المقاومة بين ضغط العدو وصمت القريب
تاريخ النشر: 10th, December 2025 GMT
أحمد الفقيه العجيلي
تبدو المفارقة في المشهد العربي اليوم لافتة: فبعض الأنظمة تبدو أكثر تشددًا تجاه حركات المقاومة مما هي عليه القوى الكبرى نفسها. ولا يرتبط الأمر بخلاف سياسي محدود؛ بل بتراكم تاريخي وتعقيدات تتداخل فيها هواجس الأمن الداخلي، وتحولات الإقليم، ومحاولات إعادة بناء الأولويات بعيدًا عن القضية الفلسطينية.
حركات المقاومة- وفي مقدمتها حماس- تمثل نموذجًا حساسًا لدى عدد من الأنظمة. فهي قوى شعبية تمتلك خطابًا مؤثرًا، وحضورًا ميدانيًا متماسكًا، وقدرة على الاستمرار رغم الظروف القاسية.
هذا النموذج يُثير مخاوف متوارثة من انتقال "عدوى القوة الشعبية" إلى الداخل، كما حدث حين ألهبت ثورات الخمسينيات مشاعر الشعوب العربية، أو عندما فجّرت انتفاضة 1987 موجة تعاطف وضغط شعبي هزّت المنطقة بأكملها. لذلك تصبح هذه الحركات هدفًا مزدوجًا: تُحارَب من الاحتلال لأنه يراها خصمًا مباشرًا، وتتحفظ عليها بعض الأنظمة لأنها تمثل نمطًا لا ترغب في رؤيته يتكرر.
الأحداث الأخيرة كشفت هذه المعادلة بوضوح؛ فبعد طرح "خطة ترامب"، التي تكشف عن ثغرة قاتلة: غياب الضمانات الحقيقية لوقف الخروقات الإسرائيلية. هذه الخطة لم تُبنَ على أساس موازين قوى متكافئة أو حقوق ثابتة؛ بل اعتمدت في جوهرها على أجندة أمريكية- إسرائيلية تهدف إلى تصفية المقاومة ونزع سلاحها أولًا، دون إلزام الاحتلال بضوابط ردع فعالة لوقف الاستيطان أو الاغتيالات أو التعدي على المقدسات.
وبالتالي تجعل تركيزها كله على مطالبة المقاومة بالتنازل، دون وضع آليات عقابية لإلزام الطرف الإسرائيلي.
والأدهى، أن دور الوسطاء العرب والدوليين يظل في الغالب ضعيفًا وغير فعّال عند وقوع الخروقات الإسرائيلية الكبرى؛ فبدلًا من ممارسة ضغط حقيقي لفرض عقوبة على العدو، تقتصر ردود فعلهم غالبًا على بيانات حذرة أو متابعة للمشهد، ما يضعهم في موقع "المراقب" بدلًا من "الضامن الفعّال". هذا الضعف في آليات الضمان يرسخ الانطباع بأن أي تسوية تُطرح، هي بالأساس إطار قابل للتلاعب من قبل الاحتلال، يتيح له استخدام الوقت لصالحه للمزيد من القضم والتمدد.
التاريخ القريب يدل على أن أي تسوية لا تنطلق من الإرادة الفلسطينية تتحول إلى إطار قابل للتلاعب. حدث ذلك في كامب ديفيد، وفي أوسلو، ويتكرر اليوم مع خطة ترامب. فالاحتلال يملك القدرة على إعادة تفسير البنود واستخدام الوقت لصالحه، بينما تكتفي الأطراف العربية المعنية بمتابعة المشهد أكثر مما تُسهم في تشكيله.
ويبقى السؤال: هل يمكن لمثل هذه الخطط أن تنجح؟ التجربة تشير إلى أن نجاحها يتطلب قبولًا فلسطينيًا واسعًا، وهو ما لم يتحقق، خصوصًا أن الخطة بُنيت على منطق أحادي يجعل "الحل" أقرب إلى إعادة ترتيب الاحتلال بلغة سياسية ناعمة. وهكذا تبقى المقاومة- رغم اختلاف تقييم أدائها- الطرف الوحيد الذي يتحرك على قاعدة الفعل لا البيانات.
