باستخدام الضوء الكمي.. عالم مصري يفتح الباب لتشفير لا يمكن اختراقه
تاريخ النشر: 6th, October 2025 GMT
حقق فريق بحثي يقوده العالم المصري محمد ثروت حسن، أستاذ الفيزياء بجامعة أريزونا، إنجازا يمكن أن يؤثر في مستقبل الاتصالات الرقمية في العالم.
وأعلن الفريق البحثي الدولي الذي يقود حسن، الجمعة الماضي، في دورية "لايت: ساينس آند أبليكيشنز"، إحدى دوريات مؤسسة "نيتشر"، عن توليد أسرع ومضات ضوئية كمية في التاريخ، تقاس بوحدة "الأتوثانية"، أي جزء من مليار من مليار من الثانية، مما يفتح الباب أمام تشفير اتصالات لا يمكن اختراقها حتى بأقوى الحواسيب الفائقة، واضعا العالم على أعتاب عصر جديد من الاتصالات الكمية التي تجمع بين السرعة الهائلة والأمان المطلق.
ولفهم الأمر، نعود إلى مبدأ عدم اليقين الذي صاغه الفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبيرغ عام 1927، والذي يقوم عليه أساس ميكانيكا الكم.
ينص هذا المبدأ على أنه من المستحيل معرفة بعض خصائص الجسيمات الدقيقة بدقة تامة في اللحظة نفسها، فكلما زادت دقة قياسك لخاصية معينة، قلت دقتك في خاصية أخرى مرتبطة بها.
فإذا تخيلت أنك تحاول تصوير كرة صغيرة سريعة جدا في الظلام باستخدام فلاش الكاميرا، فإن الضوء الذي تستخدمه لرؤيتها بوضوح يدفعها قليلا، فيغير سرعتها، أما إذا استخدمت ضوءا أضعف حتى لا تؤثر عليها، فلن تراها بوضوح، أي أنك تعرف سرعتها، لكن لا تعرف موقعها بدقة، وهكذا، فإن الفعل نفسه الذي نستخدمه للقياس يؤثر على الشيء الذي نحاول قياسه.
ويقول حسن للجزيرة نت: "ما فعلناه هو أول تجربة تتحكم في هذا الغموض نفسه في الزمن الحقيقي بدلا من الاكتفاء بقياسه، فقد تمكنا من إدارة "عدم اليقين" كما لو كان مقبضا يمكن ضبطه، وهو إنجاز لم يكن ممكنا منذ وضع هايزنبيرغ قانونه قبل قرن تقريبا".
ويكمن سر هذا الإنجاز في نوع خاص من الضوء يُعرف باسم "الضوء المضغوط".
إعلانففي الضوء العادي، يتوزع الغموض بالتساوي بين شدته (عدد الفوتونات) وتوقيته (زمن وصول الموجة)، مثل بالون مملوء بالهواء لا يمكن ضغطه من جهة دون أن ينتفخ من جهة أخرى.
أما الضوء المضغوط، فهو أشبه ببالون استطاع العلماء ضغطه في اتجاه معين لتقليل الغموض في خاصية محددة، كالشدة مثلا، حتى لو زاد الغموض في خاصية أخرى كالزمن.
وباستخدام جهاز بالغ التعقيد يُعرف باسم "مولد الضوء الكمي المضغوط"، استطاع فريق حسن توليد نبضات ضوئية فائقة السرعة تدوم 5.3 فيمتو ثانية فقط (أي مليون من مليار من الثانية)، وتمكنوا لأول مرة من رصد تطور حالة عدم اليقين في الضوء بزمن الأتوثانية، بل وتبديل الغموض الكمي بين الشدة والزمن لحظة بلحظة.
ويقول حسن: "يشبه الأمر كما لو أننا تمكنا من الإمساك بالغموض بأيدينا والتحكم فيه أثناء حدوثه، وهو أمر كان يُعتبر مستحيلا منذ وضع مبدأ هايزنبيرغ لأول مرة عام 1927".
ولتقريب الصورة، تخيل مصباحا يضيء وينطفئ بسرعة هائلة، ففي العادة، لا يمكنك التحكم في شدة هذا الضوء بدقة لأنه يتذبذب عشوائيا، أما الآن، فبفضل هذه التقنية، أصبح من الممكن التحكم في تذبذبه وضبطه في الزمن الحقيقي، وكأنك تمسك بمقبض يتحكم في استقرار الضوء نفسه.
قفزة في الاتصالات الكميةبينما تعتمد أنظمة الاتصالات الضوئية الحالية على مصادر ليزر مستمرة وبطيئة نسبيا تعمل في نطاق الميغاهيرتز أو الغيغاهيرتز، جاء النظام الجديد ليُحدث قفزة تكنولوجية باستخدام نبضات ضوئية فائقة القصر بترددات تصل إلى البيتاهيرتز، أي أسرع بملايين المرات من التقنيات التقليدية.
ولأن هذه النبضات تصدر في زمن لا يتعدى الأتوثانية، فإنها تتيح نقل المعلومات بسرعات هائلة مع تحكم فائق في الخصائص الكمية للضوء.
وفي حين تعتمد الأنظمة الحالية على خوارزميات رقمية يمكن نظريا اختراقها، يقوم النظام الجديد على قوانين فيزياء الكم ذاتها، إذ إن أي محاولة لاعتراض الإشارة تغير حالتها فورا، مما يجعل التجسس عليها مستحيلا دون أن يكتشف.
ويقول حسن: "بهذه التقنية، لم يعد الضوء مجرد وسيط لنقل البيانات، بل أصبح أداة نشطة في التشفير والتحكم الكمي، فاتحا الباب أمام عصر جديد من الاتصالات فائق السرعة وغير القابل للاختراق".
