نحو صفقة استقرار شاملة: لماذا أصبحت المصالحة في مصر خيارا عقلانيا لجميع الأطراف؟
تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT
منذ عام 2013، ظلّ المشهد السياسي في مصر أسير معادلة صفرية جمعت بين دولة تسعى لترسيخ هيمنة أمنية- مؤسسية في مواجهة موجات عدم الاستقرار الإقليمي، وبين جماعة الإخوان المسلمين التي فقدت قدرتها على التأثير السياسي بعد سقوط حكمها وتشتت هياكلها التنظيمية.
ومع أنّ سنوات ما بعد 2013 اتسمت بالقطيعة بين الطرفين، إلا أنّ التحولات العميقة في الإقليم، وتغير أولويات القوى الكبرى، وتبدّل حسابات الدولة المصرية نفسها، جعلت من مبدأ المصالحة -بمعنى "تسوية عقلانية منظمة لإدارة الخلاف"- خيارا بات أكثر واقعية من أي وقت مضى.
هذا المقال يحاول تحليل لماذا أصبح القبول بالمصالحة ممكنا من منظور جميع الأطراف: الدولة المصرية، وجماعة الإخوان، والفاعلين الإقليميين، والمجتمع الدولي. كما يقدّم إطارا تحليليا يمكن أن يشكل "صفقة استقرار" تتجنب أخطاء الماضي وتمنح مصر فرصة لإغلاق أحد أطول ملفات الانقسام السياسي في الشرق الأوسط.
أولا: الدولة المصرية وإدارة المخاطر في زمن الاضطراب الإقليمي
خلال السنوات الماضية، تعاملت الدولة المصرية مع ملف الإخوان باعتباره مسألة أمن قومي لا مجرد خلاف سياسي. فقد شهدت المنطقة موجات انهيار مؤسساتي في دول الجوار، من ليبيا إلى السودان، وامتدت تداعيات الحرب في غزة لتفتح جبهة ضغط جديدة على الأمن القومي المصري.
ومع ذلك، فإن التحولات الأخيرة داخل مصر وخارجها دفعت مؤسسات الدولة للتفكير ببراغماتية أكبر. فهناك ثلاثة دوافع رئيسية تجعل المصالحة -إذا تمت وفق شروط الدولة- خيارا عقلانيا:
1. تخفيف الضغوط الدولية مع الحفاظ على السيادة: القاهرة تواجه منذ سنوات انتقادات حقوقية في المحافل الغربية، وإذا جرت مصالحة منظمة، فإنها:
• تخفف الضغوط الحقوقية دون تقديم تنازلات سياسية جوهرية؛
• تُظهر الدولة كفاعل عقلاني قادر على إغلاق الملفات الشائكة؛
• تُعيد ضبط علاقتها مع الشركاء الغربيين دون المساس بمصالحها الأمنية.
2. ضبط الداخل قبل مرحلة اقتصادية حساسة: مع دخول مصر في برامج إصلاح اقتصادي جديدة، يحتاج النظام السياسي إلى حالة هدوء داخلي تمنع أي استقطاب أو تعبئة سياسية تُستغل اقتصاديا أو إعلاميا.
والمصالحة هنا لا تعني عودة الإخوان للمشهد السياسي، بل إعادة دمج الأفراد المنفصلين عن النشاط التنظيمي في إطار مدني يحترم القانون.
3. الحد من استغلال الملف خارجيا: كان ملف الإخوان ورقة تستخدمها أطراف إقليمية لخلق توازنات في علاقاتها مع القاهرة، وإغلاق هذا الملف يقلل قدرة أي قوة إقليمية على استخدامه كورقة ضغط أو تفاوض.
القراءة الباردة لمؤشرات الأمن الإقليمي تفيد بأن تقليل جبهات الصراع الداخلي أصبح ضروريا أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع الحديث عن ترتيبات أمنية جديدة في غزة، وتغير شكل العلاقة بين إسرائيل والفاعلين الإقليميين.
ثانيا: جماعة الإخوان.. براغماتية البقاء بعد تآكل التنظيم
تعيش الجماعة اليوم أضعف لحظاتها منذ تأسيسها. فهناك انقسام تنظيمي ثلاثي، ومحدودية في الموارد المالية، وغياب مركز قيادي موحّد، وتناقص في الحاضنة الاجتماعية، وانسداد كامل في مسارات العودة عبر المواجهة أو التعويل على دعم خارجي.
