"الملك لير".. بهاء التراجيديا على خشبة المسرح القومي
تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT
ليلة تتلألأ على الخشبة بعد انتظارٍ طويل، تحقق الحلم حين حصلت ابنتي على تذاكر لمسرحية "الملك لير"، ذلك العمل الذي يُعد من أهم الإنتاجات المسرحية في السنوات الأخيرة.
دخلنا المسرح القومي وسط أجواءٍ مفعمة بالحماسة والترقّب، ومع عزف السلام الجمهوري وقف الجميع احتراماً في لحظةٍ جسدت معنى الانتماء والهيبة قبل أن يُفتح الستار على واحدة من أروع ليالي المسرح المصري.
الديكور.. فخامة تستدعي الزمن الملكي، منذ المشهد الأول، أسرنا جمال الديكور الذي أعادنا إلى زمن الملوك والعروش.
اجتمعت البساطة مع الفخامة في لوحة بصرية مدهشة، حيث تنقلت المشاهد بانسيابية متقنة، وكل قطعة أثاث أو إضاءة كانت تخدم الحالة الدرامية بوعيٍ وذوق رفيع.
أما الأزياء والاكسسوارات، فجاءت على مستوى عالمي من الإتقان، إذ عبّرت كل تفصيلة عن الشخصية ومكانتها: من تيجان الملوك إلى عباءات الخدم، في مشهدٍ يُظهر عناية بالغة بالتفاصيل وحرصًا على الأصالة.
يحيى الفخراني حضور يليق بالمسرح والتاريخ، جاء ليتوّج العرض بحضوره المهيب وأدائه الإنساني العميق.
اعتلى خشبة المسرح بثقة القادر وبساطة الحكيم، فملأ المكان دفئاً وصدقاً، تجسد أمامنا الأب الذي يفرّط في ملكه حباً لبناته، ثم يكتشف قسوة القلوب حين تُختبر المشاعر بالمصالح.
قدّم الفخراني شخصية “لير” بذكاءٍ نادر، جمع فيه بين التراجيديا والإنسانية، بين الضعف والقوة، بين الحلم والانكسار. كان أداؤه درساً في التمثيل المسرحي الذي لا يعتمد على الافتعال، بل على الصدق والعمق والتجلي الإنساني.
الأداء الجماعي.. نسيج منسوج بالانضباط والجمال.
وبرع باقي طاقم الممثلين في تجسيد أدوارهم بوعيٍ جماعيٍ نادر.
كان التفاعل بينهم في غاية التوازن، وكأن كل ممثل خيطٌ متين في نسيجٍ واحدٍ متكامل.
جعل هذا الأداء الجماعي الجمهور يعيش القصة بكل جوارحه، ويندمج في مأساة إنسانية تتجاوز الزمان والمكان.
أما الموسيقى التصويرية فكانت جزءًا أصيلاً من النسيج الدرامي، استخدمت بحرفية لتصنع التوتر حيناً، والشجن حيناً آخر، دون أن تطغى على الحوار أو تُشوّش على الممثلين.
الإخراج في "الملك لير" كان بطلاً خفياً استطاع أن يمسك بخيوط المأساة دون أن يقع في فخ الميلودراما، فجاء الإيقاع محسوباً بدقة، والانتقالات بين المشاهد ناعمة لا تفقد المتلقي تركيزه.
كل تفصيلة في حركة الممثل أو زاوية الإضاءة كانت تؤكد أن وراء العمل رؤية واعية تُدرك معنى المسرح بوصفه فناً للروح قبل أن يكون عرضاً للعين.
المغزى الإنساني مرآة لا تزال تعكس وجوهنا.
لم تكن قصة "الملك لير" التي كتبها شكسبير قبل قرون مجرد مأساة ملكٍ خُدع في حب بناته، بل مرآة تعكس واقعًا يتكرر في حياتنا اليوم.
فالملك العجوز الذي قرر تقسيم مملكته بين بناته الثلاث غلّب العاطفة على الحكمة، ليجد نفسه مطروداً ومهاناً من ابنتيه الكبريين اللتين خدعتاه بكلمات المديح الزائف، بينما عاقب الصغرى الصادقة لأنها لم تعرف التملّق.
ورغم أن الحكاية تنتمي إلى زمنٍ بعيد، إلا أنها تُعيد نفسها في بيوتٍ كثيرة اليوم، حين يتحول الجفاء العاطفي من الأبناء إلى الآباء إلى مشهدٍ واقعي مؤلم.
مأساة "لير" لم تكن في ضياع الملك، بل في خيبة قلب أبٍ منح كل شيء، فلم يجد سوى القسوة والنكران.
وحين ينتصر الفن للضمير الإنساني
خرجنا من العرض ونحن نحمل شعوراً بالفخر والدهشة؛ فالمسرح المصري لا يزال قادراً على تقديم أعمالٍ تضاهي أرقى العروض العالمية، سواء في الإخراج أو الأداء أو التقنيات.
كانت تجربة “الملك لير” على خشبة المسرح القومي درساً في أن الفن الحقيقي لا يشيخ، وأن الخشبة ما زالت قادرة على أن تُدهش وتربّي الذوق والوجدان.