بحسب ما أتابعه من قراءات وتحليلات، فإن فرص نجاح أي خطة لا تُلزم الاحتلال بقواعد واضحة وتضمن الحد الأدنى من الحقوق، ستظل ضعيفة. فالخطة التي تستند على الضغط على المقاومة دون ردع الاحتلال، تشبه محاولة بناء بيتٍ على أرض رخوة؛ أول هبّة ريح تكشف هشاشته.
ولعل العدو يدرك- قبل غيره- أن كسر حماس ليس سهلًا؛ فالمقاومة التي صمدت تحت الحصار، وتحت النار، وتحت كل حملات التشويه، ليست مجرد تنظيم؛ إنها حالة وعي تشكّلت عبر عقود من الجراح والأمل. وهذا ما يجعل بعض الأنظمة أكثر حذرًا… وربما أكثر عداءً.
في الجوهر، الموقف المتشدد تجاه المقاومة لا يرتبط بقيم سياسية بقدر ما يرتبط برغبة عدد من الأنظمة في طيّ صفحة الصراع، أو على الأقل تحييده عن حساباتها الجديدة. لكن وجود مقاومة فاعلة يعيد تذكير الجميع بأن الملف لم يُغلق، وأن أي ترتيب لا يأخذ حقوق الفلسطينيين بجدية لن يعيش طويلًا.
لهذا تبدو المفارقة مفهومة: تُنتقد المقاومة لأنها ترفض التكيف مع المعادلات الجديدة، ولأن استمرارها يربك خطاب “الاستقرار بأي ثمن”. أما الاحتلال، فاعتاد أن يجد من يخفف عنه عبء الانتقاد، حتى وهو يمضي في خروقاته يومًا بعد يوم.
ولذلك، كلما اشتد الهجوم على حماس… ازددتُ يقينًا أن ما يؤلم خصومها ليس فعلها، بل ثباتها.
وما يزعجهم ليس قوتها، بل قدرتها على النجاة. وما يخيفهم ليس خطابها؛ بل الأمل الذي تبقيه حيًا في قلوب الناس.
هذه الصورة ليست تحليلًا سياسيًا بقدر ما هي قراءة واقعية لمشهد يتكرر عبر العقود: حين يتراجع الصوت الرسمي، تظل القوى الشعبية- مهما اختلفت التقديرات حولها- هي الكف التي تمنع سقوط القضية بالكامل.
في النهاية.. يظل الثابت أن من يحمل البندقية ومن يرفض الانحناء هو الأكثر استهدافًا. أما من يفاوض بلا أوراق قوة، أو يساير الرياح حيثما هبّت، فلن يكون موضع قلق لأي أحد.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ماذا تملك المقاومة في غزة اليوم لردع الاحتلال؟
منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، لم يتوقف الصراع بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بل انتقل إلى مرحلة مختلفة تُدار فيها المواجهة عبر أدوات متعددة، عسكرية وأمنية وإنسانية وسياسية.
ولا تتسم هذه المرحلة بصخب الحرب المفتوحة، لكنها تحمل ملامح صراع منخفض الوتيرة، يقوم على تثبيت قواعد اشتباك جديدة، وإعادة توزيع السيطرة، واستخدام الضغط غير القتالي كوسيلة تأثير رئيسية.
وتُظهر المعطيات الميدانية والسياسات المعلنة للطرفين أن ما بعد وقف إطلاق النار لا يمكن توصيفه كمرحلة استقرار، بقدر ما هو إعادة تموضع مؤقتة تُدار فيها المواجهة عبر "ردع متعدد المستويات"، تتحكم فيه اعتبارات السيطرة الجغرافية، والاختراق الاستخباري، وتدفق المساعدات، وإعادة الإعمار، وإدارة البيئة الداخلية في قطاع يعاني من دمار واسع ونزوح غير مسبوق.
