لبنان بين الفقر والجمود: قراءة في تقرير البنك الدولي وواقع الأزمة المستمرة
تاريخ النشر: 24th, October 2025 GMT
يشهد لبنان مرحلة من أشدّ مراحله قسوة منذ أكثر من خمس سنوات، إذ رسم البنك الدولي في تقريره الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 2025 صورة قاتمة عن الواقع اللبناني الذي يعيش فصلا جديدا من أزمته الممتدة. فقد أشار التقرير إلى أنّ البلاد ما زالت تعاني من ضعف في المالية العامة وتراجع حاد في الخدمات الأساسية، في ظل أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت بفعل الحرب الأخيرة التي شهدها لبنان أواخر عام 2024.
وعلى الرغم من هذه العوائق، سجّل التقرير ملاحظة إيجابية تمثلت في إنهاء الفراغ السياسي الذي دام سنتين؛ عبر انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وتشكيل حكومة مطلع عام 2025، الأمر الذي ساهم في تحريك بعض عجلة المؤسسات. كما ساعد هذا التطور السياسي، إلى جانب تحسّن الوضع الأمني النسبي، في انتعاش الحركة السياحية خلال الصيف، حيث سجّل لبنان في شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس زيادة ملحوظة في أعداد الوافدين تجاوزت نسبتها 30 في المئة مقارنة بالعام السابق.
لكنّ هذا التحسّن النسبي لا يخفي عمق الأزمة البنيوية التي تطال الاقتصاد والمجتمع معا. فقد كشف البنك الدولي بالأرقام عن اتساع رقعة الفقر بشكل غير مسبوق، إذ ارتفعت نسبة الأفراد الذين يعيشون بأقل من 3 دولارات يوميا من 0.1 في المئة عام 2013 إلى 5.9 في المئة عام 2023، في حين ارتفعت نسبة الذين يعيشون بأقل من 4.2 دولار يوميا من 0.3 في المئة إلى 16 في المئة. أما الفئة التي تكسب أقل من 8.3 دولار يوميا فقد تضاعفت بشكل مقلق من 5.5 في المئة إلى أكثر من 50.7 في المئة من السكان، أي أنّ نصف اللبنانيين باتوا تحت هذا الخط، ما يعني أنّ الفقر أصبح القاعدة لا الاستثناء. فهل من يشعر مع اللبناني الصلوب على خشبة المناكفات السياسية الداخلية المغلفة بالشعبوية من جهة وعلى وقع رياح الإقليم المفتوحة والمهددة بحروب من جهة أخرى؟
بنظرة على المستوى الاقتصادي الكلي، توقّع التقرير أن يسجّل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموّا بنسبة 3.5 في المئة في عام 2025 و4.0 في المئة في عام 2026، بعد انكماش حاد بلغ 7.1 في المئة في عام 2024. ورغم أنّ هذه الأرقام تُظهر بداية تعافٍ نسبي، إلا أنّها تبقى هشّة لأنها تستند إلى عوامل مؤقتة مثل السياحة والتحويلات الخارجية، فيما لا تزال القطاعات الإنتاجية الحقيقية تعاني من ضعفٍ مزمن. كما أشار التقرير إلى تحسّن تدريجي في مؤشّر التضخّم الذي انخفض بنسبة 14 في المئة على أساس سنوي في منتصف عام 2026، مع توقع تراجع نسبته إلى ما دون 10 في المئة خلال عام 2025، وهو تحسّن يرتبط باستقرار نسبي في سعر الصرف منذ آب العام المنصرم، غير أنّ التحسّن في المؤشرات العامة لا ينعكس بالضرورة على حياة المواطنين.