وترى الأدبيات المقارنة للحركات الإسلامية أن الجماعات التي تتعرض لصدمة تنظيمية كبرى تتجه نحو أحد مسارين: التشظي والتطرف، أو إعادة التكيّف والتخلي عن الطابع التنظيمي المركزي.
وإذا اختارت الجماعة المسار الثاني -وهو الأكثر واقعية اليوم- فإن المصالحة تحت سقف الدولة تمنحها:
• حماية للأفراد من الانزلاق نحو جماعات أكثر تطرفا؛
• تحويل الحضور من سياسي تنظيمي إلى اجتماعي مدني؛
• إمكانية اندماج تدريجي في المجال العام بدون صراع؛
• إعادة تعريف العلاقة مع الدولة دون محاولة العودة إلى الحكم.
بهذا المعنى، المصالحة بالنسبة للإخوان ليست عودة للحياة السياسية، بل استراتيجية بقاء وتحوّل.
ثالثا: الفاعلون الإقليميون.. لماذا لم يعد الصراع مفيدا؟
قبل عام 2020، كان الإقليم مقسوما بين محورين يتعاملان مع الإخوان كأداة ضغط أو ورقة تفاوض، لكن بعد المصالحات الخليجية، والتطبيع التركي-المصري، واستئناف العلاقات المصرية- القطرية، تغيّر المشهد جذريا.
1. تركيا: إنهاء حقبة التوظيف السياسي للملف: أنقرة أنهت عمليا استخدام ملف الإخوان كأداة سياسية، وسلّمت العديد من القنوات الإعلامية، وأوقفت النشاط السياسي لكثير من الشخصيات.
تركيا اليوم مهتمة: بالاستثمار في شرق المتوسط، وبالتقارب مع الخليج، وبالتبادل الاقتصادي مع القاهرة. وبالتالي، استمرار الصراع المصري-الإخواني لا يخدم الاستراتيجية التركية الجديدة.
2. قطر: من دعم سياسي إلى "احتواء هادئ": قطر أعادت ضبط سياستها الإقليمية، وتركز الآن على الوساطة في ملفات غزة وأفغانستان. ملف الإخوان لم يعد أولوية، ووجوده أصبح هامشيا مقارنة بملفات أكثر حساسية.
3. السعودية والإمارات: أولوية الاستقرار الإقليمي: الرياض وأبو ظبي انتقلتا من سياسة "المواجهة المباشرة" مع جماعات الإسلام السياسي إلى سياسة "الاستقرار أولا"، خصوصا مع النمو الاقتصادي الهائل في الخليج.
مصر المستقرة بلا توترات داخلية تخدم الأمن الإقليمي وتمنع انتقال عدم الاستقرار، والإقليم بكليّته أصبح أقل اهتماما بالصراع الأيديولوجي وأكثر تركيزا على الاستقرار الاقتصادي.
رابعا: المجتمع الدولي.. واقعية ما بعد الربيع العربي
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعتمدان منذ 2021 مقاربة جديدة تجاه المنطقة: تثبيت الاستقرار الإقليمي، وخفض احتمالات التطرف، ودعم الدول الوطنية القوية، وتجنب الفراغات السياسية التي قد تستغلها جماعات عنيفة.
من هذه الرؤية، فإن المصالحة -إذا كانت مشروطة وتتضمن رقابة- تعتبر:
• وسيلة لدمج الأفراد المهمشين في قنوات قانونية؛
• طريقة لمنع أي انحراف نحو التطرف؛
• أداة لدعم الدولة في توسيع شرعيتها واستقرارها.
المجتمع الدولي لا يسعى لعودة الإخوان سياسيا، لكنه يفضّل تسوية منظمة بدل إبقاء جماعة كبيرة في حالة عزل كامل قد تنتج مخاطر مستقبلية.
خامسا: الإطار الذي يمكن للطرفين الالتقاء عنده
لن تكون المصالحة ممكنة إلا إذا تمت صياغتها ضمن إطار تقني-قانوني لا سياسي، يحفظ للدولة سيادتها ويمنح الجماعة مسارا مدنيا قابلا للقياس.
الإطار الأكثر قابلية للنجاح يتضمن 6 ركائز:
1. مصالحة فردية لا جماعية؛ تفرّق بين المواطنة وحقوق الأفراد وبين أي نشاط تنظيمي قد يهدد الدولة. الدولة لن تتعامل مع "جماعة"، بل مع مواطنين وفق شروط قانونية.
2. نظام تدريجي لبناء الثقة؛ مثلا: إجراءات إنسانية محدودة، وقف تدريجي لبعض الملاحقات غير المرتبطة بالعنف، إدماج محدود في المجتمع المدني.
