من النصر المطلق إلى الخيبة المطلقة
تاريخ النشر: 15th, October 2025 GMT
مع إعلان ترامب ونتنياهو يوم الاثنين 13 أكتوبر 2025، نهاية حرب غزة رسميًّا، يدخل القطاعُ بذلك مرحلة جديدة يحدوها الأمل في استعادة الهدوء والسَّلام بعد سنتين كاملتين من حرب الإبادة التي أكلت الأخضر واليابس ودمّرت نحو 90 بالمائة من مباني غزة وبنيتها التحتية وأوقعت ربُع مليون فلسطيني بين شهيد ومفقود وجريح.
الآن يمكن لـ2.3 مليون فلسطيني العودة إلى ديارهم المهدَّمة ونصب خيام فوق أنقاضها في انتظار بدء إزالة قرابة 40 مليون طنّ من الركام والشروع في إعادة الإعمار وتصليح شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي وإعادة بناء المدارس والمستشفيات وإصلاح الطرقات وبعث مظاهر الحياة من جديد في غزّة المدمَّرة، وفي هذا إيذانٌ نهائي بتبدُّد وهم “النصر المطلق” الذي قال نتنياهو إنّه سيحقّقه على حماس، وفشلِ مشروع التهجير وعودة الاحتلال والمستوطنات، ونهاية حلم “ريفييرا الشرق الأوسط”، وهذا كلّه بفضل الصمود الأسطوري للفلسطينيين على أرضهم برغم وحشية المجازر وقسوة التجويع وهول التدمير…
الاحتلالُ فشل في تحرير أسراه بالقوة كما وعد، ولم يحرِّرهم في آخر المطاف إلا بموجب صفقة أنهت الحرب وفكّت أسْر 1968 فلسطيني آخر، منهم 250 من المحكوم عليهم بالمؤبّد عدّة مرات. وبرغم أنّ المقاومة لم تنجح في تبييض سجون الاحتلال أو حتى إجباره على إطلاق سراح كبار قادة الحركة الأسيرة وفي مقدّمتهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات وقادة “القسام” المسجونين وجثماني يحيى ومحمد السنوار، إلا أنّها فضّلت التنازل مؤقتا عن هذا الشرط لإتمام صفقة تبادل الأسرى بغية سدّ الذرائع أمام الاحتلال الذي كان يأمل في تصلّب المقاومة على موقفها لنسف اتفاق وقف إطلاق النار وخطة ترامب في بدايتها واستئناف الحرب بعد تحميل المقاومة مسؤولية ذلك، وهو ما تفطّنت إليه وأنجزت صفقة التبادل وفق قاعدة “ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلُّه”، وتركت مسألة تبييض السُّجون والإفراج عن كبار القادة إلى مرحلة لاحقة تتحسّن فيها الظروف، فالأهمّ الآن هو وقفُ حرب الإبادة الجهنّمية التي أوقعت دمارا هائلا بغزة وخسائرَ فادحة بالمدنيين الفلسطينيين، ومن ثمّ تمكينهم من التقاط أنفاسهم، وتضميد جراحهم، والعودة إلى بيوتهم، وإلى حياتهم اليومية التي تضرّرت بشدّة طيلة سنتين كاملين من حرب الإبادة التي تجاوز فيها العدوّ كل الخطوط الحُمر وعاقب جماعيًّا 2.3 مليون إنسان أمام أنظار العالم كله من دون أن يغيثه أحد.
انتهت الحرب إذن من دون أن يتمكّن الاحتلال من تحقيق أهدافه، وفي مقدّمتها تحقيق “النصر المطلق” على المقاومة والقضاء عليها أو إجبارها على الاستسلام وإلقاءِ سلاحها ونفي قادتها إلى الخارج، وتحرير أسراه بالقوة، وتهجير الفلسطينيين من غزة، وإعادة احتلالها وملئها بالمستوطنات كما كانت قبل انسحابه في أوت 2005 أو أكثر… اليوم تكسّرت أحلام نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وكبار المتطرِّفين اليمينيين الصهاينة في تهجير سكان غزة، ثم سكان الضفة الغربية لاحقًا ومن ثمّ تصفية القضية الفلسطينية لصالحهم إلى الأبد، وهذا الإخفاقُ الصهيوني المدوّي هو مكسبٌ كبيرٌ حقّقه الفلسطينيون بصمودهم على أرضهم.
