الفيضان الذي اجتاح شوارع السودان وإثيوبيا هذا الشهر لم يكن مجرد مشهد طبيعي عابر. كانت الكاميرات تلتقط مياهًا تتدفق بلا توقف، بينما كانت الحقيقة نفسها تغرق في روايات متضاربة، كل طرف يصنع منها بطولته الخاصة. فيضان الماء كشف في الوقت ذاته فيضانًا آخر أشد خطرًا: فيضان الرواية السياسية.

منذ أن أعلنت أديس أبابا اكتمال الملء الأخير لسد النهضة، تحولت القنوات إلى ساحات صراع على من “يملك الماء” ومن “يملك الحقيقة”.

إثيوبيا احتفلت بالنصر المائي، بينما اكتفى الإعلام الغربي بتغطية فاترَة تعكس ما يريد العالم تصديقه: “مشروع تنموي وطني” لا “خطر وجودي على شعب”. أما الإعلام العربي، فانشغل بين الغضب والدهشة، كمن يتابع فيلماً شاهده كثيرًا، لكنه لا يستطيع تغيير نهايته.

في هذه اللحظة، يتجاوز السؤال حدود السياسة إلى ما هو أعمق: من الذي يكتب الآن قانون المياه في المنطقة؟
هل هي القنوات الفضائية التي تروّج لصورة “سد النهضة” كإنجاز حضاري، أم غرف القرار الدولية التي ترى في الماء وسيلة جديدة لإعادة رسم خرائط النفوذ؟

خمسون عامًا بعد عبور أكتوبر، تعود مصر لتواجه حربًا من نوع آخر: حرب على الوعي المائي.
الطائرات لم تعد تعبر القناة، بل الصور والأخبار تعبر الشاشات لتعيد تشكيل الإدراك الجمعي.
تتحول شلالات إثيوبيا إلى خطابات سياسية، والفيضان إلى أداة ناعمة لفرض الأمر الواقع.

وثيقة حديثة صادرة عن “مركز ستراتفور” الأميركي تضع إثيوبيا ضمن “محاور التأثير الصاعدة” في إفريقيا، وتصف سد النهضة بأنه “أداة نفوذ إقليمي” أكثر منه مشروع طاقة. وفي المقابل، يرى تقرير لمجلة Foreign Policy أن مصر “تمتلك أوراق قوة ناعمة يمكنها استثمارها”، لكنها “تحتاج لإعادة تعريف خطابها الإعلامي المائي”.
بمعنى آخر: المعركة الآن ليست في مجرى النيل، بل في مجرى السرد.

تاريخيًا، لم يكن الماء في مصر مجرد مورد، بل جزءًا من الهوية. المصري القديم رسم النيل على جدران المعابد كرمز للحياة والعدالة معًا. اليوم، تعود تلك العدالة لتُختبر من جديد. هل يمكن لأمة أن تبقى هادئة بينما تُكتب حدودها المائية في غرف مغلقة بأديس أبابا وواشنطن؟

الفيضان الذي أغرق بعض القرى، أعاد للسطح سؤالًا ظلّ عالقًا:
إذا كانت إثيوبيا تملك السد، والعالم يملك الصوت، فهل ما زال للمصريين حق في أن يملكوا “الرواية”؟
أم أننا نعيش زمنًا تُباع فيه الحقيقة عبر إعلانات على “يوتيوب”، بينما تجري المياه بعيدًا عن الشاشات؟

إن أخطر ما في الأزمات الكبرى ليس ما تفعله بنا، بل ما تفعله في وعينا.
حين تتحول حرب المياه إلى سباق في تغطية إعلامية، نكون قد خسرنا جزءًا من معركة الوعي التي هي أعمق من أي تفاوض سياسي.
ولذلك فإن الدفاع عن النيل اليوم لا يبدأ من السد، بل من الكلمة.
من مقالة تُكتب بحبرٍ من الوعي، لا من رد فعلٍ غاضب.
من صحافة تعرف أن الماء لا يُقاس بالمتر المكعب فقط، بل بمدى إدراك الناس لقيمته كرمزٍ للسيادة والكرامة والحق في الوجود.

الفيضان سيمرّ، كما مرّت أزمات كثيرة، لكن ما يجب أن يبقى هو الذاكرة المائية للأمة:
ذاكرة تعرف أن النيل ليس مجرى من الماء فقط، بل مجرى من التاريخ.
وأن من يكتب الرواية اليوم، هو من سيرسم خريطة الغد.