يرصد هذا التقرير أبرز ملامح معادلة الردع التي تشكّلت بعد الحرب، استنادا إلى الوقائع الميدانية، والتحركات الأمنية، والبيانات السياسية والحقوقية.
اعتمدت إسرائيل عقب وقف إطلاق النار سياسة أمنية تقوم على الاستجابة السريعة والمحدودة لأي تحرك تعتبره تهديدا لقواتها أو لمناطق انتشارها داخل قطاع غزة.
وشملت هذه السياسة تنفيذ عمليات استهداف متكررة ضد أهداف ومجموعات فلسطينية، زعم الاحتلال أنها كانت تحاول تنفيذ كمائن أو عمليات إطلاق نيران أو الاقتراب من مناطق عسكرية محظورة، في حين أكدت المقاومة أن جيش الاحتلال كان يتذرع بهذه الحجج لمواصلة عدوانه على المواطنين في القطاع.
وتشير البيانات العسكرية الإسرائيلية إلى أن هذا السلوك يُعد جزءا من "تثبيت الهدوء بالقوة"، وهو نهج يهدف إلى منع الفصائل الفلسطينية المسلحة من إعادة اختبار حدود الردع أو التمركز قرب المواقع التي تتمركز فيها القوات الإسرائيلية.
إعلانوأسفرت هذه العمليات، وفق إحصاءات طبية فلسطينية، عن استشهاد مدنيين في عدة مناطق تشهد وجودا عسكريا إسرائيليا متواصلا، ويعكس هذا النهج استمرار الخروقات الإسرائيلية رغم وقف النار، ضمن حدود لا تُفضي إلى تفجير مواجهة شاملة من جديد.
تُعدّ مسألة منع إعادة بناء القدرات العسكرية لحركة حماس أحد أبرز محاور السياسة الإسرائيلية بعد الحرب، وتشير بيانات جيش الاحتلال إلى استمرار عمليات الاغتيال والاستهداف ضد عناصر تقول إسرائيل إنهم ينتمون إلى أجنحة عسكرية أو يشاركون في أنشطة ميدانية.
ووفق مصادر فلسطينية محلية، رصدت الحركة تحركات إسرائيلية تستهدف منع عناصرها من التنقل بحرية في بعض مناطق القطاع التي تشهد وجودا عسكريا، إلى جانب عمليات اغتيال ضد شخصيات ميدانية تتهمها إسرائيل بالضلوع في نشاطات عسكرية.
وتندرج هذه الإجراءات ضمن عملية مستمرة لمنع الحركة من استعادة البنية العسكرية التي كانت قائمة قبل الحرب، خصوصا شبكات القيادة والسيطرة والاتصالات الميدانية.
السيطرة الجغرافية على مناطق واسعة في القطاعتُظهر الخرائط الميدانية والتحركات العسكرية أن إسرائيل فرضت وجودا عسكريا دائما أو شبه دائم على مساحة تُقدر بأكثر من نصف القطاع، تشمل مناطق شريطية واسعة تمتد من شمال غزة إلى جنوبها.
ويتجلى هذا الوجود في إقامة مناطق عسكرية مغلقة، ونشر نقاط مراقبة ثابتة ومتحركة، ومنع السكان من دخول أراضٍ زراعية أو تجارية قرب خطوط السيطرة، وفرض "خطوط صفراء" تُعد مناطق حظر تنقل.
وتشير تقارير منظمات حقوقية إلى أن هذه السيطرة حالت دون عودة آلاف النازحين إلى مناطقهم الأصلية، وأدت إلى تعطيل النشاط الزراعي والصناعي في مساحات واسعة.
وتتعامل إسرائيل مع هذه المناطق باعتبارها "جيوبا أمنية" تهدف إلى منع اقتراب الفصائل المسلحة، وإعاقة أي محاولات لإقامة بنى تحتية عسكرية جديدة.