ويتعزّز هذا المكسب الهامّ، بإنهاء عمل ما يسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” الأمريكية الإجرامية التي انهارت فور وقف إطلاق النار، وعودة العمل تدريجيًّا بنظام التوزيع القديم الذي تشرف عليه الهيئات الأممية لتتدفّق المساعدات بلا قيود من المعابر وفي مقدّمتها معبر رفح ودخول نحو مئات الشاحنات يوميًّا، وهذا ما سينهي المجاعة بغزة بعد أن فتكت بحياة 463 فلسطيني وحوّلت الآلاف إلى هياكل عظمية.
وتسمح نهاية الحرب للمقاومة أيضا بالتقاط أنفاسها، وإعادة تنظيم صفوفها، وتجنيد مقاتلين جدد مكان آلاف المقاومين الشهداء، وإعادة تأهيل الأنفاق وترميم قدراتها العسكرية استعدادا للجولات القادمة، فالعدوّ لن يتركها وشأنها أبدا بعد غزوة 7 أكتوبر التي تأكّد أنها مجرّد أنموذج حيّ لكيفية تدمير جيشه وتحرير فلسطين كلّها مستقبلا.
هذه المكاسبُ غير هيّنة، وهي تبرّر كلّها تنازل المقاومة عن تحرير كبار الأسرى الفلسطينيين في هذه الجولة، مؤكّدة أنّها لن تتخلى عنهم وستواصل السعي لتحريرهم مستقبلا، متى كانت الظروف أفضل، أمّا الآن فيكفي وقفُ الحرب ومنع إبادة سكان غزة أو تهجيرهم.. المقاومة كانت تحارب وحدها في ظل خذلان عربي وإسلامي مطلق وخيانة صارخة وتواطؤ أمريكي وغربي فاضح مع الاحتلال، وصمودُها عامين كاملين أمام أحد أقوى الجيوش في العالم ومدعوم بأحدث الأسلحة الأمريكية والغربية وأشدّها تدميرا وفتكا، يعدُّ نصرا في حدّ ذاته، والضررُ الأشدّ يُدفع بالضرر الأخفّ، والمعركة مع الاحتلال متواصلة لأجيال، كما تواصلت ثورات الجزائريين ضدّ الاستعمار الفرنسي طيلة 132 سنة، خاضوا خلالها الكثير من المعارك الفاشلة قبل أن ينجحوا في معركة 1 نوفمبر 1954 وينتصروا على الاحتلال ويطردوه إلى غير رجعة، وذلك ما سيحدث في فلسطين بإذن الله، والأيامُ دول.
الشروق
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه ترامب غزة نتنياهو غزة نتنياهو ترامب مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
القدس.. الحرب التي لا تنتهي!
من خطة الاستيطان E1 إلى احتلال مدينة غزة، تعمل “إسرائيل” على تفكيك أيّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية.
إنّ مساعي “إسرائيل” العدوانية لإعادة تشكيل جغرافيا وسياسة القدس والأراضي الفلسطينية الأوسع ليست عفوية ولا دفاعية. إنها نتيجة استراتيجية طويلة الأمد لمحو إمكانية السيادة الفلسطينية، التي يسعى إليها البعض في المجتمع الدولي مؤخراً، وفرض سردية إسرائيلية حصرية للسيطرة.
من القدس إلى غزة، تعمل كلّ خطوة مدمّرة من جانب “إسرائيل” على ترسيخ سلطتها، وتهجير الفلسطينيين، وزعزعة استقرار المنطقة. ومن دون تدخّل دولي جادّ، ستمتد العواقب إلى ما هو أبعد من الأرض المقدّسة.
أصبح هذا التحوّل جلياً في عام 2017م، عندما حطّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوداً من الإجماع الدولي باعترافه بالقدس عاصمةً موحّدةً لـ “إسرائيل” ونقله السفارة الأمريكية إليها.
هذا الإجراء الأحادي، المُغلّف ضمن ما يُسمّى “صفقة القرن”، أعطى “إسرائيل” الضوء الأخضر لتسريع خططها في القدس.
توسّعت المستوطنات، وتضاعفت عمليات هدم منازل الفلسطينيين، وزادت القيود على الوصول إلى الأماكن المقدّسة. بالنسبة للفلسطينيين، لم يُقوّض إعلان ترامب حلّ الدولتين فحسب، بل قضى عليه تماماً.
