حين تصبح المهارة قيدا.. الوجه المظلم للخبرة في سوق العمل اليوم
تاريخ النشر: 11th, September 2025 GMT
في صباح يوم عمل هادئ ترتشف قهوتك بروية وتفتح بريدك بثقة، وكالمعتاد بريدك متخم بالمهام لكن خبرتك في العمل تجعل من هذه التخمة وجبة دسمة تستمتع بها يوميا.
لكن في زحمة البريد يلمع أمامك عنوان غير مألوف "تحديث كبير.. تغيير شامل لأدوات ونظم العمل وأسبوع واحد فقط للتدريب".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2استرجاع وتكرار واختبار.. 3 أسرار لمذاكرة ناجحةlist 2 of 2بيديْن مبتورتين.. فتاة يمنية تتحدى الإعاقة بالتفوّق الأكاديميend of list
تفرك عينيك جيدا وكأنك تريد ألا تصدق، فأنت الخبير المتمرس في أدوات العمل، أنت الذي قضيت سنوات في صقل خبرتك حتى أصبحت المرجع الأول للزملاء والمديرين، تشعر الآن أن هذا الصرح الذي بنيته مهدد بالتقادم، وأنك قاب قوسين أو أدنى من العودة لنقطة الصفر، ومَن يدري فربما تصعب عليك هذه العودة أيضا.
هذا البريد ليس مجرد موقف عابر، بل هو تلخيص دقيق لواقع سوق العمل الجديد، خاصة مع تطورات تكنولوجية متسارعة تتصدرها ثورة الذكاء الاصطناعي، وبالتالي يجد الكثيرون أن المعرفة التي كانت مصدر قوتهم، قد تتحول فجأة إلى قيد يكبل حركتهم ويجعلها عاجزة عن ملاحقة المستجدات أو النجاة من طوفانها.
لحظة وصول مثل هذا البريد، هي اللحظة التي تدرك فيها أن الخبرة التي كانت بالأمس ملاذا آمنا ولقب الخبير الذي كان يعني الوصول إلى بر الأمان، كلها تتعرض اليوم لاختبار قاسٍ.
هنا يبرز الفارق الحاسم، فلم يعد النجاح لمن يحمل أكبر قدر من المعرفة المكدسة، بل لمن يمتلك قدرة ذهنية على التكيف، والشغف لإعادة التعلم، والشجاعة للاعتراف بأن مصادر القوة القديمة قد ولّت إلى غير رجعة.
هذه ببساطة قصة صعود مفهوم "المرونة المعرفية" من مجرد مهارة إضافية إلى عملة نجاح أساسية في عصر ربما لا يستقر قريبا.
في أوقات التغيير، يرث المتعلمون المستقبل، بينما يجد أولئك الذين اكتفوا بما تعلموه أنفسهم مجهزين ببراعة للتعامل مع عالم لم يعد له وجود.
بواسطة إريك هوفر، فيلسوف اجتماعي أميركي
لا تكن مثل حارس المتحفالمرونة المعرفية ليست هي الانفتاح السطحي على الأفكار الجديدة، لكنها في الحقيقة قدرة ذهنية أعمق، تشبه مهارة الحرفي الذي يختار الأداة المناسبة لكل مهمة؛ فهي تتيح لك تغيير "عدسة التفكير" التي تنظر بها إلى العالم حسب الحاجة.
إعلانبعبارة أخرى، هي القدرة على أن تكون محللا دقيقا عند التعامل مع الأرقام، ثم تتحول إلى فنان مبدع عند البحث عن حلول، وإلى مستمع متفهم عندما تقود الفريق.
ولا تظن أن هذه مجرد كلمات للتحفيز الذاتي، بل هي عملية بيولوجية يعيد فيها الدماغ بناء مساراته حرفيا استجابة للتجارب والتحديات الجديدة.
في المقابل، فإن "الجمود المعرفي" كالصدأ الذي يتسلل ببطء إلى مفاصل الخبرة فيجعلها ثقيلة الحركة ومتصلبة، هذا الجمود ليس مجرد عناد فكري، بل هو غالبا آلية دفاع نفسي؛ فالخبير يرى في التغيير تهديدا مزدوجا: فهو لا يهدد هويته التي بناها لسنوات فحسب، بل يهدد أيضا مصدر تفوقه على أقرانه.
هنا يكمن جوهر المسألة: المرونة الحقيقية لا تتنكر للخبرة، بل تحميها من التقادم، فالمرونة عملية صيانة مستمرة للعقل، تبني جسورا رشيقة تربط تخصصك بالعالم المتسارع، وتسمح للمعارف الحديثة بأن تجدد خلايا خبرتك، وتحولك من مجرد "حارس متحف" لمعارف قديمة، إلى "مستكشف شغوف" يضرب في الأرض كل يوم بحثا عن الجديد.