فالعجز في الحساب الجاري ما زال مرتفعا بنسبة 15.8 في المئة من الناتج المحلي في عام 2025، والعجز البنيوي في الموازنة وإن تراجع شكليا إلى مستويات الصفر، إلا أنه يستند إلى فرضيات غير واقعية في ظل ضعف الجباية وغياب الإصلاحات المالية الجذرية. أما الفجوة المالية بين خسائر القطاع المصرفي والودائع المحجوزة فتظل سيفا مصلتا فوق الاقتصاد، تُقدّر بنحو سبعين مليار دولار لم تُحدّد بعد كيفية توزيعها بين الدولة والمصارف والمودعين، علما أن الكثير يقال حتى الساعة ولكن حذار من معادلة كثرة الطباخين والخبراء؛ أن يحرقوا الطبخة في شعب بات أنينه يضرب عنان السماء.
على الصعيد الاجتماعي، تظهر الأرقام أنّ الفقر بات يتجاوز البعد المادي ليطال البنية المجتمعية نفسها. فقد تراجعت القدرة الشرائية لأكثر من ثمانين في المئة من الأسر، وارتفعت معدلات الهجرة خصوصا بين الشباب إلى ما يفوق 40 في المئة في الفئة العمرية ما بين 25 و30 سنة، فيما أُنهك القطاع العام بالعجز والفساد وضعف الخدمات الصحية والتعليمية.
في المقابل، يشير التقرير إلى إمكان تحقيق تحسّن ملموس إذا ما استثمر لبنان الاستقرار السياسي الجديد في إطلاق إصلاحات فعلية. فالمطلوب قبل كل شيء إعادة هيكلة مالية حقيقية تقوم على إعادة توزيع عادل للخسائر وتحفيز النمو عبر القطاعات الإنتاجية، لا الاكتفاء بإجراءات ضريبية متفرقة. ويمكن، وفق تقديرات البنك الدولي، أن يحقق الاقتصاد اللبناني نموا مستداما بنسبة تفوق 4 في المئة خلال ثلاث سنوات إذا ما استُعيدت الثقة الداخلية والدولية من خلال حوكمة شفافة وتخفيض فعلي للهدر والتهريب الذي يُقدّر حجمه السنوي بأكثر من 1.5 مليار دولار.
يبقى الواقع الأمني والعسكري عنصرا حاسما في هذا المشهد، فكل اضطراب على الحدود أو احتكاك داخلي يُعيد البلاد خطوات إلى الوراء ويهزّ ثقة المستثمرين والمانحين. ولهذا فإنّ أيّ خطة إصلاح مالي لن تنجح ما لم تترافق مع استقرار أمني وسياسي فعلي يضمن بيئة حاضنة للنمو والاستثمار.
في المحصلة، يُظهر تقرير البنك الدولي الأخير بالأرقام ما يعيشه اللبنانيون بالمعاناة: نصفهم تحت خطّ 8.3 دولار في اليوم، وناتجهم المحلي تآكل إلى ما دون نصف مستواه قبل الانهيار، فيما لا تزال الموازنة عاجزة والديون متراكمة. ومع ذلك، فإنّ بصيص الأمل الوحيد يكمن في أن الأزمات الكبرى قد تفرض الإصلاح، وأنّ لبنان الذي عرف كيف ينهض من حروبه السابقة، قادر على استعادة توازنه إذا ما أُعيد بناء الثقة بالدولة ومؤسساتها التي لا زالت عالقة بين كيفية المقاربة الدقيقة التي يطلبها المجتمع الدولي والتي عنوانها "الإصلاح والسلاح".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء لبنان البنك الدولي أزمة اقتصادية الفقر اقتصاد لبنان فقر البنك الدولي أزمة قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
هذا ما ستفعله إسرائيل داخل لبنان.. تقريرٌ يكشف
نشرت صحيفة "ذا ناشيونال" تقريراً جديداً سأل فيه عن الدروس التي يُمكن تطبيقها من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة على لبنان.التقرير الذي ترجمهُ "لبنان24" قال إنه "رغم أنّ لبنان لم تتم دعوته إلى قمة شرم الشيخ في 13 تشرين الأول الجاري بشأن إنهاء حرب غزة، إلا أنّ المسؤولين اللبنانيين يراقبون عن كثب كيفية تقدم إنهاء الأعمال العدائية في غزة، لأن هذا قد يؤثر على وضعهم غير المؤكد إلى حد كبير".