الاعتماد على العملاء والمجموعات المسلحةتشير مصادر فلسطينية وشهادات ميدانية إلى وجود نشاط لشبكات تعمل بالتنسيق مع الاستخبارات الإسرائيلية داخل القطاع، بعضها مرتبط بعملاء تم تجنيدهم سابقا، وبعضها ينشط ضمن مجموعات مسلحة غير خاضعة لسيطرة الفصائل.
وتتمثل الأدوار الموثقة لهذه الشبكات في تمرير معلومات أمنية، ومراقبة تحركات على الأرض، وخلق بيئات مضطربة لا تسمح للفصائل بتنظيم صفوفها، ودعم عمليات الاغتيال عبر تحديد المواقع.
وتُعد هذه الشبكات امتدادا لسياسة إسرائيل طويلة الأمد التي تعتمد على جمع معلومات بشرية لتعزيز قدرتها على إدارة العمليات الميدانية دون الحاجة إلى تدخل عسكري واسع.
القيود الإنسانية كأداة ضغطتواصل إسرائيل فرض قيود على إدخال بعض أنواع المساعدات إلى قطاع غزة، وخاصة الخيام ومواد البناء والمستلزمات الطبية الخاصة، وفق آليات تنسيق تخضع للفحص الأمني. وقد أدى هذا التقييد إلى تعثر وصول الخدمات الأساسية لعشرات آلاف النازحين.
وتُظهر بيانات الأمم المتحدة أن المناطق الوسطى و"المواصي" في خان يونس تشهد اكتظاظا شديدا بسبب النزوح المتكرر وعدم توفر مساكن بديلة. ويأتي هذا في ظل استمرار تعرض بعض المناطق للقصف المتقطع أو التوغل المحدود.
إعلانولا تُقدم إسرائيل هذه السياسة باعتبارها أداة عقاب، بل تبررها باعتبارات "المخاطر الأمنية"، لكن نتائجها الميدانية تُظهر تأثيرها المباشر على الأوضاع الإنسانية، خصوصا في ما يتعلق بالإيواء والرعاية الصحية وتوفر الغذاء.
View this post on Instagram الإعمار المشروطتشير بيانات اقتصادية وميدانية إلى أن إسرائيل تسمح يوميا بدخول نحو 200 شاحنة فقط إلى قطاع غزة، في حين أن الحاجة الفعلية، وفق الخطط الإنسانية واللوجستية، تتطلب دخول نحو 600 شاحنة يوميا.
وتحمل الشاحنات المسموح لها غالبية المواد الغذائية والدوائية والتجارية، في حين يُقيّد إدخال مواد البناء الأساسية مثل الحديد والأسمنت، إضافة إلى المعدات الكهربائية والمولدات، تحت وصف "مواد مزدوجة الاستخدام"، أي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية على حد سواء.
ويرتبط السماح بإدخال هذه المواد بعدة ملفات سياسية وأمنية، أبرزها: قضية الأسرى الإسرائيليين، تثبيت وقف إطلاق النار، وضمان عدم استخدام الموارد في تعزيز القدرات العسكرية لحركة حماس.
وقد أظهر الواقع الميداني أن هذا التقييد أدى إلى تأخر عملية إعادة الإعمار بشكل كبير، إذ لا تزال آلاف المباني المدمرة دون ترميم، مع استمرار الأعطال في شبكات المياه والكهرباء، مما أثر على حياة عشرات آلاف النازحين الذين يعيشون في ظروف صعبة.
كما أدى نقص المواد الأساسية إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي المحلي، وتأخير استعادة بعض القطاعات الإنتاجية والزراعية المتضررة.
ويشكل الإعمار المشروط جزءا من إستراتيجية الردع متعددة المستويات التي تتبعها إسرائيل، حيث يجمع هذا الإجراء بين الضغط الإنساني والضغوط الأمنية والسياسية، ليكون وسيلة لفرض قواعد الاشتباك الجديدة بعد وقف إطلاق النار، من دون العودة إلى مواجهة عسكرية شاملة.