ستصبح الوظائف أقل ارتباطا بالشهادة التي تحملها، وأكثر ارتباطا بالمهارات التي تمتلكها
بواسطة جيني روميتي، الرئيس التنفيذي السابق لشركة IBM
هكذا تغيرت قوانين اللعبةفي ظل التطورات المتلاحقة، لم يعد السؤال الأهم في مقابلات العمل هو "من أين تخرجت؟" بل أصبح: "ماذا تستطيع أن تنجز اليوم، وبأي سرعة يمكنك تعلم ما يتطلبه الغد؟".
هكذا يرى البعض أن سوق العمل الحديث يعاد تشكيله تحت شعار "التوظيف القائم على المهارات"، وذلك من منطلق أن القيمة الحقيقية هي قدرتك على الإنجاز المتجدد، وليس فيما تعرفه اليوم فقط، وبالطبع ليس في شهادة تتزين بها الحوائط.
فالأبحاث تشير إلى فجوة متزايدة بين ما ندرسه في الجامعات وبين المهارات التي يتطلبها سوق العمل فعليا، مما يجعل التعلم الذاتي المستمر والتكيف السريع أكثر قيمة.
المثال الأوضح في هذا الصدد، يتجسد بوضوح في سلوك المبرمجين الذين يطوّعون أدوات الذكاء الاصطناعي بدلا من مقاومتها، محققين بذلك قفزات إنتاجية هائلة في السرعة والكفاءة. السر ببساطة أن قوانين اللعبة قد تغيرت، فلم يعد الرهان على مَن الذي يتقن الإجراءات القديمة، بل من يبتكر إجراءات أذكى باستخدام الأدوات الجديدة.
كن عنيدا في الرؤية، مرنا في التفاصيل
بواسطة جيف بيزوس، مؤسس شركة أمازون
مَن الخبير المرن؟من الخطأ الاعتقاد بأن المرونة تعني التخلي عن العمق والتخصص، فالنموذج الأكثر نجاحا اليوم هو "الخبير المرن"، وهو يشبه شجرة باسقة؛ جذورها ضاربة في عمق التخصص لتمنحها الثبات، بينما أغصانها تتحلى بالرشاقة لتصل إلى ضوء الشمس من زوايا مختلفة، وتتأقلم مع الرياح العاتية دون أن تنكسر، وهذا هو جوهر التكيف والمرونة المعرفية المطلوبة.
في بيئة العمل، يترجم هذا التوازن إلى سلوك عملي بسيط، فالخبير المرن لا يبقى منعزلا في صومعة تخصصه، بل تجده يطرح الأسئلة الذكية في اجتماعات الأقسام الأخرى؛ هذا التناغم بين العمق والاتساع هو الذي يكسر الحواجز الداخلية ويزيد الكفاءة والإنتاجية ويشعل فتيل الإبداع الحقيقي، ومن أمثلة ذلك:
إعلان مبرمج ذو عمق هندسي يفهم أساسيات تجربة المستخدم، فيختصر احتكاك التسليم بين التطوير والتصميم. مسوّق يفهم أساسيات التصميم فيحوّل لوحات البيانات إلى قصة جمالية لا معلومات صامتة. مستشار قانوني يستخدم فحصا آليا أوّليا للعقود، ثم يراجع البنود الحساسة يدويا لتقليل الوقت. محرر صحفي يتعلم أدوات التصوير والتصميم والمونتاج فيبدع قصصا جذابة.وإذا ما ازددت علما.. زادني علما بجهلي
بواسطة محمد بن إدريس الشافعي، مؤسس المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي
مَن قال قد علمتُ فقد جهلربما تدرك في النهاية أن المرونة المعرفية ليست مجرد مهارة، بل هي العقلية التي تسمح للمهارات الأخرى بالازدهار في عالم متغير.
لذلك فقد حان الوقت لتحويل عبارة "قابل للتكيف" من سطر باهت في السيرة الذاتية، إلى قناعة حقيقية مدعومة بقصص نجاحك، لتكتب مثل تلك العبارات التي يبحث عنها الجميع: "عندما تبنيت الأداة الجديدة، وفرت 30% من وقت الفريق"، أو "عندما طبقت منهجية مختلفة حللت مشكلة كانت عالقة لشهور".