3. رقابة دولية محايدة: يمكن لدولة محايدة (سويسرا، النرويج) أو مؤسسات دولية أن تلعب دور المراقب الفني؛ أو الضامن للتنفيذ، أو الميسر للحوار غير السياسي.
4. فصل صارم بين المدني والتنظيمي: يسمح للأفراد بالعمل المدني أو الاجتماعي، دون عودة الهياكل التنظيمية القديمة.
5. إطار زمني تجريبي من 12-24 شهرا: يرصد النتائج قبل اتخاذ قرار بالاستمرار أو التعديل أو التوقف.
6. ضمانات للدولة بعدم خلق مراكز نفوذ موازية؛ مثل: شفافية مالية كاملة، رقابة أمنية-قانونية، عدم السماح بأي نشاط سياسي جماعي.
هذا الإطار يسمح للدولة بالحفاظ على السيطرة الكاملة، وللأفراد بالحصول على مساحة قانونية للحياة المدنية، وللمجتمع الدولي بتقليل المخاطر.
سادسا: لماذا تمثل اللحظة الراهنة فرصة نادرة؟
تاريخيا، لا تنجح المصالحات خلال فترات الاستقرار، بل في لحظات التحولات الكبرى. ومصر الآن أمام لحظة كهذه بسبب:
1. الحرب في غزة وإعادة تشكيل الأمن الإقليمي: الحرب أعادت تعريف كثير من التحالفات والتهديدات، وأبرزت حاجة القاهرة لإغلاق ساحات الصراع غير الضرورية.
2. الضغوط الاقتصادية: المرحلة المقبلة تتطلب مناخا اجتماعيا مستقرا للغاية، ما يجعل إغلاق الملفات الداخلية ضرورة.
3. إعادة اصطفاف القوى الكبرى: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعيدان صياغة أدوات النفوذ في الشرق الأوسط، مع اعتماد أكبر على الشراكات مع الدول المستقرة.
4. الإنهاك التنظيمي داخل الإخوان: غياب القدرة على العودة، واستمرار الانقسام، وتراجع الموارد، يجعل خيار التسوية هو الخيار الوحيد القابل للحياة.
5. تغيّر دور القوى الإقليمية: تركيا وقطر والسعودية والإمارات جميعها تتبنى سياسات قائمة على الاقتصاد والتكامل، وليس الصراع الأيديولوجي.
وهذه كلها عوامل تصنع نافذة سياسية نادرا ما تتكرر.
سابعا: المصالحة ليست عودة إلى الماضي.. بل انتقال إلى صيغة جديدة
من الأخطاء الشائعة تصور المصالحة كعودة للوراء أو تمكين سياسي للإخوان، لكن القراءة التحليلية تشير إلى أن الشكل المحتمل لهذه المصالحة ليس سياسيا إطلاقا، بل إداريا-قانونيا-إنسانيا.
إنه انتقال من صراع مفتوح إلى معادلة استقرار محكومة، ومن تنظيم سياسي يسعى للنفوذ إلى مجتمع مدني منضبط يخضع للقانون، ومن معادلة صفرية إلى صفقة عقلانية تُحقق مصالح الجميع.
ومثل هذا التحول قد يفتح الباب أمام مصر لتقليل التوتر الداخلي، وتوجيه طاقاتها نحو إعادة البناء الاقتصادي، وتعزيز مكانتها كركيزة استقرار إقليمي.
خاتمة
تبدو المصالحة اليوم، وللمرة الأولى منذ سنوات، مكسبا صافيا لجميع الأطراف:
• للدولة: لأنها تُغلق ملفا استُخدم ضدها سنوات وتتحكم في شروطه بالكامل؛
• وللإخوان: لأنها تمنح الأفراد طريقا للاندماج دون صدام؛
• وللإقليم: لأنها تنهي أحد مصادر التوتر التاريخي؛
• وللمجتمع الدولي: لأنها تقلل احتمالات التطرف وعدم الاستقرار.
إنها ليست مصالحة سياسية، بل هندسة جديدة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، مبنية على الواقعية لا الرومانسية. وفي عالم يتغير بسرعة، قد تكون هذه الصيغة هي الأكثر نضجا وملاءمة لمستقبل مصر واستقرار المنطقة.
المراجع الموثوقة (بالإنجليزية)
(مصادر أكاديمية ومراكز بحثية مع روابط مباشرة يمكن التحقق منها)
- كتب ودراسات أكاديمية
1. Wickham, Carrie. The Muslim Brotherhood: Evolution of an Islamist Movement. Princeton University Press, 2013.
2. Brown, Nathan & Hamzawy, Amr. Between Religion and Politics: The Muslim Brotherhood in the Middle East. Carnegie Endowment, 2010.