الخطاب الديمغرافي وتشجيع الهجرة
برز في الساحة السياسية والإعلامية الإسرائيلية خطاب يدعو إلى "تسهيل خروج سكان من غزة" أو "فتح الباب أمام خيار الهجرة الطوعية"، ويستند هذا الخطاب إلى تصوير الوضع الإنساني في القطاع على أنه بيئة غير قابلة للاستمرار، تتسم بالدمار الواسع، ونقص الخدمات الأساسية، والأوضاع المعيشية الصعبة.
توثق تقارير فلسطينية هذا الخطاب باعتباره جزءا من إستراتيجية ضغط طويلة الأمد، تهدف إلى التأثير على البنية السكانية في غزة، وتقليص القدرة التنظيمية والسياسية لحركة حماس من خلال تقليل عدد السكان القادرين على البقاء في القطاع أو المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية.
ويُنظر إلى هذا النهج على أنه امتداد للأدوات غير العسكرية في سياسة الردع الإسرائيلية، إذ يعمل على خلق بيئة اجتماعية ضاغطة تجعل البقاء في القطاع أكثر صعوبة، بما يضع السكان أمام خيار الهجرة أو التكيف مع الظروف القاسية، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف التماسك الاجتماعي والسياسي في المجتمع المحلي.
في هذا السياق، يُعد الخطاب الديمغرافي أداة ردع مجتمعي، تستهدف ليس فقط البيئة العسكرية أو التنظيمية لحركة حماس، بل أيضا التركيبة السكانية كعنصر قوة أو ضعف محتمل في إدارة الصراع طويل الأمد.
اعتمدت الحركة على قنوات سياسية مع مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة عبر الوسطاء، بهدف تحسين شروط وقف إطلاق النار، وتسهيل إدخال المساعدات، ومعالجة ملفات الأسرى، وتخفيف القيود المفروضة على المدنيين.
وكثفت الحركة اتصالاتها مع الأطراف للضغط على إسرائيل، في محاولة لتخفيف أثر الضغوط الأمنية والاقتصادية على سكان القطاع.
ضبط الأمن الداخلي وملاحقة العملاءنفذت الحركة سلسلة من العمليات الأمنية ضد الأشخاص الذين تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل، وأعلنت عن إحباط محاولات اختراق أمني. كما أعادت تفعيل وحدات أمنية محلية في بعض المناطق بهدف مواجهة الفوضى التي خلّفتها الحرب.
إعلانوتشير معطيات محلية إلى أن هذه الإجراءات ساهمت في تقليص عدد الحوادث المرتبطة بالسرقة أو الاعتداءات، رغم أن الوضع الأمني ما يزال هشا بفعل النزوح الواسع والتدمير الكبير.
إدارة الأزمة الاقتصادية والمعيشيةاتخذت الحركة إجراءات تهدف إلى الحد من انفلات الأسعار وضبط الأسواق، عبر مراقبة حركة التجارة وتسهيل وصول البضائع. ووفق بيانات تجارية محلية، انخفضت أسعار بعض السلع الأساسية خلال الأسابيع الماضية، خاصة تلك التي دخلت عبر المعابر في دفعات كبيرة.
وتأتي هذه الخطوات ضمن مساعٍ لتخفيف الضغوط الإنسانية التي يستخدمها الاحتلال كأداة تأثير على الحاضنة الاجتماعية للحركة.
إبراز تداعيات الحرب إعلاميا
استثمرت حركة حماس بشكل مكثف وسائل الإعلام المحلية والدولية لإبراز الواقع الإنساني بعد الحرب، مركزة على توثيق الدمار الواسع الذي لحق بالمباني والمرافق الحيوية، وعرض شهادات النازحين والمتضررين من مناطق متعددة في قطاع غزة.