فسّرت “إسرائيل” مباركة واشنطن على أنها ترخيص لترسيخ السيادة على القدس على حساب الوجود الفلسطيني وحقوقه. ولم تُسرّع خطوة ترامب سوى عملية كانت جارية بالفعل. فقد فرضت “إسرائيل” تدابير تهدف إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني في القدس وفرض سيطرتها الحصرية على أماكنه المقدّسة.
في عام 2015م، أشعلت القيود المفروضة على الوصول إلى المسجد الأقصى واقتحامات المستوطنين شرارة انتفاضة القدس، التي خلّفت آلاف الجرحى والمعتقلين والشهداء. بعد عامين، أثار تركيب البوابات الإلكترونية على مداخل الأقصى احتجاجات فلسطينية حاشدة، مما أجبر “إسرائيل” على التراجع المُحرج.
ومع ذلك، لم يتغيّر المسار الأوسع: فقد تصاعدت عمليات هدم المنازل، واستمرت عمليات الطرد، واقتحمت جماعات المستوطنين المسجد الأقصى بوتيرة متزايدة، غالباً تحت الحماية المباشرة لقوات الأمن الإسرائيلية.
قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه، إلى جانب شخصيات من اليمين المتطرّف مثل إيتمار بن غفير، بزيارات رفيعة المستوى إلى سلوان، وهو حيّ فلسطيني في القدس الشرقية المحتلة، وإلى المسجد الأقصى لإرسال رسالة مفادها: ستُعاد صياغة القدس وفقاً لشروط “إسرائيل”، بغضّ النظر عن القانون الدولي أو قرون من الوصاية الدينية.
E1 والضفة الغربية المحتلة
امتدّت هذه الاستراتيجية منذ ذلك الحين إلى الضفة الغربية المحتلة بطرق تكشف عن غايتها الكاملة. في أغسطس 2025م، أحيت “إسرائيل” خطة E1 الاستيطانية المتوقّفة منذ فترة طويلة، وسمحت ببناء نحو 3500 وحدة سكنية شرق القدس.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا بمثابة توسّع آخر للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي غير القانوني واسع النطاق، لكنّ آثاره أكثر تدميراً بكثير. منطقة E1 هي قطعة أرض تمتدّ على طول الضفة الغربية المحتلة، تربط القدس بمعاليه أدوميم، إحدى أكبر المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية، وتقسمها في الوقت نفسه.
وبفصل القدس الشرقية المحتلة عن باقي الأراضي، وفصل تجمّعات شمال وجنوب الضفة الغربية عن بعضها البعض، ستجعل E1 إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافياً أمراً شبه مستحيل. ولم يتردّد المسؤولون الإسرائيليون في إعلان نواياهم. فقد صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش صراحةً بأنّ الموافقة على البناء في E1 «تدفن فكرة الدولة الفلسطينية”.
وهذه الصراحة تكشف ما يعرفه الفلسطينيون منذ زمن: المستوطنات غير الشرعية لا تهدف إلى نقص المساكن أو الأمن؛ بل هي أدوات ضمّ. ومن خلال E1 ومشاريع مماثلة، تُضفي “إسرائيل” طابعاً رسمياً على ما تسمّيه “السيادة الفعلية”، موسّعةً بذلك سيطرتها على الأراضي المحتلة، منتهكة اتفاقية جنيف الرابعة وقرارات الأمم المتحدة المتكرّرة.
إذا كانت المنطقة E1 تُمثّل استراتيجية “إسرائيل” لتقسيم الضفة الغربية المحتلة، فإنّ غزة تكشف عن الوجه الآخر للعملة: الهيمنة العسكرية المباشرة والتهجير القسري.
في أغسطس2025م، وافقت “إسرائيل” على خطة للسيطرة على مدينة غزة، مما قد يؤدّي إلى تهجير أكثر من مليون من سكانها تحت ستار “الأمن”. أُمرت العائلات بالإخلاء، وأُجبرت على اللجوء إلى ملاجئ غير آمنة ومكتظة في جنوب غزة، بينما تُحذّر تقارير المنظّمات الإنسانية من وفيات ناجمة عن الجوع وكارثة إنسانية متفاقمة.