3. El-Ghobashy, Mona. “The Metamorphosis of the Egyptian Muslim Brothers.” International Journal of Middle East Studies.
- تقارير مراكز أبحاث
4. International Crisis Group. How to Structure a Productive Political Opening in Egypt, 2017.
5. Carnegie Middle East Center. Future of Islamism in Egypt, 2020.
6. Brookings Institution. Political Reconciliation in Divided Societies, 2018.
7. Chatham House. Reconciliation Models in the MENA Region, 2021.
- مراجع مقارنة في فضّ النزاعات
8. United States Institute of Peace. Best Practices in National Reconciliation Processes, 2019.
9. Swisspeace. Mediation Support and Conflict Transformation, 2020.
10. HD Centre (Geneva). Negotiating with Political-Islam Movements, 2019.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء مصر الاستقرار المصالحة مصر اخوان مصالحة استقرار قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة المصریة ملف الإخوان لأنها ت
إقرأ أيضاً:
سلوت يطالب بـ"المصالحة" مع جماهير ليفربول قبل مواجهة سندرلاند
شدد آرني سلوت، المدير الفني لنادي ليفربول، على ضرورة "المصالحة" مع جماهير الريدز، مؤكداً أن الأداء الأخير للفريق على ملعب "أنفيلد" لم يكن مرضياً، وذلك قبيل مواجهة سندرلاند مساء اليوم الأربعاء ضمن الجولة الـ14 من الدوري الإنجليزي الممتاز.
اعتبر سلوت في تصريحات لموقع النادي الرسمي، أن الانتصار الذي حققه ليفربول على وست هام يونايتد يوم الأحد الماضي، كان بمثابة "خطوة في الاتجاه الصحيح" لإنهاء السلسلة السلبية من الهزائم التي تعرض لها الفريق مؤخراً.
لم يخفِ المدرب الهولندي استياءه من المستويات الأخيرة على أرضهم، مؤكداً على الحاجة إلى تغيير جذري:"لن يحتاج أي شخص يحضر هذه المباراة إلى أن أخبره أن أدائنا الأخير أمام جماهيرنا لم يكن يرقى إلى المستوى المطلوب... من الواضح أن هذا أمر لا نريد تغييره فحسب، بل نحن بحاجة إلى تغييره جذرياً."
وأشار سلوت إلى أن "المستوى" هو الكلمة المفتاحية في المرحلة الحالية، في إشارة إلى المعايير التي وضعها النادي لنفسه والتي لا تضمن النتائج الجيدة دائماً، لكنها تعزز فرصة تحقيقها.
عن فوز الفريق الأخير بهدفين نظيفين على "الهامرز"، أوضح سلوت: كان أداءً ضرورياً: "كان فوز يوم الأحد على وست هام خطوة في الاتجاه الصحيح بعد هذه الفترة الصعبة... الأداء كان المطلوب في ظل هذه الظروف."
و أشاد سلوت بالحفاظ على نظافة الشباك والجهد الكبير الذي بذله اللاعبون طوال المباراة.
و قدم المدرب الهولندي شكره للجماهير التي سافرت إلى لندن، مؤكداً أن دعمهم كان "يحدث فرقاً كبيراً في مثل هذه الأوقات"، خاصة بعد مرور الجميع بـ"اختبار صعب".
كما أشار إلى هتافات التحدي التي سمعها في المدرجات، معتبراً إياها تجسيداً لـ"روح التحدي" التي يحتاجها الفريق للمضي قدماً.
وجه سلوت رسالة إلى اللاعبين مؤكداً فيها على ضرورة عدم الاكتفاء بالانتصار الأخير: "التحدي الآن هو البناء على هذا الفوز. لا يمكننا أن نصدق أننا تجاوزنا مرحلة صعبة... علينا أن نبقى متواضعين وأن نعمل بجد وأن نواصل الكفاح."
واختتم المدرب تصريحاته بالترحيب بمدرب سندرلاند، ريجيس لو بري، ولاعبي "القطط السوداء"، منوهاً بأدائهم الإيجابي في الدوري الممتاز، وخصوصاً بعد فوزهم الأخير على بورنموث مضيفا : "نتوقع منهم أن يصلوا بثقة عالية وعزم على تعزيز سمعتهم... علينا أن نكون مستعدين وأن نظهر رغبتنا في تحسين وضعنا الحالي، إذا تمكنا من تحقيق ذلك فسنرى إلى أين سيقودنا."