كما قامت بنشر تقارير مفصلة عن الأوضاع الإنسانية المتدهورة، بما في ذلك نقص المياه والكهرباء والمواد الأساسية، وتوسيع دائرة التواصل مع المنظمات الحقوقية الدولية والهيئات الإنسانية بهدف الضغط على المجتمع الدولي لتسليط الضوء على الأزمة.
وتتضمن إستراتيجية الحركة الإعلامية أيضا إبراز الانتهاكات الميدانية الإسرائيلية، بما في ذلك الحصارات المؤقتة وعمليات التوغل والاغتيالات، مما يعكس محاولة ربط المعاناة الإنسانية بالسياسات الإسرائيلية أمام الرأي العام الدولي.
وقد أسهم هذا النشاط في إبقاء قضية غزة في صدارة النقاشات العالمية، وتحريك أجندة المنظمات الدولية والإعلام الدولي، كما ساعد على تعزيز موقع الحركة السياسي والدبلوماسي من خلال التأكيد على مسؤولية إسرائيل عن استمرار التدهور الإنساني.
ويظهر من التحليل أن هذا النشاط الإعلامي جزء من إستراتيجية حماس متعددة المستويات، تهدف إلى الضغط السياسي، تعزيز ردعها الرمزي، والحفاظ على قاعدة دعم محلية وإقليمية دون الانخراط في مواجهة عسكرية مفتوحة في هذه المرحلة.
إعادة التعافي التنظيميتشير مصادر فلسطينية إلى جهود تبذلها الحركة لإعادة ترتيب البنية التنظيمية بعد استشهاد أو اعتقال عدد من كوادرها، واستهداف العديد من مقارها وأنفاقها. ورغم نجاحها في إعادة تفعيل بعض قدراتها اللوجستية فإن المعلومات المتاحة لا تؤكد استعادة قدرات عسكرية ذات وزن حتى الآن.
وتشير التقديرات إلى أن الحركة تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال بسبب استمرار الرقابة الإسرائيلية والوجود العسكري في مناطق واسعة من غزة وإغلاق المعابر.
ويظهر من هذه المعطيات أن عملية إعادة التعافي التنظيمي لحماس مرحلة تدريجية وطويلة الأمد، تعتمد على المتغيرات في المشهد الفلسطيني والإسرائيلي والدولي.
التنسيق مع محور المقاومةتواصل حركة حماس تنسيقها مع محور المقاومة على المستويين العسكري والسياسي، ويشمل هذا التنسيق إيران، حزب الله اللبناني، وأنصار الله في اليمن.
وتركز الحركة من خلال هذه القنوات على رفع مستوى الاستعداد والتحرك المشترك في حال نشوب مواجهات مستقبلية مع إسرائيل، بما يتيح لها تعزيز الردع الإستراتيجي خارج حدود قطاع غزة، وتوسيع دائرة الضغط على إسرائيل من خلال البيئة الإقليمية.
في الوقت نفسه، تعمل حماس على تحريك الجغرافيا الفلسطينية الأخرى، خصوصا الضفة الغربية، بهدف تخفيف الضغط عن غزة واستعادة الزخم التنظيمي والسياسي.
تكشف الوقائع التي تلت وقف إطلاق النار أن قطاع غزة يعيش مرحلة "ردع متعدد المستويات"، إذ تعتمد إسرائيل على السيطرة الميدانية ومنع التعافي العسكري والضغط الإنساني والاختراق الأمني، في حين تحاول حماس تعزيز وجودها السياسي والأمني، وتحسين البيئة المعيشية، والاستثمار في شبكة العلاقات الإقليمية.
ولا تُظهر المعطيات الحالية مؤشرات على نهاية الصراع، بل تعكس انتقاله إلى شكل مختلف يعتمد على ضبط التوتر، وتقليل الخسائر، وإدارة النفوذ، بدل المواجهة الشاملة. وتبقى معادلة الردع بين الطرفين مرشحة للتغيير وفق أي تطور ميداني أو سياسي، في ظل غياب اتفاق يضمن استقرارا طويل الأمد.