الخلاصة أن الاستثمار في مرونتك المعرفية لم يعد اليوم خيارا للترقية، بل ضرورة للحفاظ على قيمتك في سوق متغير، فالنجاح اليوم لمن يتعلم باستمرار ويملك شغف التلميذ كل صباح مهما بلغ من خبرة الأمس، أو كما تقول الحكمة القديمة: "مَن قال قد علمتُ فقد جهل".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات نجاح سوق العمل
إقرأ أيضاً:
مادة “تلتهم” ثاني أكسيد الكربون.. هل تصبح أساس بناء بيوت المستقبل؟
انضم إلى قناتنا على واتساب
شمسان بوست / متابعات:
لو سألت أي مهندس عمّا يبقي المدن واقفة، فستسمع كلمة واحدة تتكرر، إنها الخرسانة، المادة الأكثر استخدامًا في البناء على الكوكب، لكنها تحمل “فاتورة كربون” ثقيلة؛ إذ ترتبط صناعة الخرسانة والأسمنت بانبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون.
بل ويقدّر نصيب الخرسانة من انبعاثات هذا الغاز الضارة، بنحو قرابة 8% من الانبعاثات العالمية، وفق ما ورد في تصريحات فريق بحثي بجامعة ووستر بوليتكنك الأميركية.
وأخيرا، قدّم هؤلاء الباحثون مادة إنشائية جديدة اسمها “المادة الإنشائية الإنزيمية”، لا تَعِد فقط بتقليل الانبعاثات، بل تمتص ثاني أكسيد الكربون أثناء التصنيع وتحبسه على هيئة معادن صلبة، وتتماسك خلال ساعات بدلا من أسابيع.
الجوهر الكيميائي للفكرة مستوحى من الطبيعة، فكثير من الكائنات تبني أصدافها بتحويل الكربون الذائب إلى كربونات الكالسيوم (حجر جيري).
استعار فريق جامعة ووستر بوليتكنك المبدأ نفسه، لكن بدلا من النشاط الحيوي يستخدم إنزيما يسرّع تفاعلًا معروفًا في الكيمياء الحيوية، وهو تحويل ثاني أكسيد الكربون المذاب في الماء إلى “بيكربونات” أو “كربونات”، اللبنات التي تُسهِّل تكوين كربونات الكالسيوم كبلّورات صلبة.
الإنزيم المذكور في هذه الحالة هو “أنهيدراز الكربونيك”، وهو إنزيم يعتمد على الزنك ويشتهر بقدرته على تسريع ترطيب ثاني أكسيد الكربون في الماء.
إنزيم “سحري”
وتُظهر الاختبارات، التي أورد الباحثون نتائجها في دراستهم التي نشرت بدورية “ماتر”، على ملاطّات جيرية أن هذا الإنزيم يمكنه فعلا رفع سرعة تكوّن بلورات من كربونات الكالسيوم وتحسين القوة المبكرة لأن التفاعل يسير أسرع.
بعد ذلك، يستخدم الفريق تقنية تسمى “المعلّقات الشعرية”، وتتمثل في نظام ثلاثي (سائل-سائل-صلب) تُضاف إليه نُقطة من مادة غير ممتزجة لتكوين جسور شعرية بين الحبيبات، فتتشابك تلقائيا في شبكة قوية تشبه الجل.
وبحسب الدراسة، فإن كل متر مكعب من المادة الإنشائية الإنزيمية يمكن أن يحجز أكثر من 6 كيلوغرامات من ثاني أكسيد الكربون، في حين أن مترا مكعبا من الخرسانة التقليدية قد يرتبط بانبعاث نحو 330 كيلوغراما من ثاني أكسيد الكربون.
ومن ناحية القوة الميكانيكية، فإن المادة الإنشائية الإنزيمية حققت قوة ضغط في نطاق 25-28 ميغاباسكال، أي قريبة من الحد الأدنى لبعض خرسانات الاستخدام الإنشائي، مع امكانية مقاومة الماء.
تحديات ليست سهلة
هذه الأرقام واعدة، لكنها لا تُغلق النقاش، فالفرق بين “نموذج واعد” و”مادة تدخل كود البناء” يمر باختبارات طويلة للعمر التشغيلي، والتشققات، والدورات الحرارية، والتآكل الكيميائي، وسلوك المادة تحت أحمال متكررة، وهي خطوات عادة ما تكون أطول بكثير، وتطلب المزيد من البحث العلمي.
كما أن التحدي ليس علميًا فقط، بل اقتصادي وتنظيمي أيضا، فما تكلفة الإنزيم؟ وما مدى استقراره في خطوط إنتاج كبيرة؟ وكيف سيندمج في أكواد البناء الحالية؟ يتطلب ذلك أيضا المزيد من البحث.
لكن في النهاية، فإن البحث العلمي في هذا النطاق يسرّع الخطى، لحل واحدة من أكبر مشكلات الكوكب كله، وهي نفث ثاني أكسيد الكربون، والذي يتسبب في الاحتباس الحراري، بما له من أثر ضارب في العالم.