنه باقٍ بما قدمه من علم وخير، فالناس موتى وأهل العلم أحياء، والعلماء العاملون بعلمهم باقون ما بقيت السماء”.