دقة في التجارب البيولوجيةولا تقتصر التطبيقات المحتملة لهذا الاكتشاف على الاتصالات فحسب، فقد أشار حسن إلى أن هذا الجسر الجديد بين ميكانيكا الكم والاتصالات فائقة السرعة قد يفتح آفاقا واسعة في التجارب البيولوجية الدقيقة.
ففي العادة، يؤدي استخدام ضوء قوي في دراسة الخلايا أو البروتينات إلى إتلاف العينة، لكن باستخدام الضوء المضغوط يمكن الحصول على إشارة أوضح حتى من ضوء ضعيف، لأن الضوضاء الكمية تقل، مما يسمح برؤية تفاصيل دقيقة دون إيذاء النسيج أو البروتينات.
كما يمكن لهذا النوع من الضوء أن يرصد التغيرات الطفيفة جدا داخل الخلايا، مثل انتقال إلكترون في جزيء واحد، وهي إشارات خافتة تضيع عادة في الضوضاء عند استخدام الضوء التقليدي.
ويختتم حسن قائلا: "هذا الاختراق ليس مجرد إنجاز تقني، بل قفزة فلسفية في فهمنا للعالم الكمي، فنحن لم نعد مجرد مراقبين للغموض، بل أصبحنا مهندسين له".
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات محمد ثروت حسن لا یمکن
إقرأ أيضاً:
طائر الجنّة يلهم العلماء لصناعة القماش الأشد سوادا في العالم
في مختبر بجامعة كورنيل، وقف فستان أسود على دمية عرض، لكنه لم يكن "أسود" بالمعنى المعتاد، بل بدا كأنه ثقب بصري يبتلع أي ضوء يُلقى عليه، حيث لا تظهر تفاصيل القماش.
هذا ليس سحرا ولا مرشحا رقميا، بل نتيجة مادة نسيجية جديدة تصنف ضمن ما يُسمّى "السواد الفائق"، أي الأسطح التي تعكس أقل من 0.5% من الضوء الساقط عليها.
وراء هذه الدرجة المتطرفة من السواد قصة "هندسة" و"فيزياء" أكثر مما هي قصة صبغة، إذ استلهم باحثو مختبر تصميم الملابس التفاعلية الفكرة من ريش طائر من طيور الجنة يُدعى "الرفلبِرد الرائع"، وهو طائر معروف بلمعان أزرق على صدره يحيط به ريش أسود مخملي يوحي بأن الضوء يختفي داخله.
في معظم الأقمشة، يكون السواد "سطحيا"، أي صبغة تمتص جزءا من الضوء، فيما يرتد جزء آخر إلى عينك. أما السواد الفائق فيعتمد على حيلة إضافية، وهي إجبار الضوء على الدخول في متاهة مجهرية تطيل مساره وتزيد فرص امتصاصه، بدل أن يرتد مباشرة.
وبحسب الدراسة، التي نشرها الفريق في دورية "نيتشر كومينيكيشنز"، فإن هياكل نانوية ترفع فرص امتصاص المادة لفوتونات الضوء، ما يسمح لنا برؤية السواد الأشد على الإطلاق.
طائر الرفلبرد يفعل ذلك طبيعيا، فريشه لا يعتمد على صبغة الميلانين وحدها، بل على ترتيب دقيق لشعيرات الريش يدفع الضوء للانحراف إلى الداخل. لكن هناك مشكلة: هذا السواد الطبيعي يكون غالبا اتجاهيا، أي مذهلا حين تُشاهَد الريشة من زاوية معيّنة، وأقل "سوادا" عندما تتغير زاوية الرؤية.
حل العلماء لتلك المشكلة جاء بخطوتين بسيطتين في المبدأ، أنيقتين في التنفيذ، حيث صبغ صوف ميرينو بمادة البوليدوبامين، وهو ما يصفه الباحثون بأنه "ميلانين صناعي".
إعلانبعد ذلك يُعرَّض القماش لعملية حفر ونحت داخل حجرة بلازما تزيل جزءا بالغ الدقة من السطح، وتترك خلفها نتوءات نانوية حادة، هذه النتوءات تعمل كمصايد ضوئية، أي يدخل الضوء بينها ويرتد مرات كثيرة حتى يفقد طريق العودة.
النتيجة ليست أسود داكنًا، بل استثناء رقميا صارما، فمتوسط انعكاس القماش الجديد عبر الطيف المرئي (400-700 نانومتر) بلغ 0.13%، وهو، بحسب الورقة العلمية، أغمق قماش مُبلّغ عنه حتى الآن.
تطبيقات مهمةقد يبدو الأمر كترف بصري أو نزوة "موضة"، لكنه في الحقيقة يلامس تطبيقات عملية حساسة، فالسواد الفائق مهم لتقليل الانعكاسات الشاردة داخل الكاميرات والأجهزة البصرية والتلسكوبات.
ويمكن لهذا المستوى من اللون الأسود أن يساعد في بناء ألواح وتقنيات شمسية أو حرارية عبر تعظيم امتصاص الإشعاع.
كما يشير الباحثون أيضا إلى إمكانات واعدة لهذه المادة الجديدة في عمليات التمويه وتنظيم الحرارة، لأن السطح الذي يمتص الضوء بكفاءة قد يحوّل جزءا منه إلى حرارة قابلة للإدارة.
أما الفستان الذي صممه العلماء، فكان برهانا بصريا لطيفا على نجاح التجارب، وقد استُخدم لإظهار أن هذا السواد لا يتبدّل بسهولة حتى عندما تُعدَّل إعدادات الصورة، مثل التباين أو السطوع، مقارنة بأقمشة سوداء أخرى.