الخارجية السودانية واتجاهات بوصلة ما بعد المعارك
تاريخ النشر: 18th, September 2023 GMT
يتمتع السودان بموقع جيوسياسي مميز بين جيرانه في شمال شرق أفريقيا بمساحة مليون و822 ألف كيلومتر مربع، وهو بذلك ثالث الدّول من حيث المساحة في أفريقيا ومن الـ20 دولة الأكبر مساحة في العالم، فهو يمثل موقع القلب لجسد القارة الأفريقية بتمتعه بساحل طويل على امتداد الجانب الغربي من البحر الأحمر يبلغ 853 كيلومترا.
لقد حبا الله السودان بموقعه المميز الذي تمت الإشارة إليه، وقد شحت موارد الأرض الطبيعية وأصبحت مشكلة الغذاء في المستقبل هاجسا يؤرق العالم المعاصر، فإن السودان يتربع في محيطه الأفريقي والعربي بامتلاك أراض زراعية شاسعة تبلغ 200 مليون فدان في القطاعات المروية والمطرية، ولم يتمكن من استغلال ربعها لعدم الاستقرار السياسي ولعدم وجود الإمكانيات المالية والفنية اللازمة.
وتكشف المعلومات الصادرة عن وزارة الري والموارد المائية (مركز الإحصاء والمعلومات) أن للسودان ثروة مائية تقدر بـ433.5 مليار متر مكعب بواقع 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، و10 مليارات من روافده، و400 مليار من مياه الأمطار، و5 مليارات من المياه الجوفية، وتقول المعلومات الرسمية إن مشروع الجزيرة الزراعي يعد أكبر المشاريع في أفريقيا وأكبر مزرعة في العالم بإدارة واحدة، ويقع المشروع وسط السودان بين النيلين الأزرق والأبيض في السهل الطيني الممتد من منطقة سنار إلى جنوب الخرطوم والذي تم إنشاؤه في عام.
وفي واحدة من أهم الميزات العديدة الأخرى، وفق آخر إحصائية لوزارة الثروة الحيوانية في السودان عام 2008، فإن السودان يمتلك 150 مليون رأس من الماشية (أي نحو 4 أضعاف ما تملكه هولندا من الأبقار والأغنام والإبل) تعد من أجود أنواع اللحوم الطبيعية في العالم لاعتمادها على آلاف الأفدنة من المراعي الطبيعية.
إن البلاد تتمتع باحتضانها العديد من المعادن، مما أسال لعاب عديد من الدول في الجوار الإقليمي والدولي، وفي مقدمة هذه المعادن المعدن الأصفر، ويحتل السودان المركز 13 عالميا والثالث أفريقيا في إنتاج الذهب، إذ ينتج نحو 80 طنا سنويا في حين تقدر الاحتياطات غير المستغلة بنحو 1550 طنا، وحسب إحصاءات وزارة المالية والاقتصاد الوطني، فإن الذهب يمثل نصف صادرات السودان، فبلغت عائدات التصدير في النصف الأول من العام 2022 نحو 1.3 مليار دولار، وحسب المعلومات، فإن نسبة الذهب المهرب تبلغ نحو 80% من الإنتاج.
فضلا عن معادن أخرى عديدة تحتضنها أرض السودان، فالذهب الأسود (النفط) يوجد بكميات واحتياطات مقدرة في عديد من المربعات النفطية المنتشرة في كافة مناطق البلاد ويبلغ احتياطي السودان من النفط المؤكد 6.8 مليارات برميل (2010) أي قبل انفصال جنوب السودان، وهو بهذا يحتل الرقم 20 في العالم، ويمتلك السودان احتياطات مؤكدة من النفط تبلغ 1.5 مليار برميل بنهاية 2020، من دون تغيير منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، وذلك وفقا لبيانات شركة “بي بي” البريطانية.
ومن الواقع السوداني المشهود والمرير، فإن القوى السياسية السودانية لم تحفل بما يمتلكه السودان من مقومات ضخمة تؤهله للنهوض التنموي والاقتصادي، لكن تلك القوي على مختلف مشاربها وتوجهاتها ظلت في عراك وتجاذب واستقطاب سياسي حاد وسالب منذ الاستقلال والفكاك من الاستعمار البريطاني للسودان (1899-1956).