طباعة شارك السودان إثيوبيا الفيضان

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: السودان إثيوبيا الفيضان

إقرأ أيضاً:

إثيوبيا تتهم مصر بالسعي للهيمنة على النيل

أصدرت إثيوبيا اليوم الاثنين بيانا ردّت فيه على ما وصفته بـ"اللهجة التصعيدية من جانب مصر" بشأن نهر النيل وسد النهضة، معتبرة أن ذلك يأتي ضمن ما قالت إنه "محاولات مصرية للهيمنة على موارد النهر".

يأتي ذلك عقب يوم من اتهام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إثيوبيا بإلحاق الضرر عبر سد النهضة بدولتي المصب مصر والسودان، داعيا إلى تحرك دولي وأفريقي لعقد اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل وملء السد، مؤكدا أن بلاده "لن تقف مكتوفة الأيدي".

وقال السيسي -في كلمة مسجلة ألقاها خلال الجلسة الافتتاحية لـ"أسبوع القاهرة الثامن للمياه"- إن مصر انتهجت على مدار 14 عاما مسارا دبلوماسيا "نزيها اتسم بالحكمة والرصانة"، سعيا للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن السد الإثيوبي، يراعي مصالح جميع الأطراف.

وأضاف الرئيس المصري أن القاهرة قدمت خلال هذه السنوات "بدائل فنية رصينة تلبي الأهداف المعلنة لإثيوبيا، وتحفظ مصالح دولتي المصب"، إلا أن هذه الجهود "قوبلت بتعنت لا يفسر إلا بغياب الإرادة السياسية، وسعي لفرض الأمر الواقع، مدفوعا باعتبارات سياسية ضيقة، ومزاعم باطلة بالسيادة المنفردة على نهر النيل".

السيسي: القاهرة قدمت خلال هذه السنوات "بدائل فنية رصينة" (رويترز)احتياجات واتهامات

وتتهم أديس أبابا القاهرة بأنها تتجاهل احتياجات وحقوق الدول الأخرى، ترى أن حلّ الخلافات لا يمكن أن يتم إلا من خلال حوار مباشر بين الأطراف المعنية، وأن "الأمن المائي" يجب أن يُبنى على الاستخدام العادل والمعقول لمياه النيل بين جميع دول الحوض.

كما شددت على أن سدّ النهضة ليس المشروع الوحيد في دول المنابع العليا للنيل، وأن مصير مصر مرتبط ببقية دول الحوض، مما يتطلب من القاهرة التعامل بندّية وحُسن نية، حسب البيان.

وكانت وزارة الري المصرية قد اتهمت في الـ3 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إثيوبيا بالقيام بتصرفات "متهورة وغير مسؤولة" في إدارة سد النهضة، مؤكدة أن تلك التصرفات "ألحقت أضرارا بالسودان، وتشكل تهديدا مباشرا لأراضٍ وأرواح مصرية".

إعلان

وتشهد مناطق عدة في السودان ومصر فيضانات خلال الأيام الأخيرة، نتيجة ارتفاع منسوب المياه في نهر النيل، في ظل استمرار تعثر الاتفاق بشأن ملء وتشغيل السد الذي بدأ بناؤه عام 2011.

وتطالب مصر والسودان بالتوصل إلى اتفاق ثلاثي قانوني ملزم قبل استكمال مراحل الملء والتشغيل، في حين ترى إثيوبيا أنها لا تعتزم الإضرار بمصالح أي دولة، مما أدى إلى تجميد المفاوضات منذ عام 2024، بعد استئنافها لفترة قصيرة في 2023.

ويأتي هذا التصعيد الجديد وسط مخاوف متزايدة من أن تؤدي الفيضانات إلى تأجيج التوتر بين دول الحوض، في وقت تتعثر فيه الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق نهائي حول السد.

مقالات مشابهة

  • إثيوبيا تتهم مصر بالسعي للهيمنة على النيل
  • د. علي عبدالحكيم الطحاوي يكتب.. السلام في الشرق الأوسط يبدأ من مصر
  • رئيس وزراء بريطانيا: اليوم المرحلة الأولى والحاسمة لإنهاء الحرب في الشرق الأوسط
  • ترامب: اليوم سكتت البنادق ومستقبل الشرق الأوسط سيصبح مشرقًا
  • عاجل | ترامب: اليوم هو فجر تاريخي لمستقبل الشرق الأوسط
  • عاجل. ترامب من الكنيست الإسرائيلي: اليوم هو فجر تاريخي لمستقبل الشرق الأوسط
  • من شرم الشيخ.. رئيس الوزراء البريطاني: اليوم نطلق المرحلة الأولى الحاسمة لإنهاء حرب الشرق الأوسط
  • مصطفى الشيمي يكتب: غصن مكسور
  • قانون الموارد المائية والري الجديد يشدد الإجراءات لحماية مجرى نهر النيل من التعديات