ولعل هذه المسرحية تذكّرنا بأن برّ الآباء لا يحتاج إلى عرشٍ أو ميراث، بل إلى قلبٍ وفيّ وضميرٍ حي.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: على تذاكر في السنوات السلام الجمهوري الستار على واحدة الملک لیر
إقرأ أيضاً:
جرائم تحت القِناع الإنساني
في مشهد يكرّس ازدواجية المعايير التي تمارسها الأمم المتحدة، جاء بيان متحدث أمينها العام لينكرَ أدلةً دامغةً على تورُّط موظفين أمميين في أعمال تجسسية خطيرة، وهو الموقف الذي استحق بجدارة وصف وزارة الخارجية اليمنية له بالبيان “غير المسؤول” والذي “يُفتقرُ إلى أدنى درجات المهنية والموضوعية”، مع تأكيدها على وجود “دلائل قاطعة لارتكاب بعض موظفي برنامج الأغذية العالمي ومنظمة اليونيسف لأعمال تجسس خطيرة أَدَّت إلى استهداف قيادات في الدولة، ممثلة برئيس حكومة التغيير والبناء وعدد من أعضاء الحكومة”.
هذه ليست اتّهامات عابرة، بل ثمرة عمل استخباري يمني دقيق يكشف النقاب عن حرب خفية تُشن تحت غطاء العمل الإنساني و”استغلال معاناة أبناء الشعب اليمني جراء العدوان والحصار القائم”، وتمثل جريمة مزدوجة باختراقها الأمن الوطني من خلال استهداف قيادات الدولة وسرقتها آمالَ الشعب من خلال تحويل المساعدات الإنسانية إلى أدَاة للمؤامرة.
السؤال الذي يفرض نفسه: من يحق له اليوم توجيه الاتّهام؟ منظمة تدّعي الحياد بينما تتحول بعض وكالاتها إلى “مِظلة لشرعنة الأعمال الجاسوسية لصالح دول وكيانات معادية للجمهورية اليمنية وتُهدّد أمنها القومي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وكيان العدوّ الإسرائيلي” أم حكومة تستمد شرعيتها من الشعب والمبادئ العليا التي تحملها، والحقائق التي تتكشف لها، وبها تدافع عن سيادة شعبها وأمنه القومي؟.
ولأن السيادة الوطنية خط أحمر، تفرض الوقائع اليوم ضرورة فورية لإعادة النظر الشاملة في كافة الاتّفاقيات المشبوهة مع هذه المنظمات التي ثبت زيف ادعائها بالحياد وموثوقيتها؛ فالشرعية لا تُعطى لمن يمس أمن أُمَّـة ويخون شعبها.
كما أن دعوة اليمن للأمم المتحدة إلى “الالتزام بميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، والتوجّـه نحو تصحيح الاختلالات التي تُعاني منها المنظمة الأممية” ليست مُجَـرّد مطلب دبلوماسي، بل ضرورة وجودية لحماية سيادة اليمن وأمنه القومي.
ولا بد من التمييز بين تقديرنا العالي للعمل الإنساني للعديد من المنظمات الدولية الجادة التي تلتزم بولايَتها وأهدافها الإنسانية، وتعاملنا الحازم والصارم مع أي أعمال تجسسية أَو عدائية؛ فاليد ممدودة بالتعاون لكل من يحترم سيادة اليمن وقوانينه، واليد الأُخرى قابضة على السيف تجاه كُـلّ جاسوس أَو مخرب.
يحق لنا وبكل عزّة أن نرفع صوت الحق عاليًا، ونقول إن اليمن رأس حربة في معركة الصمود والتحدي، وأن حماية وطننا واجب مقدس، وأن شعبنا سطر بأمجاد تاريخه مثالًا في التضحية والشجاعة التي لن تنكسر مهما اشتدت المؤامرات.
لذا نجدد العهد مع قيادتنا الحكيمة، ونعلن بكل وضوح أن اليد التي تمتد للتعاون هي للمنظمات النزيهة التي تحترم القوانين، واليد الأُخرى ممسكة بالسيف مع كُـلّ من يثبت خيانته وخداعه؛ فلا حصانة للجواسيس، ولا مكان للخونة في أرض الشرف والكرامة.
إن صمود اليمن أمام أعتى التحالفات الدولية علّم أعداءنا أننا لا نقهر؛ فاتجهوا إلى أسلحة الاختراق الناعمة تحت غطاء العمل الإنساني، لكن يقظة أبناء اليمن وحكمة قيادتهم كانتا بالمرصاد، وكشفت الأدلة القاطعة هذه المؤامرة.
اليوم، ونحن نواجه هذه التحديات، ندرك أن معركة السيادة لا تقل أهميّة عن معركة الميدان. ندعم القيادة في قراراتها الحكيمة، ونطالبها بالمضي قدمًا في تطهير أراضينا من كُـلّ أشكال الاختراق. ونقول للعالم أجمع: إن الأمن القومي والمصلحة الوطنية العليا “تعلو على ما دونها من المصالح”.
فليسمع الجميع: اليمن حر أبي، لن يكون ساحةً لأجنداتكم الخبيثة، ولا حصانة للجواسيس والمخربين.
حمى الله اليمن وأهله من كُـلّ مكروه.
واللعنة على كُـلّ جاسوس وخائن