لقد وفرت الحرب العظة والاعتبار لمن يعتبر، إن الدرس الذي توفر ينبغي أن يتمثل في الاستعداد لبناء دولة المؤسسات والقانون والتخلي عن الاستقطابات السياسية غير المجدية والابتعاد عن الارتباطات الخارجية التي لا تعير أدنى اهتمام للسودان وأهله فهي تريد “ذهب المعز وسيفه”.
ولا بد من صياغة الضوابط التي تجرم الأحزاب والجماعات والكيانات الأشخاص الذين يرتبطون بأي تحالفات أو علاقات مشبوهة أو كانت سببا في قيام الحرب فعلا أو تصريحا أو تلميحا.
لقد فتح الواقع السياسي السوداني المعقد الباب واسعا أمام الافتكاك من ارتهان التوازنات الداخلية بين شركاء الحكم في السودان لتوجهات القوى الخارجية الكبرى، والتي قد تشهد تغيرات جوهرية في المستقبل استجابة لمتغيرات داخلية أو إقليمية أو دولية متعددة ويحتاج السودان لبناء علاقات راسخة عنوانها الاحترام المتبادل للمنافع السياسية والاقتصادية والتجارية.
إن بعض السودانيين يتمزق ألما لحال وضعنا في تعاطي الدولة مع البعثات الدبلوماسية المقيمة في الخرطوم، وقد أطلقت العنان لتحركاتها وأنشطتها داخل بلادنا بلا حسيب أو رقيب، خاصة في الفترة التي أعقبت التغيير منذ أبريل/نسيان 2019، بل إن بعض السفراء تجاوزت فترة تمثيلهم بالبلاد 12 عاما، ولعل السودان سمح فقط لتمديد فترة بقاء السفير لأطول فترة ممكنة لسفراء محددين كان نشاطهم وتمثيلهم إيجابيا أو أن لبلادهم علاقات راسخة مع السودان كالسفير الكويتي عميد السلك الدبلوماسي العربي بالخرطوم الراحل السفير عبد الله السريع، الذي عمل دبلوماسيا لبلاده في السودان متنقلا بين الخرطوم وجوبا بين عامي (1974-1990) والذي يحفظ له ولبلاده الكويت تنفيذ عديد من المشروعات التنموية الإستراتيجية بالسودان أو السفير الفلسطيني أبو رجائي الذي امتدت فترة عمله إلى 21 عاما بالسودان (1985-2006)، وذلك للمكانة الخاصة للقضية الفلسطينية في نفوس أهل السودان، وكان ذلك مفهوما ومقبولا.
وعهدنا بالدبلوماسية السودانية أنها طردت دبلوماسيين من قبل تجاوزوا النظم الدبلوماسية المرعية، كالسفير البريطاني الأسبق بالخرطوم ألن قولتي عام 1999، وكانت الحكومة السودانية قد طردت من قبل عام 2007 كلا من ممثل المفوضية الأوروبية بالخرطوم السويدي كينت ديغرفيلت والقائمة بالأعمال الكندية نوالا لولور، بحجة تدخلهما في الشؤون الداخلية للبلاد، وغيرهم من الدبلوماسيين، كما أنها وبخت السفيرة البريطانية المغادرة للسودان روزاليند مارسدن عام 2010، وأنها استدعت ولفتت نظر عديد منهم ووبخت وأنذرت آخرين.
وأنا أكتب في هذا المقال عن الحال الذي آلت إليه السياسة الخارجية السودانية، استدعت ذاكرتي قصيدة رمزية للشاعر السوري عمر أبو ريشه تشابه أو تماثل حال السياسية الخارجية السودانية، وعنوان القصيدة “العقاب الهرم” التي يقول أبو ريشه في بعض أبياتها:
أصبح السفحُ ملعبا للنسور.. فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري
إن للجرح صيحة فابعثيها.. في سماع الدنا فحيح سعير
واطرحي الكبرياء شلوا مدمى.. تحت أقدام دهرك السكير
إنه لم يعد يُكحلُ جفنَ النجم.. تيها بريشه المنثور
هجر الوكر ذاهلا وعلى عينيه.. شيء من الوداع الأخير
هبط السفح طاويا من جناحيه.. على كل مطمح مقبور
لا تطيري جوابة السفح فالنسرُ.. إذا ما خبرته لم تطيري
فهل أضحى حال دبلوماسيتنا كحال العقاب الهرم كما صورها عمر أبو ريشه؟ والسؤال هنا لم غابت هذه الروح وهذا الحق عن الدبلوماسية السودانية؟ وهل خف وزن البلاد السياسي نتيجة للواقع السياسي والأمني المضطرب بالبلاد؟ وهل أن الخارجية السودانية لا تستطيع استدعاء سفراء بعض الدول أو تطلب منهم مغادرة البلاد؟ وما النتائج المترتبة على استباحة السفارات الأجنبية البلاد بطولها وعرضها، ومن يتحمل المسؤولية في كل ذلك؟
وهل من الممكن أن تضع الخارجية السودانية حدا لما يحصل وتعيد للبلاد حقها ووزنها ومكانتها الدبلوماسية التاريخية المرموقة على الساحتين الإقليمية والدولية والتي بناها على مدي سنوات دبلوماسيون وسفراء سودانيون سابقون حفروا عميقا أسماءهم في الذاكرة الوطنية والدولية.