وتابع: "لقد ظهرت إشارة واضحة إلى هذا الارتباط في اليوم نفسه الذي عقدت فيه القمة، عندما قال الرئيس اللبناني جوزيف عون لمجموعة من الصحافيين إن الجو العام اليوم هو جو تسويات، وبالتالي لا بد من التفاوض مع إسرائيل؛ أما شكل التفاوض، فسيحدد في حينه".
التقرير أكمل: "بعد أسبوع، بدا أن المبعوث الأميركي المؤقت إلى لبنان، توم برّاك، يؤيد هذا الرأي، عندما نشر قائلاً إنه يجب أن تكون المرحلة الثانية من الإطار الأمني الشمالي لإسرائيل هي نزع سلاح حزب الله داخل لبنان وبدء مناقشات أمنية وحدودية مع إسرائيل. كذلك حذر براك من أنه بدون ذلك، سيُواجه الذراع العسكري لحزب الله حتماً مواجهة كبرى مع إسرائيل".
وأضاف: "منذ أن سهّلت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن وقف إطلاق النار في لبنان في تشرين الثاني الماضي، سادت حالة من اللاحرب واللاسلم. وللتوصل إلى اتفاق، منحت الولايات المتحدة إسرائيل خطاباً جانبياً يسمح لها بشن هجوم ضد تهديدات حزب الله المزعومة. وهذا يعني عملياً أن وقف إطلاق النار فُرض على جانب واحد. في غضون ذلك، حُثّت السلطات اللبنانية على نزع سلاح حزب الله، وفي ظل غياب ذلك، واصلت إسرائيل قصف حزب الله والمواقع المدنية في لبنان، بالإضافة إلى استهداف عناصره".
وأكمل: "عندما قدّم برّاك جدولاً زمنياً لنزع سلاح حزب الله في الصيف، وافق اللبنانيون على خطته، وكانوا يأملون أن يؤدي ذلك إلى الحد من الهجمات الإسرائيلية . إلا أن المبعوث فشل في الحصول على موافقة إسرائيل على خطته، مما دفع اللبنانيين إلى إعلان فشلها، رغم عدم نيتهم فرض احتكار الدولة للسلاح. لم يحظَ برّاك بدعم البيت الأبيض أو وزارة الخارجية في محادثاته مع إسرائيل، ومن المتوقع أن يُسلّم ملف لبنان قريباً إلى جهة أخرى".
التقرير قال أيضاً: "في غضون ذلك، تُفيد التقارير أن السفير الأميركي المعين حديثاً في بيروت، ميشال عيسى، سيكون المسؤول الاميركي الرئيسي عن السياسة اللبنانية. نشأ السيد عيسى في لبنان، وهو مقرب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأشارت تقارير إعلامية لبنانية إلى أن الأميركيين ربما يُعِدّون خطة جديدة للبلاد، تُكمّل مقترح براك، ومستوحاة من خطة ترامب بشأن غزة".
وقال: "بما أن وضعي غزة ولبنان مختلفان، فماذا يعني هذا؟ تشير بعض التقارير الإعلامية إلى أن آلية التدرج المتأصلة في خطة غزة - حيث تؤدي أفعال أحد الطرفين إلى أفعال مماثلة من الطرف الآخر - جزء منها. كذلك، تشير إلى أن الخطة الأميركية تتضمن، على ما يبدو، مبدأ المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل، ومن هنا تأتي أهمية تصريحات عون وبرّاك".
وتابع: "لا يزال اللبنانيون مُصرّين على أنه حتى لو تواصل لبنان وإسرائيل، فإن المفاوضات يجب أن تُجرى عبر الأميركيين، وبمعنى آخر، رسمياً على الأقل، لم يُقبل أيٌّ من المفاوضات المباشرة. بالنسبة للبنانيين، يُعدّ اتفاق تشرين الأول 2022 بشأن الحدود البحرية نموذجاً جيداً يُحتذى به، إذ تضمن مفاوضات غير مباشرة".