وباحتلالها مدينة غزة، تُنفّذ “إسرائيل” خطة لإعادة تشكيل هذا الجيب بشكل دائم، كما فعلت في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية المحتلة. وبالنظر إلى هذه التطورات مجتمعةً، فإنها تكشف عن استراتيجية توسّع مُنسّقة.
وفي القدس، تسعى الإجراءات التقييدية والاستفزازات في الأقصى إلى تقليص الوجود الفلسطيني وتعزيز سيادة المستوطنين. أما في الضفة الغربية المحتلة، فتهدف المنطقة E1 إلى تجزئة الأرض الفلسطينية إلى الحدّ الذي تصبح فيه الدولة الفلسطينية ضرباً من الخيال. في غزة، يُشير النزوح الجماعي والاحتلال العسكري إلى نية “إسرائيل” إعادة تشكيل المنطقة بالكامل. هذا محوٌ للوجود الفلسطيني، ولطالما كان كذلك.
صمت عالمي، مقاومة محلية
العواقب وخيمة وفورية. ستقاوم المجتمعات الفلسطينية المجزّأة، المجرّدة من السيادة والمعرّضة للعنف المستمر، كما كانت دائماً. ستُقابل هذه المقاومة، سواء في شوارع القدس أو قرى الضفة الغربية المحتلة أو مخيمات اللاجئين في غزة، حتماً بمزيد من القوة الإسرائيلية، مما يُؤجّج دوامة لا نهاية لها من سفك الدماء.
وخارج فلسطين، تُهدّد هذه الاستفزازات بجذب قوى إقليمية، مما يُزعزع استقرار الأردن ولبنان وغيرهما.
ويرى الأردن، الوصي على المسجد الأقصى، أنّ كلّ اعتداء إسرائيلي على القدس يُمثّل تهديداً مباشراً لسيادته واستقراره الداخلي، ولا سيما بالنظر إلى العدد الكبير من السكان الفلسطينيين داخل حدوده. لبنان، الذي يعاني أصلاً من شلل سياسي وانهيار اقتصادي، يواجه توتراً مستمراً على طول حدوده الجنوبية مع تصاعد التوغّلات العسكرية والغارات الجوية الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه، وسّعت “إسرائيل” نطاق وجودها العسكري في المنطقة، حيث ضربت أهدافاً في سوريا ولبنان واليمن، وكان أبرزها هجوم غير مبرّر على قطر. هذه الإجراءات، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بمشروع “إسرائيل” التوسّعي في فلسطين، تُظهر كيف يُزعزع عدوانها العسكري استقرار الشرق الأوسط بشكل متزايد.
لا يمكن للمجتمع الدولي أن يبقى مكتوف الأيدي. فالإدانات الصادرة عن بروكسل أو بيانات الأمم المتحدة لا قيمة لها إن لم تُقابل بإجراءات ملموسة. فلطالما أظهرت “إسرائيل” أنها ستتجاهل الرأي العامّ الدولي ما لم تُواجه عواقب. المطلوب هو المساءلة: الضغط من خلال العزلة الدبلوماسية، وفرض قيود على مبيعات الأسلحة، وفرض عقوبات تستهدف مؤسسات المستوطنات. في الوقت نفسه، يجب التمسّك بحقوق الفلسطينيين كمبدأ مُلزم في القانون الدولي.
الرأي العامّ العالمي آخذ في التغيّر. ومع ذلك، يجب ترجمة هذه الموجة إلى سياسات لمنع المأساة التي تنتظرنا. البديل واضح: الصمت سيشجّع “إسرائيل” على المضي قدماً في ضمّ الضفة الغربية المحتلة، وتهجير سكان غزة، وإلغاء الوضع الراهن للقدس.
القدس ليست مجرّد نزاع محلي؛ إنها مقياس لالتزام العالم بالعدالة. غزة ليست ساحة معركة فحسب؛ إنها اختبار للإنسانية. وخطة E1 ليست مسألة تقنية لتقسيم مناطق؛ إنها مخطط لإنكار دائم للدولة الفلسطينية.
إنها مجتمعة تُشكّل مشروعاً توسّعياً لا يهدّد الفلسطينيين فحسب، بل استقرار المنطقة بأسرها. ما لم يتحرّك العالم بحزم، فإنّ سعي “إسرائيل” للسيطرة الكاملة سيقودنا جميعاً إلى صراع لا نهاية له.
صحفي فلسطيني.