مامون عثمان – الجزيرة نت
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الخارجیة السودانیة فی العالم
إقرأ أيضاً:
من اليمن إلى السودان.. كيف تغذي الإمارات نار تفتيت العالم العربي؟
ترجمة وتحرير “يمن مونيتور”
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسية/ جان-بيير فيليو، أكاديمي في معهد العلوم السياسية بباريس.
تتميز “إسبرطة الشرق الأوسط”، كما وُصفت الإمارات، منذ أكثر من عقد بسياسة خارجية عسكرية للغاية وعدوانية بشكل خاص. تحمل هذه الاستراتيجية بصمات محمد بن زايد، الرئيس الحالي لاتحاد الإمارات، وتحركها عداء مهووس تجاه “الربيع العربي”، تلك الموجة من الاحتجاجات الشعبية التي هزت الديكتاتوريات في المنطقة عام 2011.
قد تكمن قوة هذه الاستراتيجية في اتساقها الثوري المضاد، إلا أنها تقود الإمارات في العديد من الساحات إلى دعم حركات انفصالية، مما يزيد من تفتيت الدول المعنية بدلاً من ضمان شكل من أشكال الترميم السلطوي فيها.
المختبر الليبي
بعد الحرب الأهلية التي أدت في ليبيا إلى الإطاحة بالعقيد القذافي في سبتمبر 2011، قررت الإمارات العربية المتحدة المراهنة على اللواء حفتر، الذي كان محافظًا لطبرق في عهد معمر القذافي من عام 1981 إلى عام 1986، قبل أن ينشق إلى الولايات المتحدة. لم تشجع أبوظبي خليفة حفتر على إشعال حرب أهلية ثانية في مايو/آيار 2014 فحسب، بل شاركت طائرات إماراتية في قصف طرابلس بعد ثلاثة أشهر. ومع ذلك، لم يتمكن أنصار خليفة حفتر من الاستيلاء على العاصمة، مما أدى إلى تقسيم البلاد بين حكومتين، إحداهما معترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس، والأخرى يسيطر عليها خليفة حفتر في بنغازي. وعلى الرغم من حظر الأمم المتحدة لتوريد الأسلحة، استفاد خليفة حفتر من تدفق مستمر للأسلحة الإماراتية، بما في ذلك طائرات هليكوبتر من أصل بيلاروسي.
ورفضًا لأي تقاسم للسلطة في ليبيا موحدة، دفعت الإمارات خليفة حفتر إلى شن حرب أهلية ثالثة في أبريل/نيسان 2019، لم تسفر إلا عن دفع حكومة طرابلس إلى أحضان تركيا، دون إنهاء الاستقطاب بين غرب وشرق ليبيا. أقر الشيخ محمد بن زايد بهذا الفشل الذريع ويستخدم الآن بنغازي ومنطقتها كمختبر لتعاونه العسكري مع روسيا، التي يدعم غزوها لأوكرانيا بشكل سري أو علني. تعزز هذا البعد الروسي منذ سقوط الديكتاتور الأسد في دمشق في ديسمبر/كانون الأول 2024، وانسحاب المنشآت الروسية التي كانت موجودة على الساحل السوري إلى معقل خليفة حفتر. في هذا الصدد يحمل إنشاء قاعدة معتن السرة الجوية في جنوب ليبيا عواقب وخيمة.