واستكمل: "ماذا ستشمل هذه المفاوضات؟ من المؤكد أنها ستسعى إلى وضع اللمسات الأخيرة على الحدود البرية، في ظل استمرار الخلاف بين لبنان وإسرائيل حول 13 نقطة على طول الحدود. كذلك، ستشمل بالتأكيد ترتيبات أمنية، مع احتمال كبير أن تسعى إسرائيل إلى إنشاء نظام إنذار مبكر داخل لبنان، وربما حتى فرض منطقة حدودية لبنانية خالية من السكان".
وأضاف: "كان الافتراض الأميركي العام الماضي، الذي طرحه مبعوث إدارة بايدن، آموس هوشتاين، هو أن ترسيم الحدود البرية سيُزيل أي ذريعة لحزب الله لمواصلة مقاومته في الجنوب بدعوى احتلال إسرائيل لأجزاء من لبنان، ويبدو أن إدارة ترامب تُوافق على هذا النهج. كذلك، كان لاتفاق غزة تداعيات أخرى، هذه المرة على حزب الله، فموافقة حماس على اتفاق يتضمن نزع سلاحها وإعادة الرهائن ستُجد صداها في المشهد اللبناني. وكما أشار مهند الحاج علي من مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فإنه بإمكان الحكومة اللبنانية أن تتوجه إلى حزب الله وتقول له إنّ حليفك الاستراتيجي وافق على خطة تتضمن نزع سلاحه، فلماذا لا توافق أنت؟".
وتابع: "يُمكن الإشارة إلى أن حماس لم توافق على نزع سلاحها، لكن لا شك أن الحركة ملتزمة بخطة تدعو صراحةً إلى ذلك. إذا لم تُطبّق خارطة طريق ترامب، فسنعود على الأرجح إلى حالة حرب، حيث لن يكون لحماس أي نفوذ من خلال الرهائن الذين كانت تسيطر عليهم سابقاً".
وقال: "مع ذلك، قد يكون لغزة تداعيات أخرى على لبنان. فقد فشل عامان من الهجوم الإسرائيلي الشرس على القطاع في القضاء على حماس، التي سعت الأسبوع الماضي إلى إعادة تأكيد سلطتها من خلال إعدام معارضيها علناً. في الواقع، للتوصل إلى اتفاق، تفاوضت الولايات المتحدة مباشرةً مع كبار قادة الحركة. فماذا يعني هذا إذًا بالنسبة للحل العسكري لسلاح حزب الله في لبنان؟ أصبح من الصعب الآن على الراغبين في مثل هذه النتيجة إثبات أن الأمر سيسير بسلاسة".
وأضاف: "في الواقع، لا تُوافق أي منظمة سياسية - عسكرية طوعاً على القضاء عليها، فيما لا يُتوقع من حزب الله أن يفعل ذلك أيضاً. إذا انتهى الأمر بالأميركيين إلى قبول هذا الواقع في غزة، لا سيما لأن السيد ترامب لا يريد تقويض خطته لوقف إطلاق النار، فسيكون من الصعب عليهم اتخاذ موقف حازم في ما يتعلق بلبنان".
وختم: "إن اللجوء إلى نتائج عسكرية تبسيطية ليس الحل الأمثل، بل يتطلب الأمر سبيلاً أكثر إبداعاً لكسر الجمود بشأن سلاح حزب الله. فإذا اتجه اللبنانيون نحو المفاوضات مع إسرائيل بشأن ترسيم الحدود، سيضيق هامش المناورة أمام الحزب. كذلك، لا يمكن التوصل إلى حل في لبنان إلا من خلال التقدم بصبر، من خلال عملية تسعى إلى إيجاد حلول سياسية وتتجنب العنف".
المصدر: ترجمة "لبنان 24" مواضيع ذات صلة مالياً.. هذا ما كشفه تقريرٌ جديد عن لبنان Lebanon 24 مالياً.. هذا ما كشفه تقريرٌ جديد عن لبنان