الانفصال الجنوبي في اليمن
على عكس ليبيا، تدخلت الإمارات في اليمن في مارس/آذار 2015، إلى جانب المملكة العربية السعودية، لدعم الحكومة المعترف بها دوليًا. كان الهدف هو احتواء ثم دحر الحوثيين الموالين لإيران، الذين كانوا على وشك الاستيلاء على البلاد بأكملها. تمكنت القوات الإماراتية، المنتشرة على الأرض، في غضون أشهر قليلة من تحرير عدن، التي كانت عاصمة اليمن الجنوبي من عام 1967 إلى عام 1990، قبل توحيد البلاد. قرر محمد بن زايد آنذاك المراهنة على الانفصاليين الجنوبيين، بدلاً من الموالين للحكومة، الذين اعتبرهم مرتبطين بشكل وثيق بالإسلاميين. نتج عن ذلك توترات قوية مع الحليف السعودي، لكن الإمارات فرضت خطها بسبب وجودها قوتها على الأرض.
هذه الانقسامات خدمت بطبيعة الحال الحوثيين، الذين عززوا منذ صنعاء قبضتهم على بقية البلاد. أدركت الإمارات هذا الفشل الجديد وسحبت قواتها من اليمن في فبراير /شباط 2020. ومع ذلك، استمرت في دعم الميليشيات الانفصالية في هجومها في صيف 2022 ضد المعسكر الحكومي. كما شجعت، على ساحل البحر الأحمر، في منطق خالص للثورة المضادة قوات طارق صالح، نجل الديكتاتور اليمني السابق علي عبد الله صالح، الذي تحالف مع الحوثيين قبل أن يقتلوه في عام 2017. وعلى الرغم من اتفاق الإمارات والسعودية على جلوس وكلائهما في المجلس الرئاسي القيادي، إلا أن الأمر لا يعدو كونه تجميعًا لإقطاعيات غير قادرة على تقديم بديل جدي للحوثيين.
مع ميليشيات الإبادة الجماعية في دارفور
جندت الإمارات العربية المتحدة في السودان- لتعبئتهم في اليمن- مرتزقة من قوات الدعم السريع، التي نشأت بدورها من الميليشيات المتورطة، منذ عام 2003، في الإبادة الجماعية في دارفور. قام قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حميدتي”، بتطوير عمليات تهريب مختلفة، خاصة الذهب، بين معقله في غرب السودان وسوق دبي الإماراتي. تعززت العلاقات بين محمد بن زايد وحميدتي لصالح الانقلاب الذي نفذه قائد قوات الدعم السريع وقائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان، في أكتوبر/تشرين الأول 2021 في الخرطوم. اتفقت الإمارات ومصر والسعودية على دعم الانقلابيين وإغلاق فترة ديمقراطية استمرت أكثر من عامين في السودان بوحشية.
انهار هذا التحالف الثوري المضاد في أبريل/نيسان 2023 عندما اشتبكت القوات الموالية للفريق أول البرهان و”حميدتي” في الخرطوم، ثم في بقية البلاد. استمرت الإمارات في تقديم دعم غير مشروط لـ “حميدتي”، بينما وقفت مصر إلى جانب الفريق أول البرهان وحاولت السعودية عبثًا التوفيق بين الانقلابيين. كما هو الحال في ليبيا، اتُهمت أبوظبي بانتهاك الحظر الدولي على توريد الأسلحة، حيث أكدت بلغاريا مؤخرًا أنها سلمت للإمارات آلاف القذائف التي عُثر عليها في أيدي قوات الدعم السريع. علاوة على ذلك، شجعت الإمارات “حميدتي” على إعلان حكومة منافسة لحكومة الفريق أول البرهان في أبريل/نيسان، مما يهدد السودان بالتقسيم، بينما تستمر المجازر التي ترتكبها قوات الدعم السريع وحلفاؤها في دارفور.
وهكذا، تبلغ المأساة السودانية ذروة الكارثة التي تمثلها استراتيجية الإمارات الانفصالية من حيث المعاناة الجماعية للسكان المتضررين وتفكك النظام الإقليمي.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق أخبار محليةالمتحاربة عفوًا...
من جهته، يُحمِّل الصحفي بلال المريري أطراف الحرب مسؤولية است...
It is so. It cannot be otherwise....
It is so. It cannot be otherwise....
سلام عليكم ورحمة الله